(1)
اذكر حدثا مهما في السنة الاخيرة من العام الدراسي في الثانوية ( عام 1962)،وكان عمري انذاك لم يتجاوز التاسعة عشرة ، حين تظاهرنا في المدينة تاييدا لاستقلال الجزائر، وخلالها قامت مديرية الامن باعتقال مجموعة من زملائنا واودعوهم في موقف رقم 4 في مركز شرطة البصرة الواقع في سوق البصرة القديم قريبا من محلات القصابين الان ولم اكن معهم ، في اليوم الثاني من الاعتقال جاء مجموعة من شرطة الامن الى الثانوية طالبين مقابلتي واقتيادي الى مديرية الامن في البصرة.كان الدرس مخصصا لامتحان الرياضيات ، وكان الامتحان الاخير الذي يؤهل الطالب للدخول الى البكالوريا ( الخامس الاعدادي في تلك السنوات)،وكان مدرس المادة الاستاذ ابراهيم الاصيبعي مدرسا جادا ،وكفوءا في تدريسة للمادة ، كنا نعده ( عبقريا في الرياضيات)،وكنت احد الطلاب المتميزين في درسه.
حين مثلت امام مدير المدرسة ( الاستاذ كاظم العمار)، وعرفت منه ان مديرية الامن ارسلت احد شرطتها لاقتيادي اليها، تحججت بالامتحان عسى ان اجد مخرجا ينقذني من هذا الامر،طلب المدير شهادة مدرس الرياضيات الذي اكد ذلك، فسمح لي بالامتحان ، لكن الخوف والتفكير بما سيحدث لي،شل قدرتي على الاجابة على الاسئلة وكان الاستاذ يراقبني ويشجعني قائلا: الاسئلة سهلة وانت قادر على حلها،ولكني لم استطع وحين سلمته اجابتي رجوته ان يساعدني في الدخول الى الامتحان الوزاري.
حين اذكر اعتقالي تلك الايام استغرب من حكومة تدعي الوطنية، ومدعومة من الشعب – كما بدا لنا تلك الايام- تضع سطوتها وقوتها في اعتقال طالب لايتجاوز عمره تسعة عشر عاما بوصفه ( سياسيا مخيفا ) لها،وينبغي لها احتجازه لشل نشاطه السياسي،مع مجموعة من الطلاب اغلبهم بالعمر نفسه !! وحين اذكر ذلك،اشعر بتفاهة الحاكم الذي مجدناه وصفقنا له طويلا، وحين سقط في الثامن من شباط عام 1963 خرجنا رجالا ونساء للدفاع عنه واستنكارا للانقلاب، وتعرضنا الى الاعتقال والتعذيب، وبعض من الرفاق الشيوعيين ماتوا تحت التعذيب او الاعدام بسبب قربهم وتايدهم للزعيم ( الاوحد).
اقتادني شرطة الامن الى مديرية الامن في العشار ، وهناك جرى التحقيق معي، كانت جريمتي وكذلك اصدقائي الذين سبقوني الى التوقيف هي المظاهرة لتاييد استقلال الجزائر،وكانت الحكومة وقتها مع تحرير الجزائر من الاستعمار الفرنسي، ولكن لم هذا التناقض في السياسة!!
ركز مفوض التحقيق على اعطاء البراءة من الحزب الشيوعي ، وكان ذلك احد الشروط لاطلاق صراحي، تحججت انني لا انتمي للحزب ولذا ارفض البراءة منه، وكان ردي هذا مبررا لاعتقالي، فهو الدليل عندهم على انتمائي، كان الهدف من الاعتقال هو ( اسقاط) الهوية الحزبية من المنتمي لانهم يعرفون ان البراءة وهي تاخذ طريقها سريعا الى الصحف الصادرة انذاك ستسبب في فصل الشخص من الحزب،فقد كان الحزب يتخذ قرارا باسقاط عضوية كل من يقدم براءة منه، وكانت ( عقدة البراءة) قد اسهمت في العديد من الازمات النفسية لدى الشيوعيين الذين يضطرون الى اعطائها بسبب ظروفهم العائلية او الاقتصادية لانهم يعيلون عوائلهم، ولم ينظر الحزب الى هذا الامر بجدية ويتخذ قرارا لصالح اعضائه،فاصبحت البراءة وصمة عار في جبين الذي يقدمها، فيصبح منبوذا من اصدقائه ومن المجتمع الذي يحيط به، كنت اعرف ذلك ولذا صممت ان ( اصمد) على وفق توصيات الحزب، دون ان انتبه الى عائلتي وفقر حالهم وما سببته لوالدتي بشكل خاص من اذى وعذاب تحملته طيلة اعتقالي الذي دام ثلاثة اشهر.
