“ودعوت الجلادين کي أقضم، ساعة فنائي، خشب بنادقهم، ودعوت البلايا کي تكتم أنفاسي بالرمل والدم”
(موسم في الجحيم/ آرثر رامبو)
آرثر رامبو صاحب وجه متعدد الأشكال يتحدى التحليل:
بغض النظر عن كون آرثر رامبو شاعرا طليعيا، الا ان حياته توصف تارة بالنيزكية و أخری بالنجومية: اذ انه کان في تنقل مستمر بين أدوار متفاوفة، بدءا من مراهق هارب الی مستكشف حبشي و مدير سيرك، ثم رأسمالي مغامر، ثم مقاتل من أجل الحرية الفلسفية وساحر معرفي وملاح بأسم مستعار، ثم مسلم عارف وإثنوغرافي أفريقي ومصور هاو… وأخيراً وليس آخرا هارب من الشرطة والخدمة العسکرية.
لقد ظهرت الی العيان في الآونة الاخيرة صورتين للشاعر الفرنسي المشهور آرثر رامبو (التقطهما برونو براكيهيس)(١) ولم يراها كثير منا من قبل، حيث نجد هنا في هذه الصورة أدلة ملموسة ومثيرة للجدل على أن رامبو كان متورطا بشكل فعال في كومونة باريس عام ١٨٧١. کما نراه في الصورة فهو يقف علی رقعة حساسة الی جانب التمثال المحطم لنابليون الثالث ومحاط بأفراد من الحرس الوطني أو الجيش الغير النظامي. يظهر الشاعر في الصورة بنظرة حادة حيث ينظر مباشرة إلى الكاميرا و(بعد التعافي من صدمة تلك النظرة) نلاحظ أن الجميع حوله بأستثناء الشاعر يبتسمون. لكن رامبو بشفتيه المميزتين يظهر وهو منغلق الفم بشكل عبوس و مبدع في آن معا. الآن ولأول مرة نرى حقًا كشر وجه رامبو و قد تتردد صداها الی الابد.
هذا الشاب الذي يقف على قاعدة التمثال المنحطم مشحون بالكاريزما والحيوية لدرجة أنه يحظى باحترام الرجال الأكبر منه سنا بكثير. ويمكن أن يرجع السبب هذا الی ان هذا الراهب المقدس هو في الواقع آرثر رامبو: المناضل من أجل الحرية، اذ انه كان معروفًا جيدًا كشاعر خلال الكومونة. وقد عرفه كامو لاحقا عندما أطلق عليه لقب “شاعر الثورة” حتی قبل ظهور هذه الصورة الی العيان.
رامبو و كومونة باريس ١٨٧١
في مايو 1871 – أثناء أحداث الكومونة – كتب رامبو رسالتين معروفتين باسم “Lettres du Voyant” ، حيث وضع برنامجه الشعري. بالإضافة إلى تعبيره عن الرغبة بالمكوث في باريس وإعلانه عن مشاعر التضامن المطلق مع الكومونيين ، قدم رامبو ادعاءين مهمين للخيال الشعري عندما قال يجب على الشاعر أن يخضع نفسه لـ “تشويش طويل ومنهجي لجميع الحواس”، وهي عملية ستدمر الذاتية البرجوازية، وتؤدي إلى النقطة التي “أنا فيها- أنا الآخر”.
كانت كومونة باريس بالفرنسية: Commune de Paris حكومة اشتراكية راديكالية وثورية حكمت باريس من 18 مارس إلى 28 مايو 1871.
لكن قبل تلك الفترة و بالتحديد في 2 سبتمبر 1870 هُزمت فرنسا في معركة سيدان مع البروسية ، وتم القبض على الإمبراطور نابليون الثالث. عندما وصلت الأخبار إلى باريس في اليوم التالي، خرجت حشود مصدومة وغاضبة إلى الشوارع. هربت الإمبراطورة أوجيني- زوجة الإمبراطور والقائمة بأعمال الوصي في ذلك الوقت- من المدينة، وانهارت حكومة الإمبراطورية الثانية بسرعة، لأن باريس كانت تحت الحصار لمدة أربعة أشهر، كانت باريس مرتعًا لراديكالية الطبقة العاملة، دافع عنها الحرس الوطني بدلاً من قوات الجيش النظامي. استسلمت باريس للبروسيين في 28 يناير 1871 وفي فبراير وقع أدولف تيير-الرئيس التنفيذي الجديد للحكومة الوطنية الفرنسية- هدنة مع بروسيا لنزع سلاح الجيش ولكن ليس الحرس الوطني.
في 18 مارس، قتل جنود من الحرس الوطني للكومونة اثنين من جنرالات الجيش الفرنسي، ورفضت الكومونة قبول سلطة الحكومة الفرنسية. حكمت الكومونة باريس لمدة شهرين، حتى تم قمعها من قبل الجيش الفرنسي خلال “الأسبوع الدامي” (La semaine sanglante) الذي بدأ في 21 مايو 1871.
بعد أحداث الكومونة کان رامبو -أكثر من غيره- تحت مراقبة مستمرة من قبل الشرطة السرية، في حين ان الانتماء للنظام الكوميوني أعتبر جريمة عاقب عليها القانون، وبدوره فر رامبو إلى لندن في عام 1873 والتقی بزملائه من الثوار المتشددين هناك مثل أندريو و فيرميرش. حيث قام رامبو بالتواصل الاجتماعي في هذه الدوائر. وکان كارل ماركس حاضرا في كثير من الأحيان مع الكومونيين الفرنسيين في لندن و كان للنقاشات حول سياسات ونتائج الكومونة تأثيرا كبيرا على أفكار كارل ماركس، الذي وصفها بأنها أول مثال على “دكتاتورية البروليتاريا”
———-
الهامش:
(١) ولد المصور الفوتوغرافي (برونو براكيهيس) في مدينة دييب عام 1823. کان أصما منذ ولادته، تلقى تعليمه في المعهد الملكي للصم والبكم في باريس. في العشرينيات من عمره بدأ بالعمل مع مصور باريسي معروف، كان برونو براكيهيس يبلغ من العمر 48 عامًا عندما تم إعلان الكومونة في عام 1871. وقد عرضت صور التي التقطها في العديد من المعاهد والمعارض الباريسية البارزة لاحقا. لكن مع التطور السريع لكومونة باريس غير براكيهيس فجأة طريقة عمله. تحول من مصور الاستوديو بين عشية وضحاها الی مصور صحفي، کان من أوائل من بدء بنقل کاميراه الكبير الحجم والتي تشبه العنكبوت الى الشوارع المليئة بالناس، حينها شعر العمال الباريسيون بالحيرة والخوف. لقد غزت هذه الآلة الغريبة ذات ثلاثة أرجل مدينتهم! ظلت الصناديق السوداء التي تم رفعها على ركائز متينة موجهة لنقطة ما لساعات في كل مرة (كان الأمر خطيرًا أيضًا ؛ بسبب احتمال وقوع انفجار الكاميرات مع تراكم النترات)
لقد التقط هذا المصور المحترف خلال الكومونة صورا عديدة، البالغ عددها 109، لكن الصورة البارزة هي لساحة فاندوم والتي يظهر فيها آرثر رامبو.
المصادر:
١- thecommune.wordpress.com/2010/11/19/rimbaud-and-the-paris-commune/
٢- aidanandrewdun.com/arthur-rimbaud-the-secret-police-file
٣- aidanandrewdun.com/arthur-rimbaud-the-discovery-of-two-new-portraits/
٤- en.wikipedia.org/wiki/Paris_Commune