ورقتي النقدية التي قدمتها في اصبوحة هذا اليوم ولمناسبة يوم السرد الذي يقيمه اتحاد الادباء والكتاب باستضافة عدد من قصاصي مدينة الزبير وابي الخصيب:
يرتبط الفعل الكتابي السردي بالظروف الاجتماعية والسياسية ، فلا يمكن ان نفهم نصا بمعزل عن كاتبه ، او نجرد حادثة ما بعيدا عن النص نفسه . وهذا الامر ينطبق على الشعر ايضا . فلا يمكن ان نلم بإبداع شاعر اذا ما عرفنا مكانته من اقرانه ومجاليه من الشعراء ، ومكانته من قومه وقبيلته ، ومكانة قبيلته بين بقية القبال الاخرى . كما نعتقد هنا ان هذه النظرة التي اجمع عليها نقاد الادب في خمسينات وستينات القرن الفائت هي نظرة لا تثبت بمكان ، ولا تتأكد ، لو احلنا الرأي الى ساحة النظريات النفسية والمدارس الادبية التي اعتمدت التفسير النفسي للأدب ! لذا يمسي النقد ايضا متغيرا هنا ، ولا يستقر على قرار واحد ، او حالة ثبوتية امام سيول النظريات التي تجتهد بها المدارس النقدية الحديثة.
اقول هنا : ان افضل خصيصات القص انه يسعى لتدشين واقامة مشروع لتقارب الصور (رؤية القاص والقارئ ) أي بمعنى كسر غموض المحايثة بين الطرفين القاص والقارئ ، ولاسيما ويقرب الجسور في مجال المفارقة التي يفهم على انها مخصوصة بالقاص نفسه . فدائما ما يصاب القارئ بلبس والتباس في فهم اغوار النص يعود اساسه الى عملية (التلفيظ النصي) أي بمعنى (الذات الكاتبة) فما نقرأه يعود اليه (وقفاً) ولكنه ما ان يمر بمضمار القارئ حتى تشوبه جملة من الالتباسات والانقسامات فيسأل القارئ نفسه : ربما اراد القاص كذا وكذا ، وربما يعني كذا وكذا .. وهذه (الكذائية) هي سمة غريبة تضاف الى غربة النص – غربة القص ! ولا اقول هنا انها مهمة الناقد بقدر ما نجدها مسألة طبيعية تصب في حقيقة ومحور الابداع الذي يمنهج الى عملية التأمل واستشراف البعيد . ولعل (جوليا كريسطيقا) قد تعرضت الى هذا الامر او ما اطلقت عليه باختراق جسد النص ، او ما اسمته بالمغامرة في ( رؤية كلية للنص تكون نسقية ومتحررة / بنيوية ووظيفية / علمية وتحليلية / نظرية واجرائية / محايثة وخارجية في نفس الآن ) .
لاستعرض على عجالة وبطريقة اللمحة التي تتناغم وحجم هذه الاصبوحة بعيدا عن الاسهاب نصوص القصاصين المحتفى بهم ، اذ تتجلى اهمية النصوص السردية للقصاصين حسن الحيدري واسعد خلف وعلي سمير والق محمد في سياقات التذكير وربط تلك الذاكرة بالمستقبل ، فدائما ما تكون تلك الذاكرة طفولية حالمة ، مشفوعة بالتلقائية والبراءة التي تجعلها اداة خام تحقق ادوارها من خلال اعتزاز الكاتب بها ، والعناية بتهذيبها ! الامر الذي يجعلها تؤلف منطلقا ومنعطفا اساسيا في اغلب احداث قصصهم ، من حيث تقافز الصور وتتراتب الاحداث باستحضار الشخوص وقيمومة الاسماء التي تجعلها تؤلف دم احداث السرد العامرة بالأفكار والمشاعر التي تعين السارد ، وتمده بالثقافة التي تؤكد حضوره بين مرحلتين سالفة وقائمة ، اذا ما سلمنا ان لكل منا ذاكرتين الذاكرة العامة التي نشاركها الآخرين ، والذاكرة الشخصية التي تميزنا عن الآخرين . وهاتان الذاكرتان هما ما يحقق ويثبت ثقافة الناص ، لا سيما اذا عززتا بالتجريب والمخاضات الاخرى : حروب / حصار / احتلال ودخول قوات اجنبية / تغيير نظام الحكم / تحول مفاجئ من اسقاط الحريات الشخصية الى انتعاش الديمقراطية المجنونة …. وهنا تتحول الذاكرة الى طاقة فاعلة ، بعد انتقالها من دائرة الثبوت والنمطية الى دائرة الفاعلية المنتجة المؤثرة التي تحدث انزياحا فرديا وجمعيا يولد حالة خاصة في صناعة الاحداث وتحسين صورها .