من المصائب ( الان الطرائف) التي صادفتني في مركز شرطة البصرة حيث مكان التوقيف في القاووش رقم 4 ان مفوض الشرطة نظر لي نظرة استخفاف وعلق قائلا ( انت هم تريد تصير رئيس وزراء) ساخرا من جسمي الضعيف وقصر قامتي، في حين بادر مفوض الامن ( الضخم والسمين)، بضربي ( راشديا) قويا على وجهي مستنكرا عدم اعطائي البراءة ، .
استقبلني زملائي في التوقيف مرحبين، وكانهم في بيوتهم، وكنت سعيدا لاني خرجت من التحقيق دون براءة. وخلال تلك الفترة التي استمرت ثلاثة اشهر كان علي ان ادرس تحضيرا للامتحان الوزاري فقد عرفت من عائلتي دخولي للبكالوريا مكملا بدرس الرياضيات،وحينها تاكدت ان استاذ الرياضيات لم يجاملني ، ولم يساعدني.
كانت فترة الاعتقال مناسبة معرفية وثقافية وسلوكية ،تعرفت فيها على تجارب وافكار وبنيت فيها علاقات مع اناس جربوا الحياة قبلي،من خلال نشاطات عديدة: محاضرات عن الاقتصاد والسياسة والادب، نشاطات مسرحية كان بطلها جميل الصباغ الذي كان ممثلا ممتازا وحفلات غنائية كان يؤديها عباس البصري ( الذي اصبح فنانا معروفا )،بصوته الذي يشبه صوت ناظم الغزالي، ونقاشات عن الشعر ، كنا – انا وبعض اصدقائي من محبي الادب- نقيمها مع الشاعر فيصل السعد الذي غادر العراق الى الكويت بعد خروجه من المعتقل وما زال فيه الى الان،كنا نعتقد انه يدعي الشعر ولا يعرف اوزانه، ولذا ساله احد الاصدقاء عن قصيدة ادعى كتابتها وهل هي موزونة، فاجابه بعد ان استمع الى قراءتها بالنفي، مما اضطرنا الى الضحك والسخرية منه فقد كانت القصيدة للشاعر عبد الوهاب البياتي!!
لا استطيع ان انسى ذلك المعتقل اليهودي الذي لانعرف اسمه ونسميه ( عبد الله) ذلك الرجل الصامت ابدا،فقط ينظر الينا بعينين كدهما التعب والسهردون ان يشاركنا، وتبدو على وجهه علامات التعذيب،الذي كان ملازما له دون بقية المعتقلين، وكان المعتقلون يتحدثون عنه ويشيدون بصلابته وقدرته على التحمل، وقد بقي ذلك اليهودي في ذاكرتي منذ الستينيات ولا اعرف مصيره، لكن صديقي الراحل جاسم العايف الذي كان معي في المعتقل بتهمة الانتماء الى حزب ممنوع او ما كنا نسميه ( جماعة الوكر)كان يعرف الكثير عنه وتحدث لي عنه حين كان سجينا في سجن الحلة فقد كان عبد الله معه، لكن هذه الذكريات محاها الزمن القاسي!!
وكذلك لا انسى ( نعيم) بائع الصحف الذي اضطر الى اعطاء البراءة بعد صمود تجاوز الشهر بسبب حرمانه من اعالة عائلته المتكونة من زوجة ومجموعة من البنات ،فقد كان المعيل الوحيد لها، اذ نبذه رفاقه وجعلوه يعيش (عاره) بينهم قبل اطلاق صراحه ،وكنا نراه خجلا بيننا،تسحقه الكوابيس اثناء نومه فيفر منها الى الاستيقاظ مرعوبا !!
كان المعتقلون في الموقف رقم 4 على صنفين: جماعة الوكر وهم مجموعة كبيرة من الشيوعيين القي القبض عليهم بعد مداهمة احدى االخلايا الحزبية المتقدمة، بمعية اعضائها مجموعة كبيرة من الاسماء العلنية المرشحة للحزب او المرشحة لمراكز حزبية متقدمة وعنواناتهم ،كان بينهم من الاسماء المعروفة :جاسم العايف،جميل الصباغ،هندال،عبد الزهرة مزبان،فيصل السعد، حميد غضبان- شاكر الشواف- جميل الصباغ-عبد الوهاب طاهر – سامي احمد ( نقلا الى مكان اخر)-عبد الامير سبتي- مانع السعودي لطيف سمير- وغيرهم من مختلف الاديان والمذاهب : الصابئي المندائي المعلم مانع السعودي اليهوديان عبد الله وسليم والمسيحيون :جميل بطرس- اتقان كامل –عمانوئيل وعدد كبير من المسلمين من الطائفتين الشيعية والسنية،وانا لا استطيع تميزهم على وفق مذاهبهم لغاية اليوم!!!
