د. سناء الشّعلان (بنت نعيمة): أديبة وأكاديميّة وإعلاميّة أردنيّة من أصول فلسطينيّة، وكاتبة سيناريو، ومراسلة صحفيّة لبعض المجلّات العربيّة، وناشطة في قضايا حقوق الإنسان والمرأة والطّفولة والعدالة الاجتماعيّة، تعمل أستاذة للأدب الحديث في الجامعة الأردنية/الأردن، حاصلة على درجة الدّكتوراه في الأدب الحديث ونقده بدرجة امتياز، عضو في كثير من المحافل الأدبية والأكاديميّة والإعلاميّة والجهات البحثيّة والحقوقيّة المحليّة والعربيّة والعالميّة.
حاصلة على نحو63 جائزة دوليّة وعربيّة ومحليّة في حقول الرّواية والقصّة القصيرة وأدب الأطفال والبحث العلميّ والمسرح، كما تمّ تمثيل الكثير من مسرحياتها على مسارح محليّة وعربيّة.
لها 75 مؤلفاً منشوراً بين كتاب نقديّ متخصّص ورواية ومجموعة قصصيّة وقصّة أطفال ونصّ مسرحيّ مع رصيد كبير من الأعمال المخطوطة التي لم تُنشر بعد، إلى جانب المئات من الدّراسات والمقالات والأبحاث المنشورة، فضلاً عن الكثير من الأعمدة الثابتة في كثير من الصّحف والدّوريات المحليّة والعربيّة.
* قبل نحو 8 أشهر، بالتّحديد في يوم الأحد 12/9/2021 سرق الموت منّي أعزّ إنسانة عليّ في الوجود، وهي أمّي الحبيبة الأديبة (نعيمة المشايخ)؛ لقد قاومت المرض الخبيث طويلاً؛ لأنّها تريد أن تظلّ معي، وأن لا تتركني وحيدة في الحياة، لكن في النّهاية انتصر مرض سرطان الدّماغ عليها، ورحلتْ عن هذا العالم.
لي مع أمّي الطّاهرة ما لا يُعدّ ولا يُحصى من المواقف. أذكر لكم منها في هذه الفسحة الصّغيرة الجميلة الحانية ما يلي:
الموقف الأوّل:
عندما أتعطّرُ بنطقي لحروف (أمّي نعيمة) تقفز إلى ذاكرتي المشحونة بتفاصيل الحياة التي عشتها على امتداد 44 سنة مع أمّي الحبيبة بنفس معنّاة بألمٍ عجيبٍ وأفراحٍ خرافيةٍ وانتظارٍ لا يعرف موئلاً وطريقٍ مسحور لا يعرف نهاية أو بداية أو أرصفة انتظار، بل هو بوح يروي حكاية كلمة، إنّها بداية رقص قلم، وأهازيج روح وتجليات ذاتٍ وأناشيد كلمات وانتحارات موانئ.
في يوم قرأتُ أنّ الهيئة العامة للكتاب في مصر تعقد مسابقة في فنّ الرّواية، وحينها لم أكن قد تجاوزتُ العاشرة من عمري بعد، ولم أقرأ بنداً يخصّ اشتراط سنّ محدّدة للمشاركة في المسابقة، وهو سنّ أربعون سنة فأكثر، فقرّرتُ في لحظة تحدٍ مجنونة أن أشارك في هذه المسابقة، بسرعة عجيبة وفّرت أمّي لي آلة كاتبة استعارتها من الجيران وكميّة مهولة من الأوراق البيضاء، وأنهيت طباعة الرّواية الضّخمة على هذه الآلة الطّابعة، إذا تجاوزت المئتي صفحة.
دفعتْ أمّي مبلغاً ماليّاً ضخماً في تقديري طفولتي من مدّخراتها، وهي مدّخرات شحيحة قليلة ونادرة، وأرسلت الرّواية إلى المسابقة في مصر في طرد بريديّ مستعجل ومسجّل.
انتظرتُ الرّد من تلك الجائزة، وكم أمّلتُ نفسي بأن يكون الرّد إعلام لي ولأمّي بفوزي بهذه الجائزة عن روايتي الوليدة المرهقة.
