قراءة في قصيدة الشاعر كاظم اللايذ: (عن الخيانة …. مرة أخرى).
(نشر الشاعر هذه القصيدة على صفحته في الفيس بوك يوم 14/ أغسطس/2020).
التعبير داخل النص الشعري يمنح الألفاظ روح الشعر ويحولها من وحدات لغوية تحمل دلالتها الوظيفية المحدودة وهي خارج الشعر إلى وحدات فاعلة في تشكيل السياق الشعري تحمل طاقتها التعبيرية داخله، وهذا لا يتحقق للفظة من مجرد انخراطها في الجمل داخل القصيدة، بل الأمر مرهون بالشاعر وقدرته على بث هذه الروح في لغته لتحتاز على شعريتها، وهذا أيضا لا يتحقق للشاعر من خلال الأفكار التي يطرحها فالأفكار مطروحة في الطريق معروفة كما يرى الجاحظ بل يتحقق ذلك من التعبير وطريقته التي تجعل الألفاظ في سياق شعري وكأنها تحيلنا أو تنبهنا للمعنى الذي تحمله لأول مرة، فالشاعر هو مبدع الكلمات ومخترعها لا صانع أفكار بحسب بما يرى جان كوهين.
وإبداع الكلمات لتشكيل سياق شعري لا يعني بالضرورة في القصيدة الحديثة أن الشاعر يتوسل بفنون بلاغية فيؤسس لغته تأسيسا قائما على الاستعارة والمجاز والانزياحات التعبيرية، ولا يعول بالضرورة أيضا على ما اعتادته القصيدة العربية في تشكيلها من عناصر مألوفة، وهذا في الحقيقة يجعل مهمة الشاعر مضاعفة الصعوبة محفوفة بالمخاطر من الوقوع في النثرية الفجة وضياع وهج العبير الشعري لديه. ولكن الشاعر الحاذق المتمكن من أداوته الشعرية هو الذي يجتاز هذه الصعوبة بنجاح.
والشاعر البصري كاظم اللايذ واحد من الشعراء الذين خبروا مغامرة القول الشعري الحديث ودقة حساسية تعبيره، فهو لم يعول في قصيدته هذه ـــــ كما هو الحال في كثير غيرها ــــــ على عناصر التشكيل الشعري المعتادة من ايقاع عروضي أو تشكيل قافوي ما أو يعتمد الانزياح البلاغي أو يوظف الرموز أو غير ذلك ليؤثث لغتها، بل خاض مغامرة اللغة المعتادة والعبارة اليومية المألوفة فانطلق منها في تشكيل قصيدته، والحقيقة أن لغة قصيدته هذه بمفرداتها وتعابيرها المتداولة هي فضاء تعبيري لا يحتاج إلى شارح لنفهم القول الذي تطرحه لأننا نتلقى كلمات وجملا لا تكد تفكيرنا فهي مألوفة لدينا ومما نتداول تعابيره في أحاديثنا؛ ولكن هل يعني هذا أن لغة القصيدة هي لغة وظيفية تؤدي المعنى ذاته فيما لو كانت خارج القصيدة؟، بالطبع لا..، لأن الشاعر كاظم اللايذ وإن أبقى هذه المفردات والجمل محتفظة بطابعها المألوف ولم يغلفها بإحالات انزياحية، فإنه شحنها بطاقة من الدلالة المكثفة لمعناها الذي تحمله داخل السياق الشعري فهذه المفردات والتعابير تحيل المتلقي إلى دلالات يعرفها هو وتوقظ وهج معانيها في ذهنه وبذا يعيد المتلقي تشكيل صورها حية وكأنه يراها لأول مرة ومن ثم يتحقق في ذهنه معناها الكلي بجوه الدلالي والشعوري والإيحائي الذي أراده الشاعر. وهذا ما نجده في كل مقاطع القصيدة الخمسة التي تفصل بين كل مقطع وآخر منها نجوم خمس. والعنوان أيضا يخضع هو الآخر إلى تلك التقنية (عن الخيانة …. مرة أخرى). فلفظ الخيانة جاء معرفا بأل العهدية مجرورا بحرف الجر (عن) والشاعر هنا يوقظ دلالة هذا اللفظ المعهودة في اذهاننا وقد ترك لنا فسحة لتذكرهها أو استعادتها متمثلة بأربع نقط لتتلوها عبارة: “مرة أخرى” فهو يعني عودة تلك الخيانة وهي خيانة فلسطين العربية التي تمثلت بمعاهدة السلام بين السادات والصهاينة فها هي تتكرر اليوم مرة أخرى بالاسم نفسه والخيانة نفسها لكن الخائن هذه المرة هو حاكم الامارات.