سعى القصاصون وبشكل لافت ومؤثر نحو رصد احداث ذاكرتهم برصد ذكي ، يؤكد على ان تلك الذاكرة تؤلف مشهدا داعما للذاكرة العامة التي تحتفي بالحياة العراقية ، وهي تعترف انها جزء شاخص واساسي للحياة العامة التي جاءت نتيجة بين الناص ومحيطه عن طريق الحوار والمنولوج الداخلي ، والتكيف مع الطبيعة ..كل ذلك كان معجونا مع معاناة يكتشفها القارئ اللبيب ، وان كانت مؤطرة ببعض التداعيات والاحلام الوردية التي اعتمدها القاص .
ان الحقبة المظلمة للحروب القاسية ، وما تركته وخلفته من مآس ودمار وما انتجته الآثار السلبية القاهرة على النفس الجمعية والشخصية العامة واضحة بصماتها على سطور الناص ، فضلا عن الذكريات الموحشة والصور الشبحية الخالية من الحياة ، و الواقع المزري المتمثل بالتحولات الطارئة التي لم تلب مطمح المواطن وحلم الشعب ، بل جعلت المواطن بترحم على جلاده ، ويستذكر ايامه الرمادية الوردية لا سيما والحقوق ما زالت في خانة الاستلاب . فجاءت الحاجة لتفصح عن هاجس متجدد بقي يولف حالة متجددة في ذات المواطن، في البلد البترولي مثلما وصفه حسن الحيدري وباركه على سمير في مأدبة المزبلة التي دعي اليها على الرغم من نتانة المكان ، والرائحة المقرفة ، والذباب الذي يطنطن فوق الرؤوس ! او استنطاقه :
أين تسكن ؟ أقصى جنوب الوجع
كم عمرك ؟ تجاوزت خيباتي الأربعين
ما تهمتك ؟ اقترفت خطيئة الحياة
من كان معك ؟ رفيقاي ، الفقر والأسى
هل أنت نادم ؟ للأسف ( لا )
ولم الأسف ؟ لأنني أحتقر النعم !
كما ان توظيف التكثيف وتصدير الاختزال اصبح يؤلف قناعة شبه راسخة لعلي سمير ، وهو يضع نصوصه بين ايدي القراء وكأنه يُّصدر رسالة مفادها ان لا ثقل على القارئ في زمن المعلومة السريعة والجاهزة والمعلبة التي اخذت مأخذها وعملت عملها واحالت اثرها على التاريخ الثقافي الجديد الذي سيجهز يوما على ما تبقى من فعل القراءة .
بهذا التحدي والامل يفتتح كل من المحتفى بنصوصهم قصصهم من خلال تصدير ذكي لتداعي الذاكرة باعتبارها تؤلف محصلة مهيمنة لا يستهان بها في عملية السرد التقليدية ، اذا ما علمنا ان الذاكرة هي محصلة ذلك التراكم الفكري والخزين المعرفي للكاتب ، وانها تشكل المخاض الاساس لجل ارهاصاته واغلب تطلعاته الشخصية ، وهي ايضا من تؤلف محطة الاستدعاء الاساس لعالمه ، ولا بأس ان تكون هذه الذاكرة ذاكرة انفلاتية او ذاكرة واعية . ولا غرابة ان تؤلف الذاكرة الانفعالية منطلقا لتكامل الاحداث وربطها ضمن انتقالات ومراحل مسيرة الكاتب مشيرا هنا ان القص بحد ذاته هو نبش لذاكرة القاص .