لكن أحداً من مصر لم يهاتفني بما يخصّ روايتي العتيدة، وطال الانتظار، وشعرتُ من جديد بخيبة أمل، لكنّ أمّي صمّمتْ على أنّ روايتي ممتازة، وأنّها تستحقّ الفوز، فصدّقت أمّي؛ فهي لا تكذب أبداً، وتجاهلتُ المسابقة التي ما بالتْ بمشاركتي الجريئة، إذ عرفتُ بعد سنين من هذه الحادثة أنّ المسابقة كانت لأعلام الرّوائيين العرب، لا لطفلة صغيرة وعنيدة تعشق الكتابة، وتغامر بكلماتها جديدة في بحر متلاطم من الحكايات والقصص ولحظات التمنّي والانتظار.
لكن أمّي ضحّتْ بوقتها ومالها وجهدها ودعمها كي أشارك في هذه المسابقة التي لا حظوظ لي فيها أبداً، ودفعتني دفعاً إلى عالم الرّواية والإبداع الذي لمعتُ فيه فيما بعد، وحظيتُ بلقب (شمس الأدب العربيّ) دون أن يعرف أحدٌ أنّ خلف هذه الشّمس السّاطعة مجرّة مهولة من الأسرار والتّضحية والعظمة، اسمها (نعيمة المشايخ)، وهي أمّي العظيمة رحمها اللّه تعالى.
الموقف الثّاني:
في طفولتي اعتدتُ على أن أسأل أمّي نعيمة سؤالاً عجيباً، وهو:” لو لم أكن ابنتكِ، وكان الأبناء يُباعون في الأسواق، فهل كنتِ سوف تختارينني وتشترينني لأكونَ ابنتكِ؟”، كانتْ تضحك أمّي من هذا السّؤال العجيب، وتصمتْ، وكأنّها تنتظر حكمة الزّمن لتجيب بثقة عن هذا السّؤال، وعندما كبرتْ أجابتني بصراحة وثقة واعتزاز وحبّ: “نعم، كنتُ سأختارك ابنة لي، وأشتريك، وأشعر كم أنا محظوظة لأنّك ابنتي”.
هذه الإجابة أثّرتْ في عقلي وإبداعي ووجدني، وجعلتني دائماً مولعة بالإنجاز كي أليق بانتقاء أمّي لي، لكن فاتني أن أقول لأمّي قبل رحيلها عن هذا العالم الكئيب: أنا أيضاً كنتُ سوف أشتريك، وأختارك لو كانت الأمّهات تُشترى، ولجثوتُ على قدمي أمام الله طوال العمر شكراً لأنّه خصّني بكِ، واختاركِ أمّاً لي”.
الموقف الثّالث:
كانتْ أمّي رحمها الله تعالى تحرّم عليّ الكثير من الأعمال كي تعزّني، وتدلّلني، وتحافظ على رفاهيتي، وتفاصيل جمالي، وكان استخدام الماء والتّعرّض للهواء البارد وحمل الأشياء الثّقيلة واستخدام الأدوات الحادّة على رأس تلك المحرّمات الأبديّة.
حاولتُ كثيراً طوال نصف قرن أن أثنيها عن هذا التّحريم عليّ، إلاّ أنّها صممّتْ على هذا التّحريم كي تدللني، وتعزّني، ولو كان ذلك على حسابها، وبثمن عنائها الشّخصيّ، وكنتُ أطيعها، وأقبل بتدليلها الفاره الذي لا يشابهه يّ تدليل في الكون؛ إذ امتدّ تدليل أمّي لي كطفلة صغيرة لـ 44 عاماً.
الآن بعد رحيل أمّي الحنون أصبح كلّ محرّم عليّ من العناء والتّعب مباح بشكل كامل، وغدا لي عادة جديدة غريبة، وهي أن أبكي كلّما لمستُ الماء، أو ضرب الهواء البارد وجهي، أو حملتُ أيّ شيء ثقيل، أو جرحتْ سكين يدي؛ فها هي هذه المحرّمات تعضني بشراسة بعد أن حرّمتها أمّي عليّ.
رحم الله أمّي نعيمة المشايخ، ورحم الأمّهات الطّاهرات.