إذن جاء العنوان بتعبير سهل مألوف ولكنه مشحون بطاقته الإحالية التي توقظ فينا تلك الصدمة والخيبة التي عاشها العربي في وقتها، فالعنوان بشعريته هذه يستدعي اثارة هذه الصدمة في نفوسنا ويجددها مرة ـخرى. وشعرية العنوان هنا لم تتأت من تكثيف رمزي أو انزياح اسلوبي أو غير ذلك بل بقي في صياغة تقريرية مألوفة لكنها شحنت بفاعلية إحالية محفزة.
وهذه التقنية التي تطوِّع اللغة اليومية للدخول إلى ساحة الشعر يتبعها كاظم اللايذ في كل قصيدته، فيجعل من ألفاظها وعباراتها ذات قيمة تعبيرية أكبر من قيمتها خارج القصيدة ومن ثم تكون دلالة التعبير أرحب وأوسع لتستوعب رؤية الشاعر وتجربته وتثير المتلقي الذي يلج هذا الفضاء التعبيري الشعري فيتفاعل مع القصيدة شعوريا وفكريا.
فعندما نقرأ في المقطع الأول: (( خليجيات، من ( أبوظبي)/ يتمشين في شارع راشد آل مكتوم/ الرياح تعبث بضفائرهن العربية السود…/ والعطر الفاغم الفواح/ يلاحق خطواتهن أينما ذهبن)) نجد أن اهذه الأسطر بمفرداتها وعباراتها تحيلنا إلى دلالات أوسع مما لو كانت خارج القصيدة وهي دلالات يقصدها الشاعر لتحيلنا إلى فضاء تعبيري آخر نشترك نحن بإعادة تشكيله لا تفصح عنه العبارة ولا الكلمة بشكل مباشر، فكل سطر يحيلنا إلى دلالته الخاصة وهي الدلالة التي تشكل صورة النساء العربيات النموذج في جمالهن وعروبتهن واصالتهن وشموخهن، وبعد أن تتحقق هذه الصورة المثال الجميلة المحببة إلى نفوسنا، يتحول الشاعر لتقديم موقفه الشعري من خلالها فيقول: ((حتى إذا وصلن إلى قصر الحكومة في (الحصن)/ رفعن رؤوسهن جميعا/ وبصقن على الخائن)) نعم إنها الخيانة الموقف الخسيس الذي يرفضه كل حر واع اصيل. والتعبير الشعري في هذه الأسطر يقوم على تشكيل مشهدي متوال متصاعد باتجاه النهاية المحددة التي يريدها الشاعر ليبلغ عندها رؤيته الشعرية بتعبير مفارق وهو تشكيل يجعلنا في حالة ترقب وانتظار لما سيصدر من تلك النسوة الأصيلات فاقترابهن من القصر ورفعهن رؤوسهن قد يثير توقعنا بإعجابهن به وأمنياتهن في دخوله ونيل مكانة فيه لكن الشاعر يفاجئنا بما لم نتوقعه فتدهشنا المفارقة وتثير إعجابنا وتأييدنا، واعتزازنا بهذا الموقف الذي ننتمي إليه فنحن نتماهى مع رفضهن هذا ونبصق معهن على الخائن بلا تردد.
