هذا الهدب النصي: محض تحية أدبية لأستاذنا محمود عبد الوهاب – طيّب الله ثراه- من قارئ منتج ٍ مازال يصغي لأستاذه في كل ما يكتب ويقرأ، فإذا كان ثمة ضوء في كلماتي فهو من شموع الأستاذ التي لا تنفد ..
(*)
الضرورة المعرفية، تقتضي .. تحريم النسيان مع منجز العابر الاستثنائي في الثقافة العراقية الأستاذ محمود عبد الوهاب، ويستوجب إصدار منجزه السردي كاملاً: فهو قصصيا منحنا درسا في الاقتصاد الأسلوبي ، تجسّد في (رائحة الشتاء) مجموعته القصصية وفي روايتيه(رغوة السحاب) و(رواية بحجم الكف) والروايتان أستفادتا بشكل جلي من خبرته القصصية في ترشيق السرد
(*)
كان من الممكن أن يكون من ألمع النقّاد العراقيين، أشهد على ذلك من خلال علاقتي الحميمة به، كان الأستاذ مرجعنا كلنا حين يلتبس علينا القصد في غابة المفاهيم والمصطلحات، فهو يمتلك وعيا نقديا يحتوي القدامة والحداثة : يحدثني عن حازم القرطاجني كما يحدثني عن غادامير .ومحاولته الريادية في النقد حرثتْ أرضا بكراً على مستوى الأدب العربي والعراقي:(لم أعثر، وأنا في سبيل البحث عن المصادر، على كتاب خاص بالعنوان، الأمر الذي جعلني كمن يجوس أرضا مجهولة حذراً من أن يضع قدميه على أية بقعة منها إلاّ بعد تريث../7).. لكن سوء توزيع الكتاب العراقي، جعلت من أطروحته (ثريا النص ) ضمن الحراك الثقافي العراقي فقط، رغم محاولات بعض المخلصين المقربين من أستاذنا في توصيل نسخ من (ثريا النص) إلى بعض الأدباء العرب. وهناك الأشد مرارة ً وهو غياب ما اصطلحنا عليه نقد النقد في حياتنا الثقافي، أعني أن يقوم ناقد عراقي بتقديم وجهة نظر نقدية بهذا الفتح النقدي العراقي الذي اجترحه ُ القاص والروائي محمود عبد الوهاب. وتلك كانت أمنية أستاذنا ..(إن ما يطمح أليه هذا المدخل، بعد أن وضع العنوان القصصي في مركز الاهتمام، وكرّس لدراسته كتاباً خاصا به أول مرة، أن يثير وعياً أشد بموقع العنوان ووظيفته ،وأن يكون المدخل نفسه، مشروعا قابلا للنمو والأغتناء بالأضافة، فلا يمكن لكتاب وحده أن يستوفي كل أمكانات الحقل الذي يدرسه، إن أحكامه غير نهائية،وطرائقه ليست استنساخا حرفيا لأي منهج وإن أكثر ما يبهج كاتبه ويملؤه غبطة أن يجد هذا الجهد سبيله إلى ثقافة القارى وتطبيقاته../8)..
(*)
وأنا أكتبُ هذه التحية تنتابني الحسرة، فقد كان أستاذنا المبّجل طيّب الله ثراه، يحلم بطبعة مزيدة لثريا النص بعد أن توفرت للباحث مستجدات يرى ضرورة توفرها في طبعة ثانية..
