يتميز دور الشهيد يوسف سلمان يوسف ( فهد) بالريادة في مشروعه الفكري – الثقافي والاقتصادي والسياسي في مجتمع تنتشر الامية بين اغلب مواطنيه وتدني الوعي الثقافي والاجتماعي ، وكانت افكاره ورؤاه تستند الى الواقع العراقي الملموس من خلال دراسة عميقة ومعايشة لمجريات الحياة اليومية ،وهو في كل توجهاته السياسية والفكرية كان ينهل من معين متجدد ، اساسه حركة الحياة العراقية في نموها وتطور الفئات والطبقات الاجتماعية فيها، بالاستفادة من ارقى النظريات المعروفة انذاك متمثلة بالنظرية الماركسية ، وانجازات اللينية في الاتحاد السوفيتي الوليد ، وكان من خصائص انتاجه الفكري الذي تركه بعد رحيله المكلل بالبطولة والشجاعة ،ميله الى تشخيص امراض المجتمع العراقي ، ومعالجتها دون الاشارة الى معتقده الايديولوجي ، أي انه كان يحرص على توظيف ثقافته العميقة من اجل نشر الوعي السياسي والفكري على ارضية واسعة ،لهذا الغرض وليس لغرض الكسب الحزبي او الدعاية لافكاره ومبادئه وايدولوجيته الخاصة وبذلك نرى ان الشهيد فهد لم يكرس نفسه كقائد لحزب ،بل ان مجمل نشاطه كان مقترنا بالاتجاه الوطني العام وبهذا المعنى ترتفع هامته ليكون قائدا وطنيا عراقيا ،ينسلخ من حزبيته الخاصة تجاه التيار العام الذي خلد العشرات من امثاله من القادة الوطنيين ، الذين بدأوا ضمن احزاب وتجمعات لكن مشاريعهم التنويرية اهلتهم لان تعلو اسماؤهم سماء الوطن ويصبحوا من قادته.
ويتضح الدور الوطني للشهيد فهد من مجمل كتاباته ونشاطه السياسي والفكري فهو اول من نادى بضرورة الحفاظ على الحركة الوطنية وتقويتها في شعاره المعروف ( قووا تنظيم حزبكم ، قووا تنظيم الحركة الوطنية) ، وفي نص الرسالة التي بعثها الى الاعضاء الجدد في الحزب اكد على ضرورة ان يحب الرفيق شعبه ووطنه وان يكون في مقدمة المناضلين من اجل حريته وعزه ومن وصاياه ان يحترم الرفيق تقاليد الشعب وامجاده ومفاخره وان يحترم العلماء والفنانين والادباء (دون الالتفات الى قومياتهم او اجناسهم )ودعا في نفس الرسالة الى الدفاع عن حرية الفكر وان يكون جريئا في (قول الحق وانصر المضطهدين والمستثمرين).
لقد كان مشروعه السياسي والفكري علامة مضيئة في تاريخ الحركة الوطنية العراقية ، وقد استطاع عبر عمره القصير ان يرسخ تقاليد الوطنية والديمقراطية ومبادئ الدفاع عن مصالح الناس الفقراء والانتصار لحقوقهم المهضومة ،اضافة الى ترسيخ هذه المبادي في افكار وقلوب المنتمين الى الحزب الذي اسسه ، وهذه المباديء والافكار والشعارات سرعان ما اصبحت ثوابت في نضال الحركة الوطنية العراقية منذ ذلك الوقت والى يومنا هذا .