إن كاظم اللايذ يؤثث المشهد الشعري بعناصر مكانية وحركية وحسية ونفسية وشعورية تتكثف فاعليتها لتؤدي الموقف الشعري الذي يستدعي استجابتنا الانفعالية ويثيرها، وكل هذا التشكيل الشعري يأتي بلغة سهلة مألوفة دون أن تخل هذه السهولة بشعريته أو تضر باستجابتنا الشعورية، وللمفارقة التي تثيرنا دور مهم في بث الطاقة الشعرية في التعبير هنا.
وفي المقطع التالي من القصيدة يعيد كاظم اللايذ فكرة رفض الخيانة بمشهد مفارق تماما للمشهد السابق، مغرق في الدونية، فإذا كان بطل المقطع الأول النساء الأصيلات فإن بطل هذا المقطع هو كلب سائب. .. وهنا يوظف الشاعر اللقطة الشعرية والتعبير المألوف بزخم شعري تعبيري مفعم ببساطة التشكيل إذ يعتمد اللقطات المشهدية الوصفية المتوالية في تشكيل حركي يمثل بناء مشهديا متكاملا يقدم الشاعر من خلاله رؤيته الشعرية أو موقفه الشعري، ونلاحظ هنا الدور المهم الذي تضطلع به اللفظة المألوفة وخاصة حضور الصيغة الفعلية (الفعل المضارع) في بث طاقة التعبير الحركي في تلك اللقطات فيتحول المعنى فيها إلى صور محسوسة مرئية يتفاعل معها المتلقي ويَعْبُر من خلالها إلى ما يريد الشاعر قوله أو يشاركه في رؤيته مؤيدا لوجهة نظره ومتفقا معه، والذي يمكن قوله هنا أن كاظم اللايذ بمهارة شعرية يستدعي المتلقي إلى جو قصيدته ويسحره بإعادة تمثلها وتتبع لقطاتها فالمتلقي يعاين عرض مشاهد متتابعة فيضمن الشاعر موقفه المؤيد المتفق، ولذا تراه يفصح عن موقفه الشعري هذا بتصريح مفارق لافت في ختام المشهد:
((كلبٌ سائبٌ / يهرولُ في الشارع / يتفرسُ بإمعانٍ في البيوت / لعله يبحثُ عن بيتٍ بعينهِ / فلما وصل الى قصر الوزير: قرقاش / رفعَ قدمهُ الخلفيةَ وبالَ على الحائط …/ الكلبُ يعرفُ طريقَه الى مهندس الخيانة.))
ولا يقف كاظم اللايذ في تشكيل قصيدته على أسلوب اللقطة التصويرية في تشكيل المشهد بل يتجاوزه إلى تقنية تقديم الشخصية والحوار ليؤثث الشاعر قصيدته بمحمول إحاليّ آخر ينفتح على دلالات مهمة تخص الشخصية وحركتها داخل المشهد وهذه الإحالات تسهم في تشكيل الرؤية الشعرية للقصيدة، وهو في ذلك لا يتخلى عن لغته المألوفة بألفاظها المعتادة وهي تحمل في سياقها الشعري كثافة دلالية ونفسية تغني التعبير وتثري مشهدية المقطع، وهذه الألفاظ والعبارات لا تخلو من بعد تعبيري يحيل اللغة المألوفة إلى لغة شعرية تحقق القصيدة من خلالها كونَها الشعري الذي يقدم موقف الشاعر ورؤيته، ففي المقطع الثالث نجد ألفاظاً وعبارات يقدم الشاعر بها شخصية الرجل الذي صحب آباء الشيخ الخائن ليحيلنا من خلالها الى تاريخهم المتواضع الذي لا يمت بصلة إلى الملك وتدبير السياسة فهم مجرد مشيخة عشائرية طبعتهم تفاصيل حياة البداوة والصيد بطوابعها الصعبة القاسية (أيام الكد والغوص، ومطاردة الغزلان في البراري..)، وقد امتد تأثيرها على أسمائهم أيضا(من آل شخبوط) وكأن الشاعر يوقظ في أذهاننا ما يتوارى خلف هذا الاسم من دلالة جهل القراءة والكتابة أبسط مقومات المعرفة،((رجلٌ طاعنٌ في السنوات / عاصرَ الشيخ زايد وآباءَه من آل شخبوط / وعاش معهم أيام الكدّ والغوص / وصيد اللؤلؤ / ومطاردة الغزلان مع الصقور في البراري)).
