مقدمة .
عبد الحسن نوري : فنان أكاديمي تواصلي خريج اكاديمية الفنون الجميلة وطالب دراسات عليا ماجستير ، والمتتبع للاعمال الفنية التي قدمها يرى إنها تتخذ اتجاهين يتمثل الاتجاه الاول في مشاركاته الواسعة في ( مهرجان الحسيني الصغير لمسرح الطفل وهو مهرجان ديني توعوي يقام في كربلاء المقدسة ومهرجان الق الحسين في بابل إضافة الى مشاركته خارج القطر في مهرجان نيابوليس الدولي لمسرح الطفل والدمى في تونس ) . واتجاه ثان تمثل في عالم الاطفال وصناعة الدمى واللعب معها وبها ؛ وهو ميال لهذا النوع بشكل كبير. وهذان الاتجاهان اخذا من حياته وجهوده الميل إلى تطويرها واثارة افكار مهمة في جعلهما يصيغان اسلوبية على نطاق الافكار والاخراج.
هذا التطور والاهتمام يحيلنا إلى سبر أغوار نفسه إلا انه لم يخف من تكرار تلك التجربة بل أصر على تعميمها في ما يقدمه من متتاليات فنية تمنح العقل البشري القدرة على ادراك وفهم العلاقات بين الكتل والفراغات بشكل ابسط بوساطة التوازن الحركي والفعل الدراماتيكي عن طريق اللعب .
الفكرة العامة للمسرحية .
من منظور تماهي العمل الدرامي يقدم الكاتب ( عباس علي مصطفى) مسرحية اششش على وفق بناء مشهدي صاغها بأسلوب درامي المخرج ( نوري ) على طريقة البناء الدرامي الذي يراه مناسباً للرؤية الاخراجية التي وضع لها غاية في نفسه . تتجلى فكرة المسرحية بما يعانيه الانسان من ضياع وتشتت فكري أطبق على كينونته عبر ازمان متلاحقة ولا جدوى الوجود والتقوقع في بحبوحة غير قادر على الخروج منها ، إذ انها اطبقت على عقله عبر تبعية زمكانية سارت بخطوات سلبت ارادته وصيرته تابع إلى قرارات غيره . وتبقى فكرة الخروج من المكان هي السائدة لكن بلا جدوى وكأنهم لعب دمى يتحكم فيهم خيط ، وما اشش إلا لغة تغييب يراد بها أصمت وإلا …. يحيلنا ذلك إلى ان المخرج وظف المسكوت عنه والبحث عن الحرية المفقودة إلا ان عبارة (أنت منو أششش ) هي سيدة النص المسرحي وترك تأويله للمتلقي.
بداية المسرحية اغنية لخصت ثيمتها وصار جليا ان هناك عباد لتابع وتلك الصنمية التي عبر عنها بهبل وهي احالة موضوعية للسابق وعبودية الانسان وخضوعه لثلة تريد مسخ عقله ، بل ممسوخة العقل.
جاءت الاغنية والايقاعات المعبر عنها في تطبيل الايدي من مجموع الممثلين متماشية مع التوقفات ( الصمت ) المسرحي الذي يريد من خلاله توصيل فكرة ( اششش) . إذن ( اششش) هي صمت الكلمة وتغييبها في حلبة العالم القابع تحت سياط الذل .
تلاعب المخرج بايقاعية العرض وذهب الى استخدام الممثلين بحركات عبر خيوط تدلت من فوق وكأنما يريد ان يقول ان الما فوق هو المتحكم ولا قدرة على ردعه او الخروج عن طاعته وما انتم إلا دمى نحركها حسب اغراضنا وارادتنا لا تملكون القدرة على الحراك إلا بأمر منا وبرع في تلك الحركات وتوزيع الامكنة واستخدام الصالة بدل خشبة المسرح ولولا حركة الممثلين باتجاهات عدة لكان هنالك اسفاف وتكرار في مشهدية العرض بوصفه عرضا جريئاً يتجاوز كل التابوهات ، غير ان اختيار الاغنية الانكليزية على الرغم من طولها وتكرارها تحيلنا الى عالم الاطفال بحركاتها وضرباتها وهنا يمكن القول ان اشتغال المخرج ضمن عالم الدمى ومسرح الاطفال الذي سحبه إلى تلك الاستخدامات التي لا عيب فيها .
اما دلالات المنبه فقد جاء ليعالج مرحلة مهمة من الممنوع التي تسيدت حبكة الصراع وصولا الى العقدة فكل ما عرض هو عقدة غير قابلة للانفراج حتى خاتمتها وما محاولة موت صاحب الامر ( صاحب المنبه ) إلا محاولة لولادة جديدة لم يكتب لها النجاح بعد انفجار البالونة التي نفخها عباد الصنم عبر التنفس الاصطناعي والعودة مجدداً ومن ثم عودته للتحكم مرة بالخيوط ومرة بالمنبه ومرة بالريموت عن بعد وكأنهم ريبوتات بلا عقول .
الحوار .
