أسماء الرومي واحدة من الشواعر اللاتي أفردن مساحات شاسعة للغوص في بحور الوجع الإنساني، وتفردت بتجربة رسمت من خلالها بالكلمات إحساس الانثى بواقعها المقيد، وأزمنتها الضائعة، فهي وفي كتابها الشعري (لا عكاز للحياة) تجمل كل تلك المعاناة في صور مختلفة لترينا كم هي مؤلمة تلك الحياة.
ما يميز كتاب الرومي الشعري، هو البناء الدرامي لأغلب نصوصه، فهي تنسج مما خزنته الذاكرة صورا شعرية ذهنية وحسيّة، تجعل القارئ قريباً منها، أي النصوص، فضلا عن خزين التمرد والاحتجاج والهروب من الواقع نحو ناصية الحلم والأمنيات، والخوض في رحم المعاناة الانسانية التي اختزلت الحياة بأكملها.
واذا اعتبرنا ان عتبة الاهداء التي تتصدر كتاب أي كاتب كونه، أي الاهداء، كما يقول الناقد والمنظر الأدبي الفرنسي جيرار جينيت (١٩٣٠-٢٠١٨) (يهدف الى خلق نوع من صلات الاخوة وروابط المودة وتمتين عراها بين المهدي والمهدى إليه) فهي لا تهدي كتابها الى أي أحد، تهديه لذاتها: (الاهداء… لي) وهذا ما يبرر لنا ما رافق النصوص التالية من وجع إنساني فريد. واذا كانت مفردة (لي) تعني الشاعرة، فهي تمتد الى كل الذوات المتوجعة في أزمان مختلفة.
جاء عنوان الكتاب ملفتا (لا عكاز للحياة)، والعكاز هنا كما هو معروف في اللغة (العصا التي يتوكأ عليها)، أو يستند بها، فهو اشارة من خلال (لا) النافية للوحدة، بمعنى، ان لا أحد يمكن أن تستند/تتوكأ عليه الحياة، وبهذا يمكن للحياة أن تكون متعبة في استمرارها،
اغلب عنوانات قصائد الكتاب، جاءت على شكل مقاطع شعر، وصور، تتيح لما بعدها كمفاتيح لمتن القصيدة، مثل:
في داخل كل منا صنم.. يكسرنا كل يوم ولا نشرك به (ص١٧)
حفظنا الوصايا ونسينا الطريق. (ص٢٩)
لا ينجو من الحرائق سوى الرماد. (ص٥١)
أولى القصائد التي تضمنتها المجموعة حملت عنوان الكتاب (لا عكاز للحياة)، وقد سبق العنوان اشارة (كلما بحثنا عن الحقيقة تشوهنا! (ص٧)) وهو مدخل لا يقبل الشك في أن الحقيقة التي نتوق الى معرفتها ستفضي الى ما لا نرغب فيه، ومن تلك الحقائق، هي حقائق الحاضر، لهذا يحيلنا النص الى استذكار الماضي، وكشف منابعه ومساراته، والحنين له كونه ملتصق بنا، وكما تشير اليه الكاتبة الانجليزية فرجينيا وولف (١٨٨٢-١٩٤١) بقولها: (يمكنني أن أذكر فقط بأن الماضي كان جميلاً لأن لا أحد يدرك أبداً ما هي العاطفة في ذلك الوقت، تضاعف هذا الأمر لاحقاً وبالتالي فنحن لا نمتلك عواطف كاملة عن الحاضر، وانما للماضي فقط). لهذا فقد اتجهت بوصلة النصوص نحو الماضي الذي يبدو جميلا، مشعاً:
(تلك القصاصات الصغيرة تعيدني لصباي
للدمى
لعريها الذي طالما أقلقني
لكلّ الفساتين التي خطتها لها
للحب الذي وهبتها
لأسفي على ضياعها
وضياعي بعدها) ص٦٤
من البيت الذي انبلج عمرها فيه تبدأ قصيدتها:
بيتنا الذي بناه أبي
من خشب وبردي
كان واسعاً
بغرفة واحدة
وفناء ضيق لا غير (ص١٠)
استخدمت الرومي مفردتين متناقضتين في مدخل النص هما (واسعاً وضيّق)، فهذا البيت كان واسعا بفناء ضيق، وغرفة واحدة، وهنا تأتي الاشارة الى ان ما كان واسعا، ليس البيت بصفته المكانية، انما بالاطمئنان، والراحة، والسعادة التي تكتنف من هم فيه.