ويمكن القول إن الشاعر تقصد هذه التفاصيل بإيرادها في القصيدة إمعانا في تقديم صورة واقعهم الحقيقية من جهة، ومن جهة أخرى مهمة هي إثراء لغته بطاقة إحالية يقتضيها المشهد الشعري، وهي جزئية مهمة يتأسس عليها الموقف الرؤيوي للمقطع داخل القصيدة فهذا الرجل الطاعن مثَّـل صوت العشيرة الحي بعفويته وانتمائه وصدق انفعاله، إذ يدخل على ولي العهد الخائن (غاضبا، ومن غير استئذان) لصيح به في تساؤل استنكاري أنه لم يعد أهلا لحمل الأمانة، لأن الخيانة أسقطت صاحبها في الدرك الأسفل ولم يعد أهلا لحفظ ناموس العشيرة وشرفها.
((دخلَ على ولي العهد غاضباً/ ومن غير استئذان/صاحَ به : يا محفوظ/ كيف نستأمنُك على أعراضنا بعد هذا اليوم ؟!)).
إن التعبير الذي يختم به كاظم اللايذ هذا المقطع الشعري يكشف قدرته على ابداع لغة المفارقة وإقامة التناقض في تحول السياق التعبيري للمقطع من وصف الرجل الطاعن في السن بانه رجل تابع لآل شخبوط مشارك لهم في كل تفاصيل حياتهم، إلى رجل منتفض رافض لفعلة ولي العهد محتفظا بقيمة المبدأ حرصا على الشرف وهو الموقف المفارق الذي يفضح خسة موقف الخيانة ويسلب صاحبها أهم مقومات المسؤولية واعلاها. وهنا بإقامة الحد الفاصل بين هذين الموقفين يشدنا المشهد إلى موقف الرجل الطاعن في السن، وهو عينه الموقف الشعري الذي يريد الشاعر إبلاغه إلينا ليدهشنا ويحرز قناعتنا به وتأييدنا له.
ويستمر كاظم اللايذ في تشكيل مقاطع قصيدته بسرد موجز وبلغة مألوفة يتوارى خلفها أفق تعبيري شعري كما أسلفت، وهو في ذلك كله يبقى يتخذ شكل المراقب الذي يرصد لنا بدقة ما يشاء أن يرصده ويختاره بقصد شعري عال نابع من تجربته الشعرية هذه، وبالرغم من تنوع الزوايا التي يرصدها كاظم اللايذ في مقاطع قصيدته إلا إنها في كل مرة تقدم الثيمة المركزية للقصيدة (موضوعة الخيانة) بوهج متجدد وبتعبير مفارق مدهش ينفتح على دلالات وإحالات متنوعة ومهمة يريد كاظم اللايذ من قارئه أن يصل إليها بطريق الإدراك الشعري وليس بما تعنيه ألفاظه المألوفة وكأنها خارج القصيدة.
