يتفق الباحثون على أن معيار الحداثة الشعرية يتمثل في اللغة ، إذ لا اختلاف على أن مصطلح الحداثة في المنتج الابداعي يتلخص في تحولات التشكيلات اللغوية نحو فضاءات جديدة ومختلفة ، اذ اللغة هي بوصلة التغيرات الحداثية في النص وهي طريقة التجديد في ما قبل وما بعد الحداثة نفسها .
اللغة لا بمفهومها المرجعي بل بسياقها التداولي الذي يصبح المنتج النصي شعرا ، رواية جزءا منه ، حتى لتبدو اللغة هي من تصنع هذا التحول والذي تقود اليه ،
باختصار شديد ان لعبة الدوال تجعل من الدال اللغوي اكثر انفتاحا على المدلول حينما ننقله إلى فضاء مختلف ، حتى لتراه يتلبس وجوها عديدة كي يحظى بالمغايرة التي تريدها الحداثة نفسها لكي تسمى حداثة فعلا.
من هذا النظرة المفهومية لحداثة التشكل اللغوي في النصوص الشعرية لاحظنا أن هناك غرابة حقا وهي تمثلات درجة احساس المرأة الشاعرة برقة اللغة واختلاف التركيب اللغوي عبر التلاعب به بطرائق تدعو للتأمل ولنأخذ هذا النص للشاعرة أسماء الرومي من ديوانها الأخير ( كاليري 21 ) الذي خلت قصائده من عنوانات لها :
( لم أعد أكمل الأشياء التي أبدؤها
كثير من النصوص لاتزال واقفة على ساق واحدة
لوحتي ذات العيون الكثيرة
كل يوم تطالعني بقلق عدم الاكتمال
………..
لم أعد أكمل من الأشياء
إلا الغياب )
نص منضبط في البناء اللغوي والسياق في تطابق المعنى واللغة، اذ لا اكتمال في النصوص وفي اللوحة يطابق الغياب المكتمل والذي يجسد في غيابه اللا اكتمال .
حسنا ( الغياب ) لا اكتمال وهو يطابق اللا اكتمال في الصورة ( ساق واحدة) أي أن اللغة تركبت بسياق المعنى لا المعنى يتركب بسياق اللغة ، تلك هي البراعة في الإحساس باللغة وقيمتها الوظيفية.
ديوان ( كاليري21 ) نصوص كتبت بصوت متعب عبر عن كل انكسارات عالم الأنثى الشرقية :
( لست سوى غيمة أرجوانية عاقر
في زمن لا أساطير فيه ولا ملوك )
في هذا النص نجد غياب متقابلا بين الغيمة العاقر والأساطير المنسية في غيابها الزمني البعيد ، وكأننا نجد اللغة قد صاغت هذا الغياب عندما اختارت من الألوان الإرجواني الباهت الذي :
( ارتبط دائما بالملوك ….. اللون الذي يرمز إلى الغموض والسحر …. غالبًا ما يستخدم معنى اللون الأرجواني لتصوير الملوك الأقوياء والقادة والسحرة )
كما هو في الأسطورة التي تتناول صراع الملوك والتي تعتمد الغموض والسحر ولكن :
(يمكن أن يسبب اللون الأرجواني الداكن مشاعر سيئة وإحباطات )
تلك هي مساقط اللغة الشعرية الناعمة على المعنى المأساوي :
(اتخبط في جدران الحياة
بحثا عن باب خشبي
باب مفتوح على مصراعيه
يتسع لأحلامي البسيطة)
وتبقى الدوال اللغوية ليست اعتباطية عندما تتشكل المفردات في نص أسماء الرومي وهي تصوغ مدلولاتها لغويا اذ أن غياب الذات الهائمة لا تجد لها بابا
وتعلن خشبيا فكل الأبواب مغلقة وحتى المفتوحة ليست كما يبدو قادرة ان تستوعب هذه الاحلام الأكثر اتساعا على بساطتها .
وتعلن الشاعرة ان الفراغ لديها هو الغياب ذاته وهو الفشل نفسه وهما ( الفراغ و الفشل) مدلولان لم تجد الشاعرة فرقا بينهما ليمثلا الغياب :
( لا فرق
يجرفني سيل مخاوفي نحو الفراغ
وتفشل كل محاولاتي بالتشبث)
ولننظر:
( إنها الوحدة بعد منتصف الصبر
وما زلت أراقب ظلك
تحت وطأة الأسئلة)
ولو اكتفت الرومي بالسطرين الأول والثاني لبدت اللوحة الشعرية أكثر اتساعا في تمثل الغياب ، فهي باضافة السطر الثالث قد نقلت النص من دلالته الخاصة الواقعية ( ولو لجزء بسيط من تحقق المدلول في النص ) الى معنى تجريدي وهذا مفارق لذاك ( اي الأول والثاني)
ولنقرأ هذا النص الغريب :
( في أي مقبرة تغرسني
وأنت تفتح باب الصمت على مصراعيه)
الغرس حضور ولكنه هنا يصبح غيابا بدلالة الموت والصمت غياب ولكنه هنا يصبح حضورا بدلالة ( وانت الذي تفتح باب الغياب ).
وهذا النص في التقابل الدلالي الذي توفره الرومي نجد شبيهه في قولها:
( أود أن أستثمر صمتي
أدفع نصفه للباعة المتجولين
وللنساء الثرثارات
ولقطة تموء بالجوار
لعله يغنيني ببعض الطمأنينة)
تلك هي تراكيب اللغة الحداثية بما تجعل الدوال قادرة أن تخلق مدلولاتها المقصدية لا الاعتباطية