منذ أن فتحنا أعيننا ، ونحن نعرف أن هذه الأرض تملك نهرين عظيمين على ضفتيهما قامت أعرق الحضارات ، فهما مهبط الإنسان الأول ، والحرف الأول ، والقانون الأول ، والنغم الأول ، والكأس الأولى ، وكل شيء !!
منهما أخذت البلاد اسمها ، كانا يفيضان بالخير والحياة منذ بدء التاريخ ، وعلى ضفتيهما كتب الإنسان أغنيته الأولى !!
قرأنا عن فيضانهما الكثير ، وسمعنا عنهما حكايات أكثر ، ففي سبعينات القرن الماضي فاض شطّ العرب بعد ارتفاع مناسيب مياهه فغرقت قريتنا وصرنا نبحث عن ملاذ آمن ، وفي عام1988 وبعد خروجنا من السجن تم نقلنا كجنود إلى مناطق الفيضان غرب ميسان حيث رأيت المياه وهي تجرف بسيلها البيوت والحيوانات، وما تزال صور أهلي في جنوب الفاو وهم يبنون السدود والأكتاف إبان الستينات والسبعينات خوفا من الفيضان تدور في مخيلتي !!
هذه الكميات الهائلة من المياه لم نفكر بالمحافظة عليها ، ولم نستفد منها ، بل تركناها وهي تجري صوب الخليج المالح وكأن شيئا لم يكن !!
كان أهلنا الفلّاحون يغمرون أراضيهم بالماء ويسدّون مداخله لأيام ، بل ويحتفظون بجزء منه أيضا !!
هذه الحكمة في خزنه لم نتعلّمها لأنّ كلّ حاكم ومسؤول جاء لبلادنا لم يفكر بآلية الاستفادة من مياه النهرين العظيمين ، بل انشغل وبطانته بالتآمر والحروب والظلم والفساد والصراع على المناصب والكراسي لسرقة ماتبقّى ، كما إن الدول المجاورة منذ الأزل لم تفكّر سوى باحتلال أرضنا ونهب خيراتها أيضا !!
العراق ــ بلاد الرافدين ــ الوحيد الذي لم يستفد من رافديه ، بل صارا نقمة على شعبه كالنفط ، إذ بدأ جيرانه الآن بمحاربته عن طريق قطع الماء ، وبناء السدود قرب منابعهما ، وتغيير مجرى بعض روافد دجلة ، وصرنا نتلمّس زخّة مطر لتنقذنا من خطر الجفاف والتصحر !!
كما زحف اللسان الملحي على مياه شطّ العرب مثل كل صيف ليقتل الزرع والضرع أمام صمت الحكومة المحلية والمركزية وكأنّ الأمر لايعنيهما ابدا ، أيعقل هذا ؟؟!!
يا للمهزلة الكبرى ، والمأساة الأكبر !!
لو فكّر حاكم واحد من كل مَنْ جاء وبنى سداً على شط العرب أو فتح انهارا وقنوات إلى الصحراء المترامية الأطراف من بغداد وحتى البصرة لما احتجنا إلى قطرة ماء واحدة ؟؟!!
لو لم يجفف الطاغية المقبور الاهوار التي كانت خزّانا طبيعيا كبيرا لما احتجنا إلى قطرة ماء ؟؟!!
لو فكّر حكامنا ومسؤولونا الآن بآلية جديدة لفتح قنوات حوار مع جيراننا المسيطرين على منابع الرافدين وقايضوا الماء بالنفط لما احتجنا إلى قطرة ماء ؟؟!!
علينا أن نتّعظ ونأخذ عبرة كبيرة من قلقنا من الجفاف المحتمل وصراخ ابناء البصرة من الماء المالح ، ونسعى إلى إيجاد حلول ومنافذ للاستفادة من مياه الرافدين بدل هدرها وذهابها إلى الخليج ، ونفتح آفاقا جديدة للبناء والأعمار بعيدا عن الفساد والخراب والاحتراب السياسي الذي لن يثمر غير المزيد من الموت والدمار والتشرذم وازدياد الخراب !!
مقالات ذات الصلة
14/10/2024