وفي إطار تقديم الثيمة المركزية للقصيدة من زوايا متنوعة يتحول كاظم اللايذ إلى رصدها عبر تقديم شخصيتي ولي العهد وأبيه بسرد موجز في المقطع التالي الذي يمثل تحولا في رصد الشاعر للجو النفسي الذي يعانيه ولي العهد بعد أن أيقظت فيه صيحة الرجل الطاعن في السن فداحة عمله وخسته وخسرانه، ((ذهب ولي العهد الى نومه مخموراً / منفوخ العينين/ ثمة ما يعذبه منذ هذا اليوم/جاءه أبوه في المنام /متجهماً غاضباً / يتساقط الزبدُ من شدقيهِ /وصرخ به : لماذا فعلتها أيها النذل ؟ …./ أ خيانةٌ من غير ثمن !/ …../ بعد ان استيقظ / صار يردد مع نفسه :/ نعم . خيانةٌ من غير ثمن !)).
في هذا المقطع يكثف كاظم اللايذ حضور الصيغة الفعلية ليستثمر طاقتها التعبيرية الحركية في تشكيل هذه الصور الجزئية وما يحتدم خلفها من جو نفسي مهيمن وموجه للمشهد كله، ليرصد لنا الشاعر من خلاله حالة الانكسار النفسي وإدراك حجم الخيبة التي بلغها ولي العهد بسبب خيانته المفلسة، فإذا كان أبوه يشترط للخيانة ثمنا فابنه باء بخسرانه فظل خائبا مذهولا.
والمفارقة الخفية التي يرصدها الشاعر هنا هي موقف الأب وسبب رفضه الخيانة لمجرد أنها من غير ثمن، وهو موقف مخالف تماما لسبب رفض ذاك الرجل الطاعن في السن الذي أنكر على ولي العهد خيانته حرصا على العرض والشرف. وهنا يضع كاظم اللايذ هذا الحاكم وابنه في دائرة الخيانة والذل ليبقي لنا صورة الشعب ناصعة رافضة لفعل الخيانة .. وهذا هو الموقف الشعري الذي يريد كاظم اللايذ أن نلتفت إليه، معنى هذا أن لغة الشاعر هذه المألوفة بتعابيرها وصياغاتها حملت لغة أخرى وأحالت إلى دلالة تجاوزت المعنى المباشر الذي تحمله الكلمات وهنا حققت هذه اللغة شعريتها بالوصف والسرد والحكاية من دون حاجة الى انزياحات بلاغية لغوية في التعبير.
ويمكن القول إن كاظم اللايذ برصده الشعري هذا لم يكن خارج قصيدته فمتابعته للمواقف والأحداث وتسليطه الضوء على زواياها المتعددة لا ينحي ذاته الشعرية عنها بل نجد هذه الذات تطل علينا مواربة من عمق القصيدة متمثلة بالموقف الشعري أو الرؤية الشعرية التي تستدعينا لأن نتماهى نحن معها ونتخذها بدورنا موقفا نؤيده ونتبناه.
فالذات الشعرية هي وراء حركة المشهد وصياغة التعابير وتشكيل الصور وتوظيفها بنجاح وفاعلية لتكون وسائل نابعة من مقتضيات التعبير عن التجربة الشعرية واحتوائها.
وبعد ان ينتهي الشاعر في المقطع السابق من رصد حالة ولي العهد بعد أن أدرك خيبته وهوانه وهي حقيقة لا مراء فيها، يتحول في المقطع الأخير إلى تقديم رؤى متعددة تمثل وجهات نظر جمعية رفضت الخيانة وعارضتها، والشاعر يرصدها أيضا بذات اللغة المألوفة ولكنه يعتمد تقنية اللقطة الشعرية في نقلها: ((سحابة سوداء تطير على سواحل الخليج/ داكنةٌ لم يألف سحنتَها أحدٌ/ تُبدل هيأتَها في كل ساعة ../ …../ قيل : هي أرواح أهل الخليج القدماء/ تندب نذالة الأبناء ./ وقيل : هي القدس/ تطوف على حواضر العرب/ تستغيث فلا تُغاث ./وقيل : هي روح/معلم الخيانةِ الأول: أنور السادات تطوف ملعونة ً/ في الآفاق /وتكنسها الرياح من مكان الى مكان./ وقال آخر : بل هو ولي العهد/ مسخهُ الله خفاشاً/ وها هم زبانية النار من حولهِ/ يحملونه الى مخدعهِ ,/ في دركات الجحيم .)).
