مع المُحترِق ..جزءُّ رمـاح بوبـو، في شذرات الشمع المُحترِق ترصد رماح وقع الحب المنتحر في زمن الموت ، زمن اللهاث من أجل البقاء دون هوادة ٍ ، وفي النتيجة لاشيء يذكر غير حصاد القلق والخسران . لنحدق في إبداع الشاعرة بهذا الصدد :
و حبيبان
لم يصدقا رنين ضحكتهما
فانتحرا قبل هبوب الرّصاصة !
أيها الوطن ، لماذا ، كلما ركضنا نحوك
تمسّكت بصندوق سيارة الخضار
وأخذت ترمينا بالنباح ؟؟
في حاضرنا وبمنتهى المشقة واللهاث ضيعنا حقائب أيامنا في هذه الأوطان القاحلة والبخيلة وراء هذا الذي يكنى مستقبلا فاذا به سراب ، وكأننا نركض خلف حيوانات مفترسة لغرض صيدها والإستفادة من بيع جلودها لكننا حين نصلها تلتفت خلفنا فتفترسنا وتتركنا صرعى من هول الإفتراس والتقطيع مثلما وصفها لنا الروائي علي بدر في رائعته ( الركض وراء الذئاب) . وتبقى رماح مقارعة الظلم بوجهها الطبيعي الذي يكره التزويق أمام المرايا لأجل نوايا تحط من قدر المرأة التي تريد العبور الى الجانب الآخر دون ذبولها القسري . مثلما نقرأ في ( أنا في النّصَّ زهرةُ ) :
أنا بالأنوثةِ..أكره المرايا
فلا تتمعّنني وجهاً لوجه
وأكتفِ بستارةٍ مواربةٍ
تميل كيفما شاء لها المزاج
مرة أخرى مع الرومانسية حيثُ يقول أحد روادها (البحث عن شيء بعيد ومستعصٍ هو ميزة الذهنية الرومانسية ) .. نحن الشرقيون وفي أوطاننا ، حينما تنتقل الشمس حول النافذة لابد لنا ان نستر أنفسنا باغلاق الستائر جيدا ، لأننا أمة منغلقة في كل شيء بينما في الغرب وفي الحدائق العامة تتعرى الأنام في اليوم الشمسي أمام نواظر الجميع . أما هنا وفي الثيمة أعلاه نقرأ المعاني الأخرى لما تريده الشعوب من نيل الحرية دون الأخذ بعين الإعتبار لحسابات الإنوثة التي يلهث وراءها الرجل الشرقي و ( اللوياثان) على حدٍ سواء. تنتقل بنا الشاعرة الى الإستعانة بدفء الإمومة الهادر كدأب أغلب الشعراء حين يكتبون عن الأم :
وهكذا..
كلما وجدتُ نفسي بدوني
استعرتُ أمي ، وأعلنتُ معركة التّأنيب
كيف التقطتَ الحيلة ياولد
فأسبلتَ عينيك متوسلاً
ضمّةَ ال ” صافي يا لبن “!
يا لها من معجزة
القصيد أعلاه في شطره الأخير إختصر معاني العناق التي هي بمثابة البوصلة التي نحتكم اليها في الإستثناءات ، حيث نرى الشاعرة وهي تصف لنا المرأة الشرقية حين تنزاح لعالم آخر لغرض الراحة والإستراحة ، لغرض أن تعيش لحظات الإنغمار والهيام في آنٍ واحد مع الأم أو مع ضمة الصافي يا لبن ( لهجة محلية سورية) ، حيث المرأة مع بياض سريرتها وصدرها الذي يتسع مديات الخصام العنيدة في لحظات التجلّي الصوفي إثر مشاجرة تستأهل أو على تفاصيلٍ صغيرة إذا ما انتهت نوشك أن نفك أزرار قمصاننا فندخل مدرسة الحب لكي نمارس فيها تمارين وصالنا بعد خصامٍ لئيم . وبنوايا الصفاء الخالص لدى الشاعرة تصف لنا تلك المرأة التي تريد السير نحو الهدفية التي يجب أن تستقر في مستقرها الصحيح ، فتراها واضحة بدون أي لفٍ أو دوران في السطور أدناه :
هذا الرّجل الذي أنا بحوزته
يعاملني كسيجارته
يشعلني تارةً ، حتّى كمال التوهج..!