وثانيهما مجموعة المعتقلين في مظاهرة تأييد تحرير الجزائر وجلهم من الطلاب وهم زملائي :عبد الله عبيد،جميل حبيب الذي حصل – بعد ذلك – على زمالة من الاتحاد السوفيتي ودرس الطب هناك وأصبح من الأطباء المعروفين ، وقبل وفاته بمرض السرطان جاء الى البصرة باحثا عن أصدقائه القدامى ،وقد التقى قسما منهم ولم أكن بينهم …وكان بيننا الرسام هادي الصكر الذي تحدثت عنه وعن رسومه في مكان آخر من هذه السيرة، وكان بينهم : عبد الإله حمادي الذي بقي وفيا لمبادئه وتنقل في السجون والمعتقلات فترة طويلة من الزمن إلى أن غادرنا إلى العالم الآخر، خالد العزاوي البغدادي المرح الذي يحمل نفسا مرحة وضحكة مجلجلة تميزه عن بقية زملائه وقد تزوج من شقيقة صديقنا الشاعر المبدع محمد طالب البوسطجي ،ناصح الصفار صديق العمر وذاكرتي التي استعين بها لغاية اليوم في إحياء الأيام التي عشناها سوية وانطفأت في ذاكرتي – عبد النبي المولاني المناضل الذي ترك مدينتنا واستقر في بغداد بعيدا عن عيون السلطة وأجهزتها القمعية – حسين الخشتي الذي لم يجد هو وعائلته غير عسف السلطة وإيغالها في مراقبة عائلته ومحاولة إسقاطها سياسيا مما دفع العائلة إلى الهجرة إلى الكويت والاستقرار فيها – خلف عبد الكريم الزميل المنسي من قبلنا والوفي لعلاقته معنا حين اندفع بعد التغيير إلى البحث عن أصدقائه القدامى ( ناصح وجميل وحسن سلمان وغيرهم ) وكان في زياراته الكثيرة لمقر الحزب الشيوعي في البصرة يسال عنا رفاق الحزب إلى أن عثر على الصديق ناصح الصفار الذي زوده بأرقام هواتفنا وقد فوجئنا به ولم نتذكره لكنه أصر على لقائنا،وحين التقيناه أنا وحسن وجدناه يلبس الملابس العربية ويتذكر أيامنا بتفاصيل عجيبة ، كان يضحك فرحا طالبا منا المواصلة معه ساردا حياته وسكنه في احد أحياء معمل الورق في الهارثة وبقي الصديق خلف مخلصا لوعده في الاتصال بنا كل شهر تقريبا إلى أن غيبته الكرونا الخبيثة عن عالمنا قبل أعوام قليلة !!!– حمد علي خان المعلم الشجاع النظيف خلقا الذي تعب من إعالة عائلته الكبيرة في تسعينيات القرن العشرين بسبب الحصار الجائر فامتهن بيع مواد متنوعة من خلال بسطية صغيرة وقد التقيته جالسا على ارض الشارع في نهاية سوق من أسواق العشار !!–منصور مهدي أتذكره مشغولا يوميا بنسيج طاقيات متنوعة برع بها …. وغيرهم ممن غيبتهم الذاكرة .
(2)
حين اتذكر حياتي في تلك المحلة الصغيرة (صبخة العرب):طفولتي ونحن نعيش في بيت طيني (غرفة واحدة مبنية من اللبن) وفناء )حوش واسع محاط بسياج طيني،تداعى مرة واحدة في شتاء احد السنوات متاثرا بالامطار فوجدنا انفسنا في مواجهة الفضاء:
أنا الجدارُ الواطئ
أن أتبعثرَ يوماً
حجراً في الطرقات
يا للصبخة من مقبرة للحيطان!