الموقف الرّابع:
جمعتني بأمّي الحبيبة عادات عشق عزّ نظيرها بين الأمّهات وبناتهنّ، وكانتْ كتابة الرّسائل اليوميّة من هذه العادات؛ فقد اعتدتُ على أن أترك لها رسالة على تسريحة غرفة نومها؛ لتكون كلماتي العاشقة لها أوّل ما تداعب عيناها في الصّباح، إلى جانب عشرات بطاقات المعايدة وبطاقات الزّهور التي تثبّتها في إطار تسريحتها على امتداد سنوات لتقرأ كلمات محبّتي لها.
كان من عادتي كذلك أن أثبتَ رسائل لها على شكل يافطات ثابتة في الأماكن التي تذهب إليها داخل البيت؛ ففي حمّامها الشّخصيّ مكتوب بقرب مرآة المغسلة: “هذا الوجه المقدّس في المرآة هو وجه أمّي”، وفي غرفة المعيشة مكتوب: “الخبر الأكيد أنّني في كلّ يوم أحبّكِ أكثر يا ماما”، وفي مدخل البيت مكتوب: “هذا البيت فيه روح طاهرة، وهي روح أمّي”، وفي المطبخ مكتوب: “هذه السّيدة الجميلة التي تطهو هي أميّ”.
كنتُ الأغزر في كتابة الرّسائل، وكانتْ أمّي الأكثر عطاء ومحبّة، وما دريتُ أنّ أمّي كانتْ طوال حياتها تكتبُ الرّسائل لي؛ عندما رحلتْ إلى العالم الآخر ألفيتُ أنّها قد تركتْ لي رسائل في كلّ مكان قد تقع يدي عليه؛ في دفاترها، في مفكّرتها، في دفتر أرقام الهواتف، في الصّفحة الأولى من مصحفها الأزرق الكبير؛ في كلّ مكان وجدتُ رسالة لأمّي تطمئنني أنّها قد رحلتْ عن الحياة، وهي تحبّني، وتوصيني خيراً بنفسي وبمن تركتْ بعدها ممّن تحبّ، إلاّ أنّني حبّها الأكبر في الحياة.
منذ رحيل أمّي أصبح عندي مرضٌ اسمه البحث عن المزيد من رسائل أمّي التي تكتبها في صمت ذخراً لحزني الأبديّ بعد رحيلها.
الموقف الخامس:
كانتُ، وما أزال أعشقُ نوعاً بعينه من صابون الاستحمام السّائل برائحة الورد الجوريّ الأحمر، وكان شغف بي قد وصل إلى حدّ أنّني أكدّسه بأعداد مهولة في خزانة الصّابون المخصّصة لذلك.
كنتُ أعتقد دائماً وأبداً أنّ أمّي الحبيبة الطّاهرة تستخدمه معي، وتمتّع بشرتها الرّقيقة به؛ وهي مَنْ تحبّ رائحة الورد مثلي، إلّا أنّني اكتشفتُ بعد سنين طويلة أنّ أمّي لم تكن تستعمل حصّتها من هذا الصّابون السّائل، وتستخدم عوضاً عن سائلاً عاديّاً، دون أن ألاحظ هذا الأمر.
عندما لاحظتُ هذه الملاحظة بعد سنين طويلة أصابتني دهشة كبيرة؛ فلم أكن أصدّق أنّ أمّي الحبيبة كانتْ تستخدم أيّ سائل، ولا تقترب من سائل الورد الجميل المخصّص لها.
عندما سألتُ أمّي الحبيبة عن سبب إضرابها عن استخدام الصّابون السّائل العطريّ المخصّص لها، وأنا أحضره لأجلها، وأخصّص زجاجات كثيرة منه لها، أخبرتني أنّها كانتْ تترك حصّتها من الصّابون السّائل الورديّ الرّائحة عن قصد كي تكون لي، وقالتْ لي بحنان أبكي بحرقة كلّما تذكّرتُ كلماته: أنا أزهد فيه قاصدة لأجل أن تستمتعي أنتِ بحصّتي منه؛ فحبيبتي سناء يليق بها الاستحمام بعطر الورد مثل الأميرات والملكات.
يومها بكيتُ بحرقة، وحضنتُ أمّي إلى صدري حتى اختلطتْ ضلوعي بضلوعها، وأقسمتُ عليها أن لا تستحمّ بعد الآن إلاّ بعطر الورد، ووعدتني بأن تبرّ بقسمي.
