تطل رواية الروائي وحيد غانم علينا بطبعة جديدة عن منشورات غاف 2022 بعنونة جديدة اضاف لها إضاءة لإعادة ظهورها من جديد بعد ان بقيت سنوات مثل جمجمة مغمورة تجاويفها تحت الرمل في طبعة قديمة صدرت عن دار تموز دمشق/ ضمن اصدارات الاتحاد العام للأدباء والكتاب العراقيين في البصرة 2014 التي لم تنل التوزيع والاهتمام ولم يكتب عنها الا مقالة واحدة للقاص والروائي نبيل جميل وبقيت حبيسة الادراج حتى كاتب هذه المقالة وهو قصور القراءة وعدم الرؤية بعمق لما يكتبه الروائي والقاص وحيد غانم . وقد اصدر الروائي بعدها روايتين (الحلو الهارب الى مصيره )عن دار الجمل عام 2016 ورواية (الاميرة في رحلة طائر العقل) عن دار نينوى عام 2019 وبعد قراءة هذه الرواية بثوبها الجديد أعياد الخفاش وكأنها أعيدت الى الحياة من تحت الرماد مثل عنقاء .
رواية الرمم والعظام والجماجم وانت تقرأها ينتابك احساس بالموت وانك تلامس قحفة الراس الناعمة التي ينعكس عليها ضوء النهار من فتحات الجملون واكياس بالمئات معقودة ومختومة تضم رفات الموتى المفقودين عبر الحروب وصناديق وتفترش الارضية عظام تسف بها الريح.
اخترق وحيد عالما موبوءً بالموتى وهمة البحث عنهم تحت الارض، وكان الارض كلها مقبرة عظام وجماجم ورفات، هكذا بدأت الرواية صورة في عقل الراوي(( وهي نتاج صورة جلبها أحد الصحفيين يوما ما، التقطها لمكان انتأى عن الحياة ووضعها تحت نظري)) بعيدة عن الحياة في خانة الموت الارض هي الارض ولكنها ارض الموتى قاحلة تسف بها الريح وتعبث بها الفئران وهي تقرض بقايا العظام.
تتعانق الحياة مع الموت في علاقة شائكة وملتبسة بين بطلها المسكون بهواجس الموتى ضحايا حروب واوبئة وحوادث وتصفيات وجرائم مجهولة احد الرجال المكلفون بحراسة الرمم المحفوظة بأكياس في مستودع على طرف الحياة في صحراء (( لكني الفت بمرور الوقت ذلك الحطام من صفير الريح في تجاويفه وكأني ارغب في كل مرة بسماع العزف على الة خربة)) وبين سامية التي تجره الى الحياة جراً في غرفة صغيرة بمدينة العشار، تتلمس يده الخشنة بينما هو يراها مثل رمة يتلمس عظامها لعلاقته بالعظام وملمسها المخيف. (( كانت تتلقاني بإشراقة شاحبة تبرز عظام وجهها ونظرتها القلقة، فأبتدرها بالسؤال عن اسنانها التي تشكو منها وتقفز الى خاطري صور مختلفة لتلك النبال الناعمة التي ما زالت حية في ذاكرتي بعدما تهمت الفكوك والجماجم التي تضمها وتدفعني الى الضغط على يدها فتفاجأ وتهزها سعادة . كانت عظامها تستثيرني)).
تبدا الرواية بموظف الارشيف الذي الحق الى المجموعة التي تحرس الرفات من جهة دينية مجهولة وهم الدكتور جبور مدير المجموعة والسؤول الاول عن مستودع حفظ الجثث وسائق الاسعاف والحفار وبعدها يعرف السائق البطل على تاجر شاب ومن ثم زوجة السائق التي تموت حرقا واختها سامية شخصيات لها حياتها التي تتشابك كلها مع حياة بطل الرواية وساردها .
من يتتبع مسارات الروي سيجد ان ساحر ما لعب باللغة وصاغها بهذه الطريقة، لغة قادمة من مكان قصي لا تعهد به الروايات العراقية، كانت عميقة وفلسفية وهي تهيم في ملكوت كبير يضم لغات العالم وسحرها، لغة قادمة من المجهول صاغها وحيد غانم وهو مخدر لا يعرف كيف رسمت نفسها، مثل دخان يتلوى بين اصابع ساحر او عاصفة رميلة تذري حبيباتها على الورق. سأقتنص فقرة من سكشن (25) (( في الليل نعلق الفوانيس بأطراف المجاذيف ونأخذ بالغناء حتى نثيره وكان يتعرى وينزل الى النهر ومن شدة ارتياحه يخرأ فيطفو برازه تحت ضوء القمر ويجرفه المدّ نحونا فتلتهمه الاسماك الصغيرة وكنا نلمه بأيدينا وننشره فتتقافز الاسماك في الهواء)).
رواية ساحرة بسردها ولغتها وعوالمها وشخصياتها ورصدها للحياة في تلك الفترة من عمر المدينة وهي مثقلة بالحروب والموتى والقتل والفساد والضياع والعبث حياة رمادية تراب وغبار وريح وقوارض وريح ترفرف فيها اجنحة الخفافيش ،أعياد الخفاش رواية لا تقل قيمة فنية عن اي رواية عالمية متقنة ببنائها ورسم شخصياتها وسرد عوالمهم الخفية سرد لذيذ ومشوق مشبع بالصور الساحرة والوصف الدقيق واللغة الحبلى بلغات كثيرة وحواراتها العميقة المثقلة بالحزن والضياع وهو يرسم فضاءات خربة قصية ميتة.
رواية عالمية لا تختلف عن الروايات العالمية استطاع الروائي وحيد غانم ان يتحفنا بنص غير قابل للتقليد سردا ولغة وبناءً وهي درس روائي وان بدت قصتها او حكايتها بسيطة تدور في مستودع لحفظ الرفات على طرف المدينة ولكنه خلق لنا بطلا غريبا ومركبا تدور في فلكه جميع شخصيات الرواية يذكرنا بشخصية الغريب لكامو العبثة واللامبالية والغريبة في رغباتها وحياتها الذي يسر على حبل رفيع بين الحياة والموت بين الصحراء والمدينة بين الاجساد الحية والرفات.