لا تزال قصيدة الهايكو تشكل هاجسا للثقافة العربية ، التي تبرمج ذهنها الإبداعي على وفق نظامين لا ثالث لهما ( الكلاسيكية الموروثة و قصيدة التفعيلة التي لم تخرج بعيدا عن الخليلية المقننة ) ، وهذا الأمر انسحب أصلا على ما أطلق عليها بقصيدة النثر التي واجهت صعابا واحتجاجات كبرى منذ ظهورها الذي لم يتحدد زمنية انطلاقها أو الاعتراف بها من قبل المعارضين والمتشددين عليها لحد الآن.
حسنا .. قصيدة النثر وقصيدة الهايكو تنويعات تشكيلية للقول اللغوي في حقل الشعر ، وكلاهما – مع الاختلاف البسيط- من نتائج العقلية المغايرة ، الغربية ( قصيدة النثر) والشرقية البعيدة ( الهايكو) بوصفها مكونا حضاريا انتج هذا التشكيل المغاير ،
نقول إن التلاقح المعرفي والابداعي لا يتجزأ في قبول النوع الأول ورفض النوع الثاني وعليه صار فعل التجريب هو معيار الاحتكام للبراعة والإبداع الذي يفرض ذاته في هذا الحقل دون الآخر ،
من هذا المنطلق ابتدأ التجريبيون يرتادون أبواب الأشكال الشعرية التي تفد من جهات العالم المختلفة ، كوننا في ظل فضاء إنساني كبير لا يمكن لأي مبدع مجترح للمعاني والأفكار أن يرفض قصيدة ، يرى ويلمس في داخلها حسا إنسانيا راقيا يضيف خيالا وابتكارا وكشفا لعوالم غريبة لم يألفها من قبل ، وهذا هو ما جعل الذائقة العربية تتقبل قصيدة النثر وقوانينها الغربية عند بودلير ورامبو تأسيسا ، وتكتشف جمال الصورة والمفارقة والدهشة في قصيدة الهايكو وربما نصل اليوم إلى اكتشاف جمالية ما يطلق عليه بالأدب الوجيز الذي يقترب من منظومة الاختصار والاختزال الذي دعت إليه قصيدة الهايكو بما يشبة دعوة طاغور لما أطلق عليه ب( اليراعة) أو ما أطلق عليه بالومضة بالرغم من اختلاف قوانين الفنين ( الهايكو والوجيز) .
من هذا المنطلق أجد نفسي مدعوا للكتابة عن ديوان شعري صدر عن مطبوعات اتحاد كتاب وأدباء البصرة ، قبل أيام معدودات وهو ديوان ( أحلام يبللها المطر ) للشاعر علي نكيل عليوي ( أبو عراق) الشاعر البصري المثابر والمتعدد الاجتراحات والطروحات الإبداعية بتعدد منافذ القول الفني لدية ، ما بين قصيدة النثر وقصيدة الأغنية والأدب الشعبي والرواية وقصيدة الهايكو المعنية اليوم بمقالي هذا.
قدم أبو عراق عددا كبيرا من الهايكوات في ديوانه هذا ، تجاوزت 200 قطعة من المفارقات والصدمات والالتماعات ، وعليه يمكن أن نصنف