وضعتُ قارورة سائل استحمام عطريّ بيدي في حمّام أمّي، وأقسمتُ عليها أن لا تستحمّ إلاّ بها، إلّا أنّ أمّي انهارت أمام المرض سريعاً، وأصبحتْ طريحة الفراش، ولم تستحمّ بهذا السّائل العطريّ إلّا مرّة واحدة، عندما حمّمتها أنا به وهي مريضة لا تقوى على الحركة، ولعلّها لا تشمّ رائحته العطريّة من شدّة مرضها.
لقد رحلتُ أمّي الحبيبة على العالم، وظلّتْ قارورة سائل الصّابون العطريّ في حمّامها تنتظرها لتستحمّ بها.
ما زلتُ أستحمّ بسائل الاستحمام العطريّ هذا؛ لأنّ أمّي الحبيبة تريدني أن أستحمّ به، وأنفجر في البكاء وأنا أضعه على جسدي، وأشمّ رائحته العطريّة الزّكية، وأناجي ربّي العظيم قائلة: رب، هذا هو سائل الاستحمام العطريّ الذي حرّمته أمّي الحبيبة على نفسها كي أستحمّ أنا بها. سألتكَ بعزّتكَ وجلالكَ وكرمكَ ورحمتكِ أن تبلّغ أمّي أعلى درجات الجنان، وأن تعطرها بعطر الجنّة، وأن تبلّغها من النّعيم ما لم تبلّغه من قبل لأمّ من البشر لرحمتها بي، وعطفها عليّ، وإيثارها لي على نفسها الطّاهرة الزّكيّة.
الموقف السّادس:
أمّي الحبيبة كانتْ من النّساء الهادئات الصّامتات البالغات الرّزانة والحكمة والاتّزان، لا تنطق كلمة إلّا بميزان من ذهب، ولا تقول إلّا خيراً وطيباً وحناناً وجبر خاطر، ولا يخرج من فمها الطّاهر إلّا كلّ خير وفرح، وما كان من عادتها أن تستغيب أحداً، أو أن تجرح أحداً، أو أن تقول أيّ كلمة تغضب الله في حقّ أيّ أحد حتى ولو كانتْ كلمة صحيحة، إلّا أنّها كانتْ تؤثر الصّمت والمغفرة والسّتر على النّاس أجمعين مهما بلغتْ خطاياهم وأخطاؤهم وإساءاتهم.
كنتُ الوحيدة في الكون التي تستطيع أن تكلّمها في كلّ شيء، وأن تفتح قلبها لها في كلّ أمر، فتضع أمّي فمها الطّاهر في أذني، وتتحدّث معي دون توقّف، وأنا أفعل الأمر ذاته، حتى أنّني لا أخال أنّه قد بقي في الكون أمراً أو موضوعاً أو قضيّة أو قصّة لم أتحدّث فيها طويلاً مع أمّي، وما أظنّ أنّ هناك أمراً أو سرّاً أو موضوعاً لم تخبرني به أمّي، ولم تسرّ لي به.
أمّي الطّاهرة وأنا تحدّثنا على امتداد 44 سنة بحديث أليف مؤنس طوله ألف عام، كنّا نتحدّث بحبّ دون توقّف، ولا أحد في الكون يعرف بسرّ الحديث المستمرّ بيني وبينها؛ فالكلمات والمواضيع والأحاديث بيننا لا تنفد أبداً.
بعد أن رحلتْ أمّي ما عادتْ عندي شهوة للكلام مع أحد، وما عاد هناك أحدٌ في الكون يمكن أن أكمل معه حديثي ومناجاتي مع أمّي؛ بعد أمّي انقطع الحديث، وما عاد لي منه إلّا الصّمت مع البشر أجمعين، وقائمة ملاحظات عملاقة أكتب فيها دون توقّف، وعندما أصل قبر أمّي الحبيبة، أجلس إليها، وأبدأ أحدّثها بحديث طويل لا ينتهي، ولا يستطيع الموت أن يقطعه؛ فحتى الموت والقبر لم يستطيعا أن يقطعا الحديث الأبديّ بيني وبين أمّي الحبيبة الطّاهرة.
الموقف السّابع:
خُلقتْ أمّي الحبيبة من الرّحمة والشّفقة والحنان وحبّ البشر دون حدود، لا سيما حبّها للأطفال، كان من عادتها أن تشتري الهدايا والسّكاكر للأطفال، توزّعها عليهم حتى في الدّروب والطّرقات لمن عرفتْ، ولم تعرف منهم.
