يتجه المسرح منذ بداياته نحو الأمكنة البديلة، كالمسرحيات التي تقدم ضمن الساحات المفتوحة أو في الأمكنة التراثية أو حتى في الملاعب أو في أمكنة مغايرة لها خصوصية تلامس واقع المجتمع عبر مدركه العقلي أو الجانب النفسي. كما في عروض “البيرفورمانس” التي غيرت النظرة التقليدية لمسرح العلبة الإيطالية، ومستوى حدوده الضيقة، إذ تعد هذه العروض من فنون الأداء التي تقدم للجمهور وبنحو يتداخل مع تخصصات الفنون الجميلة، والتي يكون فيها الاداء أما مكتوباً أو غير مكتوب، وإما عشوائياً أو مدبراً بعناية، واحياناً تلقائياً أو مخططاً له بعناية، مع مشاركة الجمهور أو دونها.
في هذه العروض قد يكون الأداء مباشراً أو عبر الاعلام، فضلا عن الممثل أو المؤدي كما يطلقون عليه، والذي يمكن له أن يكون حاضراً أو غائباً، ايضا يتضمن الاداء في هذا العرض أربعة عناصر أساسية هي: “الوقت، المساحة، جسد المؤدي أو وجوده في الوسط، العلاقة بين المؤدي والجمهور”. وبالتالي يمكن تقديم هذا الفن أو الاداء في أي مكان، وفي أي نوع من المسارح أو البيئات، وعبر أي مدة زمنية، يتشكل خلالها العرض وبوساطة رؤى وأفكار الفرد أو المجموعة.
إن الأمكنة البديلة تشكل فضاءً مكانياً قد تغطي مساحته مجموعة العروض التي تقدم أدواراً مختلفة بمستوياتها الملامسة، أهمها الشكل السينوغرافي المقترح لمسرحة المكان وفق رؤية محددة، ومما لا شك فيه أن هذ المكان البديل يعد نموذجاً متخيلاً لدى المشاهد في كل العالم، وعبر آليات العروض المتنوعة بموضوعتها ورؤيتها الاخراجية.
من الممكن أن يتم تقديم عرض مسرحي على مساحة لها حيز محدد، ويعرف ذلك بـ “المورفولوجيا” والتي من خلالها يتم توزيع أو تقسيم المكان، وتحويله بمجرد أن يقام عليه العرض، يختلف هذا المكان بتكويناته وتقسيماته عن العلبة الإيطالية، كما يختلف بطبيعته التي يذهب إليها العرض، وبطبيعة النص الموجه لجمهور هذا المكان، لذا يمكننا أن نقول إن هذا مسرحة المكان هي في حقيقتها الخروج من فضاء مسرح العلبة الإيطالية، والاشتغال في أمكنة غير مخصصة للمسرح أصلاً، وإنما لها وظائف أخرى وجدت من أجلها، لسبب أو لآخر، ليتم استعارة هذا المكان لبعض الوقت حتى يتم تقديم عرض مسرحي عليه، وطوال فترة إقامة العرض المسرحي داخل هذا المكان تتجاوز مع صفته الأولى صفة كونه مسرحاً، ثم لا تلبث أن تزال هذه الصفة بمجرد زوال العرض المسرحي.
وهناك اعمال محلية وعربية وعالمية جسدت فكرة مسرحة الأمكنة البديلة، منها: مسرحية “Yes Godo” تأليف وإخراج الفنان “أنس عبد الصمد” والتي اعدها عن مسرحية “في انتظار غودو”، تأليف صاموئيل بيكيت (1948). جسد العرض لعبة الحياة الصاخبة وبما تحمله من قلق وموت وعبر افعال مكررة تحمل من الوجع والامل الكثير، مقابل مضامين متباينة قابلة للقراءة والتأويل، فنراه يختار القراءة العكسية لفكرة الانتظار التي طرحها “بيكيت”. وهنا جسد المكان البديل بوساطة الرؤية الاخراجية التي عمل عليها المخرج، ووضع الممثل داخل فضاء يرى من خلاله الحدث بشكل مغاير، وليؤسس على فرضية الانتظار التي قدمت برؤية معاصرة تلامس ما بني عليه النص في منتصف القرن الماضي. فضلا عن أهمية هذه العروض التي تعمل على ربط الفكر المسرحي بما نتج عن الخراب التكنولوجي في بعض المجالات.
ونموذج آخر مسرحية “حلم ليلة صيف” لشكسبير، قدمت من قبل الممثل والمخرج السوري ” فايز قزق” عام (2006) في حديقة عامة بدمشق، تعامل المخرج مع العرض على ضوء عناصره الاربعة: الماء والتراب والنار والهواء، لتقديم عرض يبتعد عما يطلق عليه آرتو: “الالتصاق الأحمق بالنص”.
وهناك فن الأداء لطقوس “التجليات التوليفية”، إذ شهد المسرح في العالم تحولات سريعة أدت الى تغيرات حقيقية كـ “ردود” افعال متطورة ربما تكون إيجابية وهذا نتاج للظروف المحيطة بالتحولات الحياتية من سياسية واجتماعية وفكرية والقدرة على التعبير عنها عبر وسيط فني، وهذه الطقوس تعتمد الاداء بشكل أهم من اعتماده على الحدث العابر المشهدي، وعلى تطابق الفنون التوليفية، من مؤثرات صوتية، وضوئية، إلى السينوغرافيا، والكوليغرافيا، والرقص، والحركات الإيمائية، والديكورات المسرحية، والتصوير الجداري وإسقاطات الفيديو إلخ… فهذا نتاج التعبير الدادائي المشهدي (الاحتفائي)، الذي كان يجرب في مسارح (العبث) من أمثال ملهى (فولتير) في (زيوريخ) ما قبل الحرب، ولا شك أنه قد خضع لتأثيرات المسرح التوليفي، ومسرح بريخت الذي كان يعتمد على المبادلة بين الممثلين والمشاهدين.
مر المكان المسرحي بالعديد من مراحل التطور عبر التاريخ، إضافة الى أن كل مرحلة من تلك المراحل لها بعداً جديداً، تتغير فيه العمارة والظروف الاجتماعية والثقافية. وهذا التحول هو دعوة إلى مسرح بديل عن طريق الانفتاح على فضاءات مسرحية مغايرة تتسم بالتنوع ومحاولة تحقيق التواصل الحقيقي بين الممثل والجمهور تنظيراً وبناءً وتشكيلاً ودلالةً.