(الفصول ليست اربعة – الشاعرعبد الكريم كاصد)
اقول كلما اتذكر ذلك استغرب وانا اتامل هذه الحياة الصعبة التي لاتعطي فرصة للتقدم تجاه حياة مدنية مستقرة،بل ان وعودها الطبيعية ان تعطينا فرصة انا واخي لان نعمل عمالا في البناء ونرث مهنة والدنا،لكن اصرار الوالدة على مستقبل اخر لنا،غير هذه المعادلة ونقلنا نقلة نوعية تجاه مستقبل اخر لم نكن نحلم به على وفق ظروفنا الصعبة،اذ كان معظم اقراننا من ابناء المحلة او من اقاربنا يتمتعون بحياة مستقرة رخية حسب ظروف تلك الحقبة، وكنا انا واخي في منزلة متدنية من حياة اقراننا،تبدو مظاهر الفاقة علينا من ملابسنا البسيطة (نشتريها من اللنكات)مع كل ذلك كانت امنا العظيمة تصر على تفوقنا في المدرسة الذي كان معادلا لغنى الحياة عند اصدقائنا واقاربنا،وكان هذا التفوق قوة اعطتنا الثقة بالنفس ومعاملة اقراننا بمساواة كنا نفتقدها لولا هذا التفوق.
اذكر انني كنت شغوفا بعقد علاقات صداقة مع اقراني من مختلف ( العشائر) في المحلة فقد كانت المحلة مقسمة بين العشائر التي نزحت من الناصرية واستقرت في البصرة :عشائر من قبائل مختلفة : العبودة ، الخفاجة،البوصالح، بني ركاب، البوزيد ..وكانت كل من هذه العشائر تقطن منطقة محددة شمال المحلة او وسطها او شرقها وجنوبها وكان غرب المحلة حدودا لشارع ترابي يفصلها عن صحراء ملحية اصبحت في بداية الخمسينيات من القرن العشرين منطقة سكنية افتتحها الملك فيصل الثاني تحت اسم الاصمعي القديم والجديد ولكن الاسم الشعبي اللصيق بها لغاية اليوم هو ( الومبي) نسبة الى الشركة الاجنبية التي بنتها، ثم توسع البناء بعد ذلك ليشمل مناطق اخرى غرب الاصمعي بعد ان عبدوا طريق بصرة – بغداد هي الجمعيات وحي الحسين وغيرها من المناطق السكنية.
كان لي اصدقاء واصحاب من مختلف هذه التكوينات التي تسكن المحلة وكلها قادمة من الناصرية كما قلت في اوقات متفاوتة فهي تملك نفس التقاليد والاعراف القبلية.
وعلى الرغم من التسميات والسكن، فان معظم الناس في المحلة،يشكلون عائلة واحدة، تستطيع ان تدخل اي بيت فتلقى الترحيب والحفاوة من الامهات والاباء:
أهالي صبخة العرب:
بيوتهم قد تخلو من الخبز
ولكتّها نادراً ما تخلو من الضيوف
ولائمهم لا تنتهي:
ذاهبون إلى الحجّ
قادمون من الحجّ
زائرون
ناذرون
عاقدون
نادبون
وقد تمتدّ ولائمُهم ثلاثين يوماً
(الفصول ليست اربعة –الشاعر عبد الكريم كاصد)
وعلى وفق ذلك كانت علاقاتي مع ابناء المحلة كثيرة،علاقات مع المتفوقين في المدرسة مثل الشاعر عبد الكريم كاصد الذي يفضل عدم الاختلاط بالاخرين متفرغا لدروسه ، فازوره في بيته نتحدث عن شؤون شتى ..ومع ( شقاوات المحلة)وهم يسطون على بساتين النخيل القريبة من محلتنا لسرقة الرطب والتمر، او البحث عن اعشاش الطيور المتنوعة واخذ فراخها – خصوصا افراخ البلابل والفاخت التي يمكن تربيتها في بيوتنا-او صيدها بمصائد كنا نعدها من مطاط انابيب السيارات التالفة مع اغصان الاشجار اليابسة التي تشبه حرف الواي( (yلاصطياد العصافير او البلابل او الحمام الذي يملكه اقراننا الامر الذي يسبب كثيرا من الشجار والمعارك تصل الى الاهل في بعض الاحيان.
اتذكر ذلك واعجب من نفسي التي لم تكن منقادة الى فعل الشر او العراك ،فقد كنت مسالما منسجما مع هيئة جسمي: قصر القامة وضعف البنية، اضافة الى فقر الحال، ومع كل هذا كنت متفوقا في الدراسة على اقراني الشقاوات مع كل ذلك كنت اشارك في الالعاب الخطرة تحت سطوة حب المغامرة وتجديد الحياة التي كانت رتيبة خالية من اي مظهر من مظاهر التسلية ، فلم يتوفر في معظم بيوتنا جهاز تلفزيون او حتى مذياع، كما كانت شبكة الكهرباء مقتصرة على بعض البيوت، فكان الفضاء ملاذا ومتنفسا لنشاطنا وحركتنا.
