مسرحية (حارس المقبرة) من تأليف هشام المالكي وإخراج وتمثيل فرحان هادي وجنست المسرحية كـ (مونودراما) ، وقدمت من فرقة الزبير في مهرجان نظران المسرحي الأول الذي نظمته نقابة الفنانين في البصرة ، وسأبدأ مع النص ، النص يبدو وكأنه قصيدة نثر مطولة ، يحفل بالمفردة الشعرية والايقاع الشعري العالي مما ولد فخ كبير تحول من الملفوظ المكتوب الى الملفوظ الادائي للممثل، فالمؤلف لم ينظم النص بطريقة التأليف المسرحي المتعارف عليه للمونودراما المعاصرة ، حتى ان المؤلف يكتب في نصه (المشهد الأول / المشهد الثاني) وهذا ما لم نشعر به ابداً على الخشبة ، فكل ما شاهدناه قصيدة نثر تؤدى من قبل (الممثل).لا استدعاءات، لا استرجاعات ، لا تعددية للاصوات …مما يحدث الملل لدى المتلقي فان يسير النص بمنوال واحد من دون توقف يفقد صفة التواصلية مع المتلقي (الجمهور) وهذا ما حصل بالضبط في هذا العرض فقد تعالى صوت الجمهور داخل القاعة منذ منتصف العرض وحتى نهايته باحاديث جانبية ، صح ان المونودراما تبحث عن فردية الفرد والطابع الفردي ولكن هذا لا يعني ان تلغي حضور الاخر في النص المونودرامي ،الحضور عن طريق الشخصية الرئيسة والتقنيات المتنوعة التي لم نشاهد أي منها في هذا العرض.ثمة ضرورة في المونودراما للجوء الى مسألة التنويع في النص خشية الوقوع في فخ الرتابة والايقاع الأحادي ، وانفلات التواصل مع المتلقي، فالمونودراما يجب ان تكون فضاءاً واسعاً لحضور الاجناس والاشكال الأدبية ، ثيمات حلمية ونفسية وسير واستدعاءات وتعدد أصوات وتشظيات وغيرها ، هذه هي المعادل الموضوعي (لغياب الشخصيات الأخرى) في المونودراما الحديثة، اذ ان الشخصية الرئيسة موكلة بسرود الشخصيات وافعالها ورود افعالها، لان المونودراما لها احقية الزمن الافتراضي الذي تتجاوز فيه كل الاشكال المادية والعقبات الفيزيقية، وتتيح للمؤلف والمخرج معاً السياحة الزمكانية، ناهيك عن اختفاء (المتن الحكائي) بالمرة في هذا النص، مما يربك إيصال المعنى للمتلقي، كما لا اعرف لماذا افتتح مؤلف النص هذا العرض المسرحي (بثيمة العمل) ولم يدع للمتلقي فرصة التأويل والتفسير والتلقي على الأقل، فقد (حرق) فكرة العمل قبل فتح الستارة حتى وهذا ما لم نعهد في سياقات تقديم العروض المسرحية ، اما بالنسبة للتمثيل فان الممثل بدء بايقاع وانتهى بايقاع اخر على المستوى الادائي الجسدي ، وهذا الارباك بسبب ضياع بعض الجمل من الممثل مما ولد ارباكا ذهنيا افقده السيطرة حتى على مستوى الأداء الجسدي، وبدء وكأنه يشعر بهبوط مستوى أدائه الجسدي جراء ما حصل له على الخشبة ، وربما بسبب عامل فقدان التركيز الذهني، و(نسيانه) لبعض الحوارات التي أجبرت المؤلف على (تلقينه)!! وهذه احدى بديهيات المسرح التقليدي (تم كسرها في هذا العرض)، كما ان المفردات الشعرية العالية بالنص وطاقتها الايقاعية أوقعت الممثل بفخ الأداء البكائي او لنقل الانفعالي المنفلت بعض الشيء مما اثر كثيرا على اداءه وملفوظ الجمل الحوارية لانه كان يؤدي وفقا لايقاع شعرية المفردة وليس وفقاً لدرامية الجملة المسرحية التي هي بالاصل مفقودة في اغلب جزئيات النص، اذ ان هناك جمل قوتها اللفظية والفكرية تتطلب ايقاعا اعلى ، وهناك العكس بالتأكيد وهذا حصل في بداية العرض عند الممثل لكنه فقد الممثل (فرحان هادي) هذه الصفة مع تقدم دقائق العرض، وفي اغلب الأحيان شعرت ان فرحان هادي كان يؤدي مناجيات جانبية ، وشتان ما بين المناجاة الجانبية والمونودراما،كما ان ثمة العديد من اللحظات شعرنا كمتلقين بفقدان التواصل مع الممثل بسبب بطئ الإيقاع غير المناسب مع هكذا نص مشحون ، بدلالات عن الوطن، وثمة لحظات صمت طويلة في العرض لم تكن مقنعة ابداً ولم تمتلك دلالة فالصمت من العناصر التي يوظف كقدرة اشارية وعلامية في بناء النص او حتى جعله مضمرا لما لا يمكن ان يقال، فلابد من ترك الفسحة للمتلقي لفك شفرة هذا الصمت وتستفز ذاكرته من خلاله، فالصمت أيضا مكملاً للحوار في المسرح المعاصر، وهذا أيضا لم نره في هذا العرض المسرحي ، ناهيك عن مسألة التوازن في توزيع الجهد الجسدي ، والحفاظ على التركيز الذهني لخلق مناخ أوسع لتأدية الدور والشخصية بصورة متوازنة ومقنعة، وهذا للأسف افتقده الممثل فكما ذكرت انطلق بايقاع عالٍ جداً ، وبعدها هبط هذا الإيقاع وشعرنا انه على المستوى (الذهني) والجسدي لم يعد قادراً على توصيل رسالة الشخصية المسرحية ، اما بالنسبة للتقنيات فان السايك الخلفي او خلفية المسرحية لا علاقة لها بالمقبرة البتة، ما علاقة البحر بالمقبرة ؟ وان اردت كمخرج ان توحي لنا بانك تتحدث عن الوطن فهناك استعارات واستعاضات أخرى اكثر جمالية مما شكلته بخلفية المسرح ، كذلك الموسيقى يفترض ان تتوافق مع فكرة ودرامية النص المسرحي ومفرداته وثيمه وان لا تكون مقحمة عليه كما شاهدنا في (حارس المقبرة) كما اني لم افهم لماذا ظهر الممثل منذ بداية العرض (ملطخاً بالطين) فكل حركة ولمسة وتشكيل في المسرح يجب ان يكون بغاية ودلالة ولا تطلق العلامات والتشكيلات جزافاً ، لان المسرح فن الايجاز والايحاء، بالختام أقول ان ما تعنيه لا يمكن ان يكون صحيحا ، ما لم يكن ضمن السنن التواصلية المشتركة مع المتلقي، ايحاءٍ او رمزاً على اقل التقادير ، فاني لم ار نصاً مونودرامياً ، ولا عرضاً مونودرامياً ، مع حبي الكبير لفرقة الزبير المسرحية وللفنان فرحان هادي.