و تارةً ، يدعك رأسي بصدئ منفضته
و بالحالين ، يكون مرتاحا!
و كم خاض حروباً لأجلي
خلع حذاءه ..بسمل…
صلّى طويلا ، لأكون جائزته
ورغم ذلك …خضّنا معاً
معارك داحس والغبراء..ولم نزل !
و في نهاية كل معركة ..
إذ يرتمي كلانا على شرشف خيبته
هذا الفيض الشعري له سمته الإنثوي المعفّر من حيث إعداده وصناعته ولمسته ، نص يعطينا مفهوم الإحتراق بين طرفي المعادلة في الحب (رجل وإمرأة) . كليوباترة خاضت حروبها مع حبيبها أنطونيوس حتى الخسارة المفجعة . أما حروب العرب وأولها داحس والغبراء لهي مثال صارخ على المتاهة التي ضيّعت تأريخ بأكمله ليس لأمرٍ جللٍ وإنما هي النزعة القبلية التي مازالت تحكمنا بمؤازرة شعراءها وقصائد العمود المدّاحة في هذا المجال المتملّق والرخيص . تنتقل بنا الشاعرة بانوارامياً لتجيب بشكلٍ مهذب إذا ما وجّه لها أحدهم تهمة الجريمة الأبدية في الضلوع بإخراج آدم من الجنان ودفعه الى الأرض فأصابنا كل هذا العذاب من جراء ذلك ، فتوضِح في نصها المشاكس(تفاحتي وقد سرقتها) وهذاالسؤال المثير للجدل جعلته يأخذ موسومية ديوانها الأول والذي تقول فيه :
يا حبيبي..
لا تكوَّر كفّيك كلّما رقرق صمتٌ بوجهي ..
فما كل صمتي.. ماء
ولا تبتئس..كلما سافرت في غيمةٍ عيناي
فما كل رحلة لعيني..استياء
واذا ما قرأت نصوصي
فلا تفض غلافها البرّاق..الملفوف
أرخ ذراعيك عن عروة خصري قليلا..
فقد..يطيب لزوربا على غفلةٍ
أن يرمح باشتهاء
يا حبيبي..هذي أنا
مطوقة..بالله والفستق..والحناء
فلا تقتحم جنّتي عنوةً
إن لم آذن بالدّخول
يقال لو أردت أن تدخل قلب إمرأة عليك أن تجتاز بحوراً وخلجان وإذا أرادت المرأة ان تدخل قلب الرجل فما عليها سوى أن تخترق حاجزا ورقيا . المرأة لو أرادت أن تسمح بالأذن فلسوف تجزي كل الأعراف والقيم المنتمية للسماء والأرض ، ومامن ثمة دينُّ يقف حائلا ، لذلك نرى هناك من تزوجوا وهم من طوائف مختلفة . الإستئذان لدى نزار قباني يحمل شيئاً آخراً ( من حاول فكّ ظفائرها ، من يدنو من سور حديقتها ..مفقودُّ مفقود ) . وذات مرةٍ قُيلَ لراقصٍ من الطراز الدنماركي النبيل / لماذا تحب رقصة الفالس / أجاب مازحاً /لأنني أستطيع فيها /أنْ أمسكَ ماخلفها / دون إستئذان ) . الشاعرة تغذ البوح وتستمر ، فتارة تضحك وتارة تكون جذلى في الفلقة أدناه :
نحن الذين نمشي ونلتفت
ولأنّ من يمشي ويلتفت
سيّان لديه إن بكى أو ضحك
لأن الأحذية كذبة و الطرقات..