اشتغلت النصوص على المفارقة اللفظية أو التضاد في أكثر من مفصل، وبأسلوب مختلف، كبنية نصيّة، ولمحة صافية، تتصف بالحرية والهدوء على حد قول الألماني توماس مان، حيث تحيل القارئ الى الحقيقة المرة المراد ايصالها ببلاغة متقنة:
(الحقيقة محض وهم
والوهم كل الحقيقة
فطوبى للغارقين بالخطايا
وتعسا لنا) ص١٣
(لا أحب الفشل
وأفشل دائما سوى في أن أكون فاشلة) ص١٦
(أعشق الحياة
وأمارس الموت طقساً لأنجو) ص١٦
(لست سمراء
إلا أن قلبي يحمل من السمار ما يكفي
لجنوبيته) ص١٨
(صنعت قوارب عديدة
وخطت أشرعة مختلفة
كبيرة
وصغيرة
لكنني لم أعبر نهراً واحداً) ص٧٥
ولم تكتفِ الرومي بهذه المفارقات، بل حاولت اعادة تشكيل الذاكرة (أريد أن أفصل ثوباً جديداً لذاكرتي) وهذا الثوب منقّعا بالخوف من مجهول آتٍ:
(سأعلم أولادي على الخوف
وكيف يتخلون عن أحلامهم
من دون مقاومة
سأعلمهم الخذلان والانصياع للجهل
والا يموتوا
من أجل الحياة) ص٢٢
واذا كان الأولاد هم الجيل الذي سيبني المستقبل، فليس عليهم أن يموتوا من أجل الحياة، وهي اشارة واضحة لتلك الشعارات التي طالما ألفناها، وسمعناها، فالعيش من أجل المستقبل هو المبتغى، لكنها هنا تنتفض على الحاضر المحشور في زاوية الجهل والخذلان، وتبحث عن من (يعيد اتزان الكون)، و(يفقأ عين الظلام)، و(يطلق سراح الخفافيش من أقبية الجماجم).. ذاك لأن الارادة تحتاج الى من يوقظ أولئك الذين عشعشت في جماجمهم الخفافيش.
في قصاصاتها، يتضح الاحتجاج الكبير، والأمنية التي من الصعب تحقيقها، وستبقى مجرد أمنية حالها حال الأماني التي تبخّرت..
(لو يمنحني الله المقود
لبضع دقائق
بضع دقائق فقط
لمحوته بثانية
وأحدثت ثقباً في القاع
ورجوت الله
أن يغفر فعلتي) ص٣٤
هذا النص الاحتجاجي يحتاج الى وقفة، بدءاً من الجملة التاكيدية (بضع دقائق فقط)، وليس انتهاءً بالاستغفار المبني على الرجاء. وهنا لا بد من السؤال: ما الذي سيتم محوه؟ المحو كما معروف هو ازالة الأثر، والأثر هنا هو الخراب الذي حل في القاع، والقاع هو جذر المكان، فكثير من الأفكار والخرافات تنبع وتعشعش في القاع. هي إذن مجرد أمنية، ننتظرها زمناً طويلاً:
(فجأة
صار شيخاً
ذلك الصبي
حين وضعوا جثة الأماني بين يديه
لم يعد يعرف
كيف يحرر قدميه ليخطو
أو كيف يشرح
كل تلك التجاعيد) ص٥٩
ومن المفارقة الكبيرة ان تعيش وسط واقع مر ببراءتك المعهودة فيما تدور حولك الأخطار ولا شيء لديك سوى قلب يشبه الطائر المولود في قفص:
(من أين له أن يعرف عطر الشجر
ومن أين له أن يدرك خطر الغاب؟ ) ص٦٣
تتلاعب الشاعرة هنا بالألفاظ، فيما بين المعرفة والإدراك يكمن الخوف المستمد من (خطر الغاب) الذي يوازي (عطر الشجر).