انا ابن السبعين/ ما تركته ايام النحس الذي حول طبقة البيض لسعر 5000 دينار / ما تجود به الدولة البترولية من توافه الحاجيات وارخصها / التي تحتوي 24 بيضة تناثرت كما تناثر جيشنا عند قصف طائرات الشبح التي ما تركت لاعضائنا من ايد ولا من ارجل ولا حتى ضرس واحد / بيان رقم (1) تم تدمير قوات الجيش الامريكي الغازي وتم أسر قيادة قوات الفيلق 54 ومنهم من لاذ بالفرار .. !
بأسلوبه اللويذعي الساخر يضع حسن الحيدري بيننا مشاهد من زمن قاهر طارئ ، مر به الوطن من خلال محنة الحصار الظالم الذي فرضته اميركا ومحورها الاطلسي . وهو يعالج مأساة المواطن بطريقة برنادشوية فابية موليرية كان يتعمد كتابتها لحصر الحالات القاهرة التي حلت بالشعب المبتلى بسطوة الاحكام الجائرة التي كانت تمارس عليه ، فكان الشعب يكسر تلك الممارسات القاهرة بطرف ونكت علها تقلل من حجم وكبر تلك المأساة ، وتفتت شيئا من جبروتها عليه . وليس جديدا على الحيدري ان يضطلع بهذا الامر في قصته ، انما وظف هذه المعاناة في العديد من نصوصه لاسيما الشعرية منها ، وهو يحاول ان يكون ضمن كتاب الادب الساخر الذي انتعش في عشرينات القرن الماضي ، يوم اصدرت مطابع الغري ودار النعمان في النجف الاشرف مجموعة من الكتب والمطبوعات لمؤلفين من امثال علي الخاقاني وكاظم الكفائي وصادق الازدي والملا عبود الكرخي / وتبعتها صحف ومجلات من مثل : مرقعة الهندي الكشكول البهلول حبزبوز المتفرج الفكاهة مجلة الغرائب البصرية .. ونظن انه اسلوب لا يخلو من التورية في زمن استفحال واسقاط الحريات الشخصية مثلما فعل العديد من رسمي الكاركاتير في الحربين العالميتين الاولى والثانية .
ولعل هذا الامر هو حصيلة تقصيات الساحة النقدية ، لاسيما وفطن لها ونوه عنها مارسيل بروست في (البحث عن الزمن الضائع )بمقولته المأثورة : (انا جسدي) بمعني اني ومن خلال جسدي اعبر عن ذاتي ، وامد جسوري الى الآخرين ، نعم هكذا يتحقق التأصيل الذاتي . وهو ذات الامر الذي عززه (كورتيس) بقوله المأثور : (ليس هناك زمنٌ ضائع ولا زمان مستعاد في البحث ولا يوجد سوى زمن بل ماض وبلا مستقبل ، وهو الزمن الخاص بالإبداع الفني . لذا فان التورخة في البحث بالغة الغموض ، مقتضبة جدا ، لماحة براقة ، تارة واسعة شاسعة ،تارة مختصرة ، تارةً مدورة ، ابدا خطية ، وبالطبع ، ابدا متورخة)
اما حلم القاصة المبدعة الق محمد ( في الحقيقة والواقع) التي غلبت من خلاله سيلا من عبارات افصحت عن حالات الاذعان النكوص التشاؤم الذي وظفته بطريقة ذكية ناضجة جعلت من هذه المفردات بمثابة الخميرة التي ماسكت كعكة النص دون ان يشعر القارئ بملل او حتى فسحة من شرود ذهني فكانت طريقة توظيف التأثر والتأثير الهتشكوكية موفقة وهي تحاول ان تخرق دائرة السرد الشكلية لتمتطي ميتا النص وكان مؤثرات السينما الهوليودية بائنة على ثقافتها (اللعبة / we need to do something/ mad hatter / doctor sleep/ follow me الامر الذي يذكرنا