أكلت أقدامنا حيناً ثم تابعت المسير
الماغوط يقول من شدّة بؤسه وحنقه على أمةٍ عربية تشظت الى دمار وخراب ( لايربطني بهذه الأرض سوى حذائي ) … أمّا من يلتفت حين يمشي ، هذا يعني أنه ينظر الى الماضي فلا محال أن يقع ويخسر الجولة ، كما نحنُ العرب فريسة ماضينا البدوي المتخلف والخائف على طول مساره الخاطيء فنهلك مثلما هروب الأرانب والضباء ، فهي الفائقة السرعة لكن المفترِس سيلحق بها مهما ناورت وجاهدت لأنها تلتفت أكثر من مرةٍ من شدة خوفها وهذا مايؤخر من سرعة جريها فيؤدي بها أن تقع بين فكي فريستها مهما طال التسابق واشتدت المناورة . الشاعرة رماح تحدثنا عن روح التضحية والفداء الذي لابد له أن يكون مثالا يحتذى به في الدروب العسيرة ، مما حدا بها القول :
أحكُّ ظهر الكلمات
و أقول للأنبياء
لست عليّاً
فلماذا.. رميتموني بالفراش ؟!.
إشارة لتلك القصة البطولية حين ترك علي بن أبي طال في مكان النبي محمد فدخلوا عليه من كل القبائل لكي يقتلوه بضربةٍ واحدة ويضيع دمه بين قبائل قريش . كما وان عليا أصبح مثالا يحتذى به في الكثير من الضائقات كما قال مظفر النواب (أنديك علياً / لو جئت اليوم / لحاربك الداعون اليك / وسموكّ شيوعيا). هنا نرى كل ماتقوله الشاعرة يشير الى الثقافة التي تحملها قصيدة النثر إبتداءً من الأمريكي بندكت الى أدونيس وأنسي الحاج ، الثقافة التي أزاحت خطاب الفحولة المتمثل بالعمود المقفى ومديحه القبلي حتى تحول الى الخطاب الفردي ( فحولي إنثوي) عن طريق قصيدة النثر ، وهذا ما أنار مخيلتنا التي لها شأن آخرُّ في ربوع الشاعرة ، لننظر في الكشف الآتي :
إناءٌ من الضوء
قلبُ صديقتي
و يشفُّ عن زهرة نار
في مسلسلٍ سوري يظهر فيه عابد الفهد و الجميلة ديمة قندلفت على ما اذكر في مشهدٍ مخيالٍ عظيم ، كانوا يسبحون تحت دش من الضوء، فما أجمل الإنسان حين يغسل الآلم أو ربما أخطاء الضمير بنثيث الضوء كي يزيل العتمة في قلبه وروحه ، أما إناء الضوء هذا لدى قلب صديقة الشاعرة رماح ، فهو يشبه نوعا ما تلك الصداقة التي قال عنها اللورد بايرن (الصداقة حب دون أجنحة ) . وهذه الصديقة متلبسة بقناع صديقةٍ طيبةٍ في النص الجميل هذا كتورية . فهذه الصديقة حين تقدم قلبها كإناء ضوء لهي في أعلى مراحل الكمال مثلما أولئك الذين ماتوا في سبيل الوطن وانطفأت شموعهم لكنّ نار المجوس ظلت أبدية في ذكراهم . ثم تستمر الشاعرة في تفريغها الموخز فتقول ….
هاك عاشقي الأول
فقد كان مثقفاً ثورياً لآخر عصب !
وهذا العاشق الثاني
جميلا طيباً ، وابن حقول
لكنه.. لم يحسن الكلام
قال لي مرةً
انتظريني أريد أن …
ههههه ..
أما العاشق الثالث
فقد تحفّظت عليه
لأنه لايحتسب ، ومرت الأعوام
ولم أزل و فارسي
كلما صادف القمر بدراً
نجلس للمُدام
نص سردي بنيوي يحمل في طيّاته المزيد من الواقع . لقد قالها جيفارا العظيم ، لا تعشقي ثوريا ، سينساك ويفكر في العمال الكادحين ، سيحدثك في ليالي الرومانسية عن الأرض والخبز والسلام ، فعلام كل هذا التصدع . إنها الشاعرة الخالصة للصدق والبعيدة عن السياسة دون أي رتوشٍ أخرى .