(لا شيء يذكر
غير أني
وبعد كل تلك الفخاخ
أشعر بعوق المدينة) ص٤٨
وهذا تأكيد على أن هناك كثيرا من الفخاخ وسط ضياع المدينة التي تعاني من عوق خاص والذي قد يودي بها الى السقوط:
(أخشى ما أخشاه
أن تتعثر
ونسقط جميعا
في مهب الضياع) (ص٤٨)
الخشية هنا هي خشية جمعية، يشترك فيها الجميع، لكنها الوحيدة التي ترى الأثر حيث (لا عاصم من الخوف واليأس):
(حين تفقد صلاحيتك
عند كل ما حولك
وتصبح عاجزا عن كتابة وجعك
تزاول الصمت..) ص٤٩
هل هو الخوف الذي يجعلنا (راضين بكل الفراغات التي تجتاح حياتنا)، أم هي العزلة المراد منها ان لا يرى أحد أوجاعنا وأن لا (يتهمنا الآخرون بالتشاؤم) ؟
تحمل نصوص كتاب (لا عكاز للحياة) أوجاعا مختلطة، وتغور في عمق النفس البشرية في محاولة لاستكشاف تلك الاوجاع التي غدت لازمة في كل نص:
(اكره درس الجغرافيا
لأنه يذكرني بجوعنا الوفير
وتضاريسنا المغرية
وعطشنا الغزيز) ص٥٨
تلك الوقفات التي تجبرنا على استعادة ذاكرتنا لنبشها، واستخراج ما يمكن أن يكون بلسماً لحياة مقبلة. فالحياة لم تعد الا فراغاً مستداماً، وتحسّباً من الآتي الذي سيكون بالتأكيد ليس أفضل من ما مضى:
(لا تستغرب حين أقول
إنني أعيش فراغاً تامّاً،
فراغاً يتسع كل يوم..) ص٦٠
الفراغ هذا الذي اتسع، ملأ كل الحياة، وصار لزاما علينا أن ننتظر ونرى أي الطرق التي ستأخذنا أقدامنا اليها لننجو:
(أنا هنا خارج نطاق الحياة
وخلف أسوار الموت
أنا هنا
لا أدري أين) ص٧٠
تلك التوجسات تأخذنا الى كثير من الاسئلة الكونية التي يعتريها الخوف والقلق، وهي أسئلة مشروعة لعقل سليم.
(ثمة ما يخيفني من قادم الأيام)
(ثمة ما يجعلني أكثر حيرة من السابق)
(ثمة ما يمنح العالم وجهاً آخر)
بقي أن نقول أن كتاب (لا عكاز للحياة) للشاعرة أسماء الرومي اعتمد على استرجاع الماضي ومحاكاته واستخدمت صوراً شعرية/ فنية بأشكال متعددة، ذهنية وحسّية، من خلال المجاز والاستعارة والتشبيه وما الى ذلك، وهو أمر لابد منه في الشعر وقد قال الجاحظ في هذا (الشعر فنٌّ تصويري يقوم جانب كبير من جماله على الصورة الشعرية، وحسن التعبير) وقد أحسنت الرومي باستخدامها كل تلك العناصر التي قرّبت المعنى للمتلقي وحققت لذة القراءة.
—–
لا عكاز للحياة، أسماء الرومي، دار كيوان للطباعة والنشر والتوزيع سوريا- دمشق، ط (١) ٢٠١٩