(*)
السؤال الأهم : لماذا اقتصر الأشتغال النقدي للأستاذ على العنوان ؟ هل ذلك متأت من بحثه المرهف لثريات تليق بنصوصه؟ خصوصا وأن العنوان ينفتح على (سلسلة من الدلالات بحكم تعدد القراءات ونموها وتجددها) بشهادة أستاذنا في السطر الأخير من الصفحة الأخيرة من كتابه.. ومن الجائز أن هذا الجهد يتغيا تخليص العنوان من فهمنا الخاطىء ونقول ذلك مقترضين من قوله في الصفحة الأولى من الكتاب، أن القراّء تعاملوا مع العنوان على أعتباره محض وسيط غير فاعل في العملية الإبداعية، لذا فأن مسؤولية محمود عبد الوهاب التصحيحية وبشهادته (تسعى هذه المحاولة أن تخلخل هذا الفهم الخاطىء) من أجل موضعة العنوان في مرتبته العليا، فهو ثريا وليس وصيف النص. وفي عنوان النص، نلمس الكمون النصي مرمزاً، ومتشابكا (مع غيره من عناصر الرواية لتشييد منظور الكاتب وعقيدته العامة التي تعني عنده رؤية الكاتب والعالم/ 10).. حين يخبرنا عن التسمية ثانية للعنوان وهي (علوان) ثم يخبرنا الأستاذ (ما يقرّب من (العلوان) من ثريا دريدا في الموقع والوظيفة).. هنا تداعت لدي أنا القارئ المنتج: معلومة طريفة ضمن السياق (عِلوان : بكسر العين: الأرض أو الأراضي المرتفعة وعكسها (النصوص) أي المنخفضة /ص108/ يعقوب يوسف الحنظل/ معجم ألفاظ أبي الخصيب/ أعداد وتحقيق الدكتور عادل يعقوب الحنظل/ط1/ دار الورشة الثقافية للطباعة والنشر/ بغداد/ شارع المتنبي )..
(*)
يحضرني السؤال التالي : هل يقفل العنوان نصا على المستوى الترويجي ؟ في كتابه (وجع الكتابة ) يحدثنا القاص والروائي مهدي عيسى الصقر، عن حيرته مع عنوان مجموعته القصصية التي طبعها على نفقته (حيرة سيدة عجوز ) حين أقترح أحدهم أن يكون العنوان( حيرة شابة..) !! لترويج نسخ الكتاب في الأسواق وهناك الإحالة العنوانية. بالنسبة (المركب) هو العنوان الذي أقترحته دار الآداب اللبنانية، لرواية غائب طعمة فرمان التي كان عنوانها(أم الخنازير).. تجري الأحداث الدنيئة، أثناء حكم الطاغية في تلك الجزيرة الكائنة في نهر دجلة، من خلال تواصلي اليومي مع الأستاذ لم يكن عنوان مجموعته (رائحة الشتاء) بل (عابر أستثنائي) وهو عنوان بكر آنذاك وفيه تفرد، لكن بتأثير أحد الأدباء ،الذي أوهم أستاذنا أن عنوانه مشتق من(العبور) الذي كان له دلالة سياسية آنذاك فقد قام بتغيرهِ إلى (رائحة الشتاء) مما أضطرني، إلى تثبيت العنوان الجديد، قبل صدور العدد الجديد من جريدة(الفنار) التي كان رئيس تحريرها الأستاذ عبد الأمير الديراوي، وكنتُ حينها أشرف على الصفحة الثقافية. عنوان الشاعر كاظم اللايذ (بوابات بصرياثا الخمس) يحيل إلى كتاب (بصرياثا) للقاص محمد خضير، وكذا الحال مع (سبعة أيام في باصورا) للقاص والروائي عبد الكريم العبيدي فهو يحيل القارىء إلى (أحلام باصورا) لمحمد خضير، ونفس الأمر في عنوان (رواية بحجم الكف) لأستاذنا محمود عبد الوهاب، فهوحيل إلى (قصص بحجم الكف) للروائي الياباني كاوا باتا، ورواية علي الشوك (رسالة إلى امرأة غير مجهولة) تحيل إلى (رسالة إلى امرأة مجهولة) للروائي ستيفان زفايج. وبشهادة أستاذنا( لابد للعنوان المركّب أن يخضع إلى الفحص والحذف والأضافة والمفاضلة..)
(*)
كل العنوانات تبث رسائلها إلى القارئ ليتقرب من الكتب يتلمسها، يتصفحها ذلك لأن(إنتاج دلالة العنوان يمكن أن يدرس ضمن أنتاج الدلالة العامة للنصوص) وكل فاعلية العنونة متشققة من مهيمنة النص، وهكذا كل العنوان يحتوي خلية سردية موقوته تتشظى بمؤثرية حركية قراءة النص .
*هذه المقالة: مقدمتي لكتاب(ثريا النص) لأستاذنا محمود عبد الوهاب، الصادر بطبعته الثانية عن دار المكتبة الأهلية/ بصرة – بيروت/ 2022