بجرأة الدوس هكسلي في هذا المجال او نصوص اناتول فرانس فلقد جاءت هذه المستعملات – التوظيفات النصية لتفصح عن حالة متمركزة في الاعتمال الحسي للفرد : الحي المهجور / غرابة التصميم المخيف / الحزن الوجع الخوف / الحلكة الدامسة / الخطوات الوجلة / الظلام / البؤس / الوجع / المكان الادهمي النتن / السماء التي تمطر دما / دمى مقطوعة الرؤوس / العينين المتورمتين والدم الذي يسيل منهما / صرير الابواب / تعالي الانفاس / القلق / الاشباح / اغطس راسي بين ركبتين مرتجفتين …
كما يمسك القاص اسعد خلف بتلابيب ونثار قشته التي نقلته من محور المصادفة الى مكان التسليم ، وهو المتأرجح بين لسعة العصا ونيل الرضا ، وكأن هذا القول السجعي قد حفزه على اعتماد الوصف الدقيق الذي افاض بإبداعه الدقيق وتكلل بمقدرته في فن الاختزال والتكثيف ، ليمعن في حالة سردية يجتهد بها ، وهو ينطلق من احادية النص وثبوتيته بعيدا عن حالات التشظي الايجابي التي تجعل من احداث نصه خاضعة للتهويمات والشطحات التي نجدها في نصوص اخرى ، تبتعد عن الترابط المحوري ، وايديولوجية النص التي دائما ما تحقق له مكانة خاصة .. وتتجلى مهارة السارد في عملية الانتقال من مرحلة الطفولة والفهم المبكر ، الى خصوصية فن الغلق / فن المسك / فن الحسم .. او ما اسميه (مشاكسا) حسن الخاتمة ! كل ذلك يصب في الرقم( 32 ) اثنين وثلاثين ، الذي كان يؤلف الثيمة الوحيدة للنص السردي ، والسمة اليتيمة ، له بعدما طافت وجالت كل العبارات والجمل حول هذا الفلك الثابت المتحرك :
آخر سؤال كان بجدول الضرب- ما هو ناتج8×4؟ / من يومها أصبح العدد أثنان وثلاثون المحبب لي وبات أشبه بقرار التمييز الذي يلغي عقوبة الاعدام / واكتشفت أن عدد حروف مدرستي ثمانية عدد حروف اسم معلم الرياضيات أربعة وحاصل ضربهما / واقف طويلا عند كل من يخطأ بالعدد أثنين وثلاثين وأبتسم وأخفي سر أبتسامتي / لاحقني الهوس فأحببت المقعد 32 في الحافلات والقطارات والصفحات التي تحمله الروايات والقصص ودواوين الشعر، فاحفظ محتواه على ظهر قلب/ حين دخلت العام الثاني والثلاثين أقمت أحتفالاً أعلنت نفسي رجلاً قبل الأربعين/ أقمت علاقة صداقة مع شخص من قطاع 32 / : أقدم لك صديقي (محمد),أخ عزيز ووفي، أنه من أهالي ……( صمت ثم أبتسم دون أن يكمل التعريف) حتى ظننت أنه نسى من اين انا ، بعدها تدارك الأمر مكملاً، أنه من أهالي جنوب خط ٣٢ .
اظن ان على ضوء ما وقفنا عليه من نصوص ، تتأسس قراءة جديدة خارجة عن القراءة المفتتح / القراءة الاولى / القراءة الخام / القراءة الاضاءة .. او مثلما حسمها (بوسان) النظر السمع القراءة . وهو يجد ان لغة متمفصلة بين النص والموسيقى والرسم ، او ما اسماه بنظرية التمفصل المزدوج في الالسنيات ، ففي الوقت التي تشير الحروف الابجدية لتشكيل الكلام والاعراب عن الافكار ، تشير ملامح الجسد البشري للتعبير عن شتى اهواء النفس لإخراج ما هو مكنون في الروح ، واظهاره في الخارج .