اعتاد أطفال العائلة عاماً تلو عام على أن تحمل أمّي الحبيبة السّكاكر لهم، وكانتْ حقيبتها مكاناً أثيراً للأطفال جميعاً حيث يجدون فيها كلّ ما تشتهي النّفس، ويطيب لها.
كان الأطفال جميعاً يطلقون عليها لقب (أمّ السّكاكر)، وكانتْ أساريرهم تنفرج بمجرّد رؤية وجهها المبتسم البشوش، ويطيرون نحوها كي ينالوا من حلواها اللّذيذة التي توزّعها عليهم بحبّ وحنان حتى آخر قطعة.
بعد رحيل أمّي الحبيبة عن هذه الحياة الكئيبة غابتْ حلوى أمّي عن الأطفال، وحزنوا كثيراً لذلك؛ إّلا أنّهم عادوا للابتسام من جديد عندما قرّرتُ أن أحمل راية أمّي، وأن أكمل عادتها بحمل الحلوى للأطفال، أوزّعها عليهم بدموعي الغزيرة، وأقول لهم: هذه الحلوى من ماما نعيمة المشايخ، يأخذون الحلوى دون حماس، ويبتعدون عنّي بحزن، وكأنّهم يعلمون تماماً أنّ أمّي الحبيبة لم تعد في الحياة، وأنّهم لن يأخذوا الحلوى من يديها الطّاهرتين أبداً بعد الآن.
الموقف الثّامن:
أمّي كانت أديبة مبدعة بحقّ، ولو تهيأتْ لها الظّروف مثلما تهيّأتْ لي بفضلها لكانتْ الآن من أهمّ أديبات هذا العصر، إلّا أنّها وهبتْ نفسها ووقتها لموهبتي ولرعاية كلّ من حولها من أسرة وأهل وأبناء وبنات وأقارب وجيران وأصدقاء؛ فقد كانتْ تؤثر الجميع على نفسها؛ فهي معطاءة وحنونة وكريمة إلى حدّ تعجز الكلمات عن وصفه، لا أحد يستطيع أن يفهم معنى هذه الصّفات التي تتكوّن منها أمّي إلّا إنْ عرفها عن قرب أو حتى عن بعد؛ فلقاء واحد مع أمّي لدقائق معدودة يشفّ عمّا في نفسها الطّاهرة من جميل صفات الإنسانيّة التي جبلها الله عليها بسخاء ثرّ.
كانتْ أمّي تطير فرحاً بكلّ كلمة إبداعيّة أكتبها، وكان من عادتي أن أهديها أوّل نسخة من كلّ مؤلّف من مؤلّفاتي، أوقّع تلك النّسخة لها بعد أن أكتب لها كلمات الإهداء التي لا تفيها حقّها من البرّ مهما اجتهدتُ في أن أكتب فيها، تتلقّف أمّي النّسخة بمحبّة ولهفة، تقرأ ما كتبتُ لها من كلمات، ثمّ تغلق الكتاب، وتطبع قبلة دافئة طويلة على غلافه، وتضعه للحظات فوق رأسها فخورة به، ثم تضمّه إلى صدره، وكأنّها تباركه، وبعد ذلك تضعه تحت مخدّتها حتى تقرأ منه، وبعد ذلك تضعها في درج أثير من أدراج غرفة نومها ليظلّ بالقرب منها إلى الأبد.
لقد رحلتْ أمّي الطاهرة، وكتبي في أدراجها نائمة سعيدة في جميل رائحة ملابسها الطّاهرة. لقد تركتُها في مكانها الذي اختارته أمّي لها، وظلّتْ كتبي الجديدة تنتظر أمّي الحبيبة لتطبع قبلة على غلافها، وتباركها بكلماتها الحنونة؛ فلا قيمة لكلماتي ومؤلّفاتي إنْ لم تباركها أمّي بقبلاتها الطّاهرة.
رحم الله العليّ القدير أمّي الحبيبة الرّاحلة نعيمة المشايخ، وأنزلها فسيح جنانه بجوار حبيبه المصطفى. اللهم آمين
الفاتحة على روح أمّي الحبيبة نعيمة المشايخ