تحمل لقطة السحابة (السوداء، الداكنة التي لم يألف سحنتها أحد، وهي تبدل هياتها في كل ساعة) رمزية الهم والحزن والترقب والخوف الذي تملكت أهل الخليج من هذه (الخيانة) التي ما اعتادوا عليها، وهي لقطة تنفتح على لقطات متنوعة بحسب تلون السحابة وقد وظف الشاعر هذا التلون ليمثل وجهات نظر جمعية أو مواقف رافضة للخيانة عبر تصورها الذي يزجي الشاعر كاظم اللايذ من خلاله صوت الشعب الجمعي الرافض للخيانة المتعاطف مع القضية الفلسطينية.
وهنا لا يريد الشاعر أن يكتفي بطرح رؤيته هو فقط بل يقدم رؤى جمعية أخرى تحمل الثيمة المركزية للقصيدة (رفض الخيانة) ليكوَن مواقف متنوعة رافضة تتماهى مع الثيمة المركزية لقصيدة وتغنيها، ولكنه أخر رؤيته الخاصة به ليمنحها أهمية أكثر وحضورا أكبر وهي تتوجه مختصة بولي العهد الخائن دون غيره في ختام القصيدة لتكون هي الأرجح، ولتثبت لنا النهاية الحقيقة التي سيصل إليها الخائن، وهنا يعلن كاظم اللايذ انتماءه للموقف الجمعي للشعب العربي الرافض للتطبيع مع الكيان الصهيوني.
ومن خلال أسلوبه في هذا السرد الموجز يحفز كاظم اللايذ فينا فضول المتابعة والاشتراك في تبني هذا الموقف الشعري وتأييده، فهو لم يسحرنا بجمال استعارة أو أي طاقة أخرى مجازية للكلام، بل شدنا بأسلوبه الشعري ولغته المألوفة وتشكيل لقطاته وصوره التي تشربت روح الشعر من خلال التحام التعبير والدلالة الإحالية التي ينفتح عليها الكلام في الأسطر الشعرية وفي مقاطع القصيدة والتحام ذلك كله بالرؤية الشعرية وتقديمها بشكل فاعل ومؤثر يستدعي تفاعل المتلقي وانخراطه في جو تجربة القصيدة وتفاعله معها.
ومن الأهمية بمكان القول هنا إن كاظم اللايذ استطاع أن يمزج النثري بالشعري فهو يعي تمام الوعي بما يمكن أن تفيض به قصيدة النثر من إمكانات شعرية قادرة على تمثل التجربة الشعرية ، واحتوائها والتعبير عنها بانتخاب أساليب تعبيرية متنوعة سواء كانت ذات اللغة النثرية المباشرة أو بتقنيات الفنون النثرية الأخرى كالسرد والوصف أو اللقطة وتشكيل المشهد ومنح وسائل التعبير هذه طاقة شعرية في التعبير من خلال البعد الإحالي والمفارقة والرصد واستثمار الطاقة الحركية للصياغة التعبيرية وتقديم الرؤية الشعرية تقديما حيا مؤثرا. وهنا تبلغ القصيدة حدا يمتزج فيه الشعري بالنثري. فتكتسب القصيدة شعريتها وقدرتها على التعبير والتأثير ويكون للتلقي الأثر الأكبر في كشف وهج التعبير الشعري في هذا النثري الذي تحرر من نثريته وتشرب روح الشعر.
د. علي عبد رمضان / جامعة البصرة.