نموذج من كتاباته
البطالة اسبابها وعلاجها
تشكل البطالة ظاهرة اجتماعية – سياسية خطيرة لما تسببه من امراض اجتماعية مخيفة كارتفاع سقف الجريمة والشذوذ والتطرف واعمال العنف والارهاب فهي حاضنة مهمة لكل هذه الامراض ، ومنذ اربعينيات القرن العشرين لاحظ الشهيد يوسف سلمان يوسف خطورة البطالة وكتب عنها محللا اسبابها ، موضحا الحلول الناجعة لعلاجها ، ونلاحظ ان تحليله لاسباب البطالة ينطلق من علاقة الاقتصاد العراقي بالاقتصاد العالمي الحر الذي يمر بأزمات دورية ، وهو يقول ان البطالة ( ظاهرة اجتماعية مرتبطة بالنظام الاجتماعي ( السياسي والاقتصادي)القائم في قطرنا الذي تؤلف اقتصادياته ( الأجنبية والوطنية ) جزءا من الاقتصاد الرأسمالي العالمي ص5) ويضيف ( فالبطالة إذن لا يمكن البحث في أسبابها وعلاجها دو البحث عن العوامل المحركة لاقتصاد قطرنا كجزء من الاقتصاد الاحتكاري العالمي ..ص5) ومن مظاهر ارتباط اقتصادنا بالاحتكار العالمي الضعف الحاصل في تخصيصات رؤوس الاموال الكبيرة في الانتاج الصناعي وعدم الاعتماد على الأيدي العاملة الفنية المتخصصة التي (يخاف منها الاستعمار) إضافة إلى توجيه الاقتصاد الوطني ( نحو إنتاج الصنف الواحد أو الأصناف المحدودة التي لا تجد لها سوقا مفتوحة ص6) وان البضاعة الوطنية لا تجد الحماية من منافسة البضائع الأجنبية ولا تجد التشجيع اللازم لتطورها وكل ذلك يرتبط بإنتاج زراعي ذو الصنف الواحد يخدم مصالح الأجنبي .
وإذا تأملنا الفقرات السابقة سنجد أن من أسباب ضعف الاقتصاد العراقي حاليا افتقاره إلى التخصصات المالية الكبيرة وعدم حماية المنتج المحلي من منافسة البضائع الأجنبية التي أصبحت اليوم هي السائدة في السوق العراقية في المجالات كافة مما أدى إلى عزوف الصناعيين والمزارعين عن الإنتاج ،يضاف الى ذلك ان التخصيصات المالية للصناعة والزراعة والبنية الاقتصادية التحتية تمثل جزءا يسيرا من الميزانية العراقية السنوية التي تبلغ المليارات وكأن تنبيهات الشهيد منذ اكثر من سبعين عاما ما زالت حية وطازجة لغاية اليوم .
واذا تاملنا الفقرات التي تسفر عنها البطالة وضعف الاقتصاد العراقي واعتماده على البضائع الاجنبية سنجد ان هذه المظاهر السلبية ما زالت سائدة لغاية اليوم ، حين وصف الشهيد مشاهد البؤس والحرمان التي تفترس الناس العاطلين عن العمل (ومشكلة البطالة لم تتقدم خطوة واحدة نحو تخفيفها والعاطلون يوعدون ،ويوعدون بطونهم خاوية والمحاكم تحكم لدائنيهم وتحكم برمي أثاثهم وبإخراجهم من غرفهم التي عجزوا عن تسديد ايجاراتها ، ودوائر الإجراء تحجز ما تبقى لهم من اثاث وترسل بهم الى السجون لعجزهم عن تسديد ديونهم ..ص13) ان هذه المأساة التي اطلق عليها المؤلف (تراجيديا لا تعرف لادوارها نهاية ) تذكرنا بالعشوائيات التي اقيمت بعد التغيير والمشاهد المأساوية التي تبثها الفضائيات كل يوم عن أطفال الشوارع وهم يملئون الأسواق بعرباتهم الصغيرة بعيدا عن مدارسهم !!