كقطعة “جيليه”تهتز
في قبضة أناملك الزّجاج
قلبي
قليلٌ من الدفء..يذوووب
قليلٌ من البرد
ينكمش كقبلةٍ أمام كاميرا !
وحدها
نظرتك التي تزنُّ حوله
تحيله وردة جوري ، تتشهّى القطاف
رغم إنها.. ترتجف!.
يبدو انَ القلب احيانا يستحيل الى جنح فراشة غض ، بينما الآخرين حجارة جلمود ، فأين هذا من ذاك ، فحتما حين يخفق القلب يشتهي أن يتخذ مكانا شمسيا بغية الدفء مع الشعور بالحاجة الى ضمة حبيب أو قبضة يدٍ حانية فيكتمل المشهد الرومانسي الحالم بغد افضل. لكننا مرغمين لاطائعين على سوء الحظ حين يسقط فوقنا بكل ظلامه فتنكشف الهوة القبيحة للجحيم وتنكمش أجسادنا مثل القنافذ الخائفة . ويظل الخطاب الثقافي زهرة في أعالي السنديان أو فوق فرسٍ يصهل بالحب والإبداع والجمال .
كلمة أخيرة بحق الشاعرة ..
رماح بوبو شاعرة رست سفينة مولدها في ميناء اللاذقية – سوريا . أدمنت الشعر حتى ترعرع عودها الثقافي لتصبح مهندسة ميكانيك ، لكنها بقيت تسعى في دروب الأدب العاثر والأليم حيث لاوصول أبدا . ناشرة في العديد من الصحف المحلية والعالمية ولها العديد من الإصدارت ومنها ( تفاحتي وقد سرقتها ) منشورات وزارة الثقافة السورية والثاني ( البحر يبحثُ عن أزرقه) . رماح في كل ماقرأته عنها رأيتها تنشدُ الخلاص ، ولذلك باحت لنا بدون أي مواربةٍ تذكر في نص تساؤلي طويل بعنوان (أريد تصريحا) حيث تخبرنا فيه عن العلاقات المزيفة التي يحكمها التفاخر والمناصب فتؤثرعلى الصداقات ومصداقيتها ، ففي نهاية النص تشهر سلاحها اللامرئي على هكذا نوعٍ من التعامل فتقول :
فهل لي بتصريحٍ
يسمح لي ، لو قليلاً
أن أعيش !.
من خلال نظرتي لهذه الثيمة القصيرة والهائلة المعنى أقول : قد لايتحقق الأمل الذي نريد أن نعيشه من خلال تيار شعبي أو حركة ثورية لتغيير الأوضاع فى زمكانية الناس ، ولكن على الأقل أننا غرزنا البذرة فى الأرض، ولسوف يزدهر النبت، طالما أنّ الشمس تطلع كل يوم .
في الأخير أرى في نثريات رماح صوتاً يقول لنا من انّ الشعر هو شيء يختلج في النفوس فتقذفه السنتنا كما يقذف البحر الدرر . كما انّ الشعر ، الخوف ، القلق ، الحب سيّان ، وكلها تدخلنا في المفهوم الصادم والممتع معا .
ليس لدي ما أقوله في النهاية سوى أنني وجدتُ الشاعرة رماح في التراجيديا الدلالية للروائي العراقي محسن الرملي في روايته البديعة ( الفتيت المبعثر) الحائزة على جائزة أركنسا الأمريكية لعام 2002 والتي يقول فيها ( حين يكون العالمُ خوفا، جوعا، حاجة ، وحين تُلبس الحروب أكاليلَ عرسٍ لشبابها ، ويحاصرنا ترهيب الطغاة ، سنجدُ الأرض تضيق علينا ، كقبرٍ مظلمٍ ، تخنقنا تحت رمالها ) .