في المراحل المتقدمة في المدرسة الابتدائية تعرفت على عالم الكتب من خلال المكتبة المدرسية ، كان معلمنا الاستاذ نعمان، من اكثر المعلمين تاثيرا علينا: كان جادا صارما في تعليمنا وملاحظة اداء واجباتنا ، وكانت اقواله دستورا لنا لا يمكن مخالفتها لنتعرض الى العقاب،لكننا كنا نشعر بحب لهذا المعلم خصوصا نحن المتفوقين،فقد كنا نعرف حرصه الشديد على مستقبلنا، وكان درس الانشاءفرصة للتعبير الحر عن انفسنا، من خلال العنوانات التي يعطيها لنا، ويمهد بكلامه المختصر عنها ثم يدعونا للكتابة الحرة،وفي هذا الدرس كنا نجد حريتنا في التعبير او الحركة او في الاقتراب من صرامة هذا المعلم واسترضائه.
ومن خلال درس الانشاء تعرفنا على عالم الكتب في المكتبة المدرسية الصغيرة التي كانت على شكل خزانة خشبية برفوف متعددة وضعت عليها الكتب بشكل منتظم يغري بتقليبها وقراءة عنواناتها.وقد سمح لنا معلمنا الاستاذ نعمان بالاستعارة الخارجية، كي يشجعنا على القراءة ، اذكر ان اول كتاب استعرته هو ( سكينة بنت الحسين) للدكتورة بنت الشاطىء،وعلى الرغم من اعتراض المعلم على استعارتي لهذا الكتاب لعدم قدرتي على قراءته لم تمنع الاستعارة. وفعلا لم استطع قراءة الكتاب واعدته الى المكتبة بعد يومين، ثم حرصت بعد ذلك على استعارة القصص التي كان يكتبها المربي الكبير كامل كيلاني للناشئة، وهي التي زرعت في نفسي حب القصة التي لازمتني في حياتي القادمة وجعلت مني ناقدا لكتابها.
بعد انتقالي الى المدرسة المتوسطة( ثانوية الوثبة –التي استبدل اسمها مرات حتى استقرت على ثانوية البصرة) الكائنة في محلة نظران في البصرة القديمة، تغيرت علاقاتي باصدقاء المحلة، بعد ان تعرفت على مجموعة كبيرة من الطلاب في المتوسطة من سكنة البصرة والاحياء المحيطة بها، وخلال ذلك تزايد قربي من الكتب، من خلال المكتبة المدرسية في الثانوية وكذلك في المكتبة التي انشئت في المحلة بعد ثورة 14 تموز للمنظمات الشبابية ( الشبيبة الديمقراطية)، حيث اقتنيت بعض الكراريس السياسية ،التي تعرف بالافكار الماركسية بشكل مبسط،وهو الاتجاه الذي كان سائدا بعد ثورة 14 تموز،وقد قادني ذلك الى الانتماء السياسي.
ومنذ الصف الثالث متوسط، كنت قريبا من اصدقاء ينتمون الى منظمات مهنية يقودها الحزب الشيوعي كاتحاد الطلبة الذي ضم معظم اصدقائي، الذين ( حاصروني) في ضرورة الانتماء لهذا التنظيم الطلابي الذي كان شبه علني،وفي المحلة ايضا كان الاتجاه العام لمعظم شباب المحلة قريبا من هذا الحزب، فهي محلة شعبية تظم عوائل فقيرة كادحة من اجل لقمة العيش، وكانت شعارات الحزب الشيوعي والنظرية التي يستند اليها تبشر بسعادة الكادحين من خلال شعاره الذي مازال باقيا ( وطن حر وشعب سعيد)،اذن كان الانتماء للحزب مسالة طبيعية وسط تطلعاتنا وطموحنا في تغيير حياتنا البائسة،فكان انتمائي للحزب من خلال احد اقربائي في المحلة، مع مجموعة من الاصدقاء والاقرباء، شكلنا ( خلية) من خمسة بقيادة رجل اكبر منا ومن منطقة لانعرفها، وكان اجتماعنا الاول في بيت احد اقاربي، وسط ترقب وانتظار ما يقوله لنا، كنا نعتقد انه يحمل كلاما وثقافة لا تتوفر لدى اهلنا الاميين، ولذا انفجرنا بضحك مكتوم، حين تحدث منتقدا سياسة الزعيم وقتها قائلا باللهجة الشعبية :(اوعدك بالوعد واسكيك يا كمون) وهو المثل الذي كانت تردده امهاتنا!!! كان ذلك مزحة بالنسبة لنا،استمرت طويلا وسط ضحك مجلجل بعد انتهاء الاجتماع ،وكادت تلك الكلمات ان تبعدنا عن التنظيم لولا استبداله صدفة برفيق اخر اكثر وقارا واقناعا.