الحوار وتبادل الاتهامات ( انت منو ) تناول غياب وجودية الانسان وغربته حتى مع اقرانه خالقاً فوضى حوارية عبر تبادل الكلمات بأصوات عالية ليأتي صوت المنبه الشاخص ينهي ذلك الجدل بتحريك الدمى عبر خيوطها المتدلية حتى الايماءة ملغاة فهناك منبه لتلك الاصوات ، و تناول السخرية اللاذعة عبر قلب عدد من الكلمات بقصد الاستهزاء في تعبيره عن سخط واشمئزاز ما الت إليه اوضاعهم وهي تؤشر جوانب تعبيرية واضحة في الحنق على الواقع الاجتماعي المزري الذي وظف تلك السخرية بصورة تهكمية ممزوجة بشيء من الاضحاك من شدة ما تطرحه الساحة من مرارة وظلم.
الشخصيات .
ان تغييب العقل والتحكم المفرط في القدرات ادى الى استلاب مجموع الشخصيات ارادتها وذاتها وقهرها وضاع عليها الزمن فالزمن مغيب ولا مديات تحكمه فالتفكير بالخروج جريمة يعاقب عليها الولي . بوصف ان الاستلاب يعد ملمحاً مهماً لتلك الشخصيات التي تعيش ازمات وتعاني انشطار الذات والعزلة والملل ناهيك عن الغربة التي تعتري نفوسها وهي غير قادرة على صنع أو اتخاذ القرار والتخلص من خيوطها ، وان تخلصت فهي تابعة قابعة . إذ ان المخرج وظف شخصيات مسرحيته على مبدأ تجهيل الاسم أي فقدانها هويتها واطلق منذ بداية المشهد الاستهلالي مسميات ( ممثل ، ممثل 2، ممثل 3 …. الخ . ) وبقي صاحب الدمى شخصية سائدة متحكمة دون الولوج في تفاصيلها . بوصف ان لكل شخصية كينونتها التي حققت هدفاً جمالياً علاجياً وطريقة في التعبير عن خفايا مجتمع قابع يدور حول نفسه بين ظلم صاحب الدمى وقوى خفية تتحكم في حركته عبر خيوط نسجها المخرج بقصدية ناطقة عن مجتمع مغيب بالكامل لا يعي حقوقه وعليه ان يرزح تحت سياط الذل واستهتار صاحب الدمى . فهنا الشخصيات تابعة وعليها الاذعان وبغيره سيكون متمرداً ومصيره ( رقم الهاتف مقتول حاليا ) بسخريتها وتعبيرها المجازي عن واقع مرير ، يزج في نشرات الاخبار اكاذيب وزيف تناولها المخرج بتهكمية واضحة .
فضاء العرض .
من جماليات سينوغرافيا العرض المسرحي تجاوزها وظيفتها التقليدية المحدودة عبر رؤية منظر ادائي واضح ، إذ ان القفزات التي حاول المخرج الوصول إليها في اختيار المكان وتغييره وتحريك الممثل الدمية = الممثل الانسان بمتناقضاته هي حلول ومعالجات يرى من خلالها تأطير العرض بصور ايحائية ناطقة عن الحدث واندماج المتلقي فكريا وعقليا وروحياً وتداخل قراءات العرض عبر نسق ابداعي جمالي يحيلنا إلى ماهية ما يفصح عنه فضاء العرض ، على وفق التشكيل الحركي لحركة الممثل باعثاً معنى ما . وان خلق تكوينات بصرية مشهدية تنطوي على دلالات زمكانية قادرة على توليد دلالة حقيقية لمضمون العرض ، فيما جاء الشريط وتغيير الاضاءة للتعبير عن حدود وخطوط لا يمكن تجاوزها ، إذ تجدر الاشارة الى تعبيرية سينوغرافيا العرض في استخدام سلطوية الخطوط وربما قدسيتها التي أضفت على المربع هالة من الممنوع وما عليك إلا التوقف عند هذا الحد وإلا ….. وهنا يمكن القول : وما أنتم إلا مجموعة دمى نلهو ونلعب بكم كما يحلو لنا . في المحصلة يمكن طرح تساؤلاً مهماً : إلى متى والى أين وهل الخروج من تلك الدائرة ممكن…. ؟؟؟..
فالمصيبة اننا غير قادرين على التفوه بكلمة ولا الخروج وهذا ما عبر عنه بأستعارة اغنية المونولوجست عزيز علي ( يا ناس مصيبة مصيبتنا نحجي تفضحنا قضيتنا ). وما ابدال الصوت البشري بكلاب الا دلالة واضحة على كلاب المتنفذين الذين لا يبالون الا بمصالحهم واللهاث على مغانمهم .
لقد رأينا عرضاً ممتعاً مميزاً عبر عما يريد وتكلم بلسان الاحرار.
اعتقد ان العرض انتهى أو كان من المفترض ان ينتهي عند انزال العقوبة لشخصية المتمردة وتغييبها بعقوبة المقص واللفاف ..
ختاماً : المسرح رسالة من شأنها تغيير الواقع بصور ومعالجات جريئة