يناقش مؤلف كراس البطالة فكرتين كانتا من الأفكار التي (تنادي بها جهات وطنية دون درس دقيق لمشكلة البطالة ..ص8) أولى الفكرتين تحاول إنكار وجود بطالة في العراق بوصفه قطرا زراعيا ( وأصحاب هذا الصنف هم من رجال الدولة المسؤولين ونظرياتهم تعتبر من سياسة الحكومة ) ولسان حالهم يقول أن قطرنا بلد زراعي وليس ( من سياسة حكومته الآخذ بفكرة التصنيع او تشجيعها ) وعندما يسألون عن إجراءاتهم لمعالجة البطالة في العراق يقولون(ليس في العراق مشكلة بطالة لان بلادنا غنية وفيها خيرات كثيرة ص10) ويعلق الشهيد متهكما (إن في بلادنا خيرات كثيرة …وأنها غنية بكنوزها المعدنية النفط وغيره …هذا صحيح ..ولكن لمن هذه الخيرات ؟ونصيب من أصبحت كنوزنا ؟ ص10) وصرخة الاستنكار والتهكم هذه تتخطى الزمان إلى واقعنا الراهن لتحمل مغزاها دون جواب حين بلغت صادراتنا النفطية المليارات !!
اما الصنف الثاني فهم ( من الوطنيين المشتغلين بالسياسة وهؤلاء يتكلمون وينبهون وينذرون بعواقب تفاقم مشكلة البطالة ..) لكنه يعيب عليهم عدم معرفتهم بالأسباب الحقيقية وراء تفاقم البطالة ، ويرى وجود ( بعض المتطفلين على الموضوع ) الذين يتصورون ان سبب مشكلة البطالة هو ( طمع المنتج العراقي ( صاحب المعمل)ورداءة المنتوج المحلي وعجزه عن منافسة البضاعة الاجنبية ) مؤكدا ان اسلوب التفكير هذا ( يدل على جهل عميق بالعوامل التي بعثت مشكلة البطالة )ذلك لان تحسين المنتج لا يتم بإرادة صاحب المعمل دون النظر إلى ( وجود عوامل خارج المعمل تقرر أثمان المنتوج وجودته وتقرر في الوقت نفسه مقاومة المنافسة الأجنبية ام الانهزام أمام بضاعتها ص13).
وتكمن الاسباب العميقة في انتشار البطالة وعدم القدرة على معالجتها ،في مظاهر السيطرة الاجنبية على اقتصاديات العراق والسيطرة الكاملة على ثرواته النفطية ، وهو يلاحظ ان الاحتكار الاجنبي للنفط (قضى بان لا تنشا صناعة نفطية حقيقية عندنا ) ويؤكد (ولو كان نفطنا بأيد وطنية أمينة أو بأيد وطنية – أجنبية على أساس العدل والتساوي – لما عرف العراق ازمة البطالة القائمة اليوم ، ولتغير وجه العراق الاقتصادي والاجتماعي ، ولتأثرت جميع صناعاته وانتعشت ولتوفرت لنا الثروة للقيام بالمشاريع العمرانية وبصورة خاصة مشاريع الري التي سبب ويسبب فقدانها هذه الفيضانات والخسائر الناتجة عنها ، فالتفتيش عن داء البطالة يجب ان يجري في حقول النفط ، قبل أي مكان اخر …ص15). لقد تعمدنا اقتباس هذا النص من الكراس لانه يتضمن ،برنامجا وطنيا كان في طوق الاحلام قبل اكثر من سبعين عاما ، وقد بدأه الشهيد بحرف الشرط (لو) الذي يعني امتاع لامتناع ، لكن هذا الحلم المستحيل انذاك اصبح برنامجا للحركة الوطية العراقية منذ الاربعينيات وحتى قيام ثورة 14 تموز التي اصدرت القانون الشهير ( قانون رقم 80) الذي حرر معظم الاراضي النفطية من ايدي الشركات الاجنبية ومهد لتاميم النفط في سبعينيات القرن العشرين ، وقد اصبحت احلام هذا الثوري حقيقة ملموسة بعد ان اصبحت الثروة النفطية بايد عراقية ، لكن بقية الاحلام ما زالت تراوح ، ولم تجد طريقها للتطبيق ، فما زالت الصناعة النفطية ضعيفة على الرغم من اعتماد البلد على النفط كمصدر اساسي في حياتنا ، اما مشاريع الري ، والمشاريع العمرانية و( عدم تطور الصناعة الوطنية ص22) التي ما زالت منذ عشرات السنين تؤشر على مراوحتها ، وهي – حسب وجهة نظر المؤلف- احد اركان التقدم الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في العراق .
يقول الشهيد فهد (ان الكفاح ضد البطالة يجب أن يقترن بالكفاح في سبيل التصنيع – الصناعة الوطنية لا الأجنبية – وهذا لا يتحقق ما لم تتبع المؤسسات الحكومية ذات العلاقة – المباشرة وغير المباشرة – بالصناعة سياسة وطنية تستهدف التصنيع …ص23) وهذا الخطاب يتجه من الماضي البعيد الى الواقع الراهن ، وكأن المؤلف عراف بطبيعة ( الوطنية العراقية ) التي لا تفهم غير مصالحها !!
ومن الاقتراحات التي يوردها المؤلف لتنشيط الصناعة الوطنية :
– انشاء هيئة وطنية مؤلفة من رجال رسميين وغير رسميين من اصحاب الصناعات ومن نقابات العمال هيئة يكون لها سياسة وطنية واضحة ولها صلاحيات واسعة ص23
– فرض الضرائب والرسوم واجور النقل وغيرها وفقا لسياسة وطنية تستهدف حماية المنتوج الوطني
– اعفاء الالات والمواد الخام الضرورية للصناعة من الرسوم الكمركية
– وهو لا ينسى ان يوجه الناس الى البضاعة الوطنية (ومن الوطنية ان يساهم جمهور المستهلكين في تشجيع الصناعة الوطنية بالاقبال على منتوجاتهم ولو كانت – في باديء الامر – اقل جودة من البضائع الاجنبية .ص 24- 25)
ولا ينسى الكاتب القطاع الزراعي فهو يعتبر النظام الاقطاعي الفاسد في الريف ( من اهم العوامل – بعد العمل الاستعماري – المسؤولة عن تاخر الصناعة في القطر وبالتالي مشكلة البطالة وتشديدها ص26) وفي هجرة سكان الريف الى المدينة بعد ان اصبحت حصة الفلاح ( دون مستوى الكفاية ) ، ثم يرى ان هذه الحصة البسيطة قد اغرقت العائلة الفلاحية بالديون مما جعلها عاجزة ( عن شراء ابسط الضروريات من المواد الصناعية (..)وهذا يعني ان السوق الداخلية للمصنوعات الوطنية قد فقدت نتيجة لفقر الفلاح مجالات واسعة لتصريف البضاعة الاستهلاكية ولوسائل الانتاج التي يحتاجها الفلاح لعمله ص26)
وهناك اقتراحات اخرى لعلاج مشكلة البطالة منها :
– الغاء اسلوب العمل بالقطعة
– منع تشغيل الأحداث
– رفض العمل الإضافي
نلاحظ اخيرا ان كراس ( البطالة اسبابها وعلاجها ) بعدد صفحاته القليلة ( 39 صفحة من القطع الصغير) كان اسهامة عميقة في التعريف بهذا المرض الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الخطير الذي ينخر في جسد التجمعات البشرية في كل ارجاء العالم ،في كل الازمان . وقد استطاع مؤلف الكراس الشهيد فهد ان يشخص اسباب البطالة ( على وفق الظروف السائدة انذاك) وان يتخطى هذه الاسباب تجاه المستقبل خصوصا فيما يتعلق بعلاقة البطالة بالنظام السياسي وارتباطه بالمنظومة الراسمالية العالمية وما تفرزه من ازمات دورية او من خلال الكساد العالمي ، وقد ابدع فكره الخلاق في ابتكار اساليب ومقترحات – كانت بمثابة احلام انذاك – لعلاج البطالة ولتصبح هذه الاحلام بعد اكثر من سبعين عاما على استشهاده ،دليل عمل للحزب وللحركة الوطنية العراقية ،منها ما تحقق فعلا كتحرير الثروة النفطية ، وبناء صناعة نفطية ما زالت متعثرة لكنها ستنمو وتنتعش بالتاكيد ، ومنها ما يزال منتكسا يحتاج الى علاج .