حلقة 1
كثيرة هي الصور المؤثرة والمعبّرة في تشييع الشاعر الكبير مظفر النواب من مقر اتحاد الادباء في بغداد حتى قبره في النجف الأشرف الذي اوصى ان يدفن فيه .. لأن هذه الصور تعبر عن عمق محبة العراقيين للنواب وعلاقتهم الروحية والوجدانية معه ..
ولكن تبقى اقوى الصور حضورا في الذاكرة هي الصورة التي خلدت لحظة مرور نعش النواب من تحت نصب الحرية فهذه الصورة تعادل تظاهرة مليونية في هذا الميدان الذي شهد اروع صور التظاهر حتى سالت فيه دماء تشبه شعر النواب بجرأتها وحرارتها .. هذه اللحظة وقف بها جواد سليم يحيي النعش مثلما النعش مر يحيي النصب ويحيي المتظاهرين ويحيي الاكف التي حطمت القيود في النصب ..
لحظة ذهول جمعت التاريخ كله الى قلب بغداد ساحة التحرير فان لم يحضر مظفر النواب اي تظاهرة من تظاهرات البطولة تلك وهو ابو الثورات والرفض والاحتجاج فقد حضر اليوم في لحظة جامعة معوّضة دامية .. لحظة تشبه المجموعة الشعرية الكاملة له .. قصائده كلها عبرت وصدحت في تلك اللحظة من فوق نفق التحرير .. وهو يعرف ان بغداد في هذا المكان وهذه اللحظة تكون بطابقين او عالمين عالم علوي وعالم سفلي وهو ينظر ويرقب المارة وجسر الجمهورية وجبل احد يستطيع ان يرى من خلال التابوت فالعلم العراقي شفاف تستطيع ان ترى من خلاله بغداد وخشب التابوت لا يمنع عيون النواب الحية من الرؤية والرؤيا ايضا اما جدار الموت فهو اكثر شفافية لعيني شاعر خالد عصي على الموت .. كان مظفر يرى ويسمع هتافات تشرين والملايين المرحبة به فلا ينطبق عليه قول احمد الصافي النجفي :
يا عودة للدار ما أقساها
اسمع بغداد ولا أراها
بل كان النواب يقول في تابوته :
يا عودة للدار ما أحلاها
اسمع بغداد كما أراها
في تلك اللحظة كانت هناك عينان حاضرتان هما عين الشاعر وعين بغداد تتكلمان بلغة العيون ولغة الجسور ولغة الانهار ولغة الشوارع وأهمها لغة الدماء .. فهذه اللحظة لحظة مرور النعش في درب الدم عبر قلب بغداد
من تحت نصب الحرية .. تمتد فتصبح اكثر من لحظة لأنها تسيح في نهر الزمن فتصبح دهراً مثلما تسيح في دروب بغداد وأزقتها لتنجب شارعا كبيرا يسمى شارع مظفر النواب .. فكيف نستطيع ان نمسك لحظة سائحة لحظة زئبقية يصعب على الزمن السكران ان يضعها في كفه ..
ان الصورة فقط استطاعت ان تمسك تلك اللحظة وتمنعها من الهروب.. الصورة استطاعت ان تصطاد غزالة الزمن وتضعها في حديقة الاسئلة لترعى في عشب المعنى تحت اشجار الأجوبة الكثيفة ..
انه عصر الصورة بامتياز حيث يمكن لصورة واحدة اسقاط انظمة والاطاحة بعروش .. فصورة النواب وهو يسير حيّاً أكثر منه ميتاً تحت نصب الحرية .. هي من هذا النوع من الصور .. صورة تشبه نشيدا وطنيا عابرا حاجز الموت ..
سألته في حواري الأدبي والصحفي معه المنشور عام ٢٠٠٤
قلت له : والعودة الى الوطن .. متى ؟ فإن محبيك العراقيين ينتظرون عودتك .. اما آن الاوان لتدفن جمر الحنين وتغلق باب الغربة ؟
قال : نعم .. افكر الان بالعودة الى الوطن ومنذ اشهر وانا اتصل بمن في داخل العراق او بمن يجيء الى هنا فيقولون لي تريث الان حتى يزداد الاستقرار وتتحسن الظروف .. فكما ترى ان الغربة طالت ..
لم يكن يعلم ولا انا انه سيعود الى العراق ملفوفاً بعلم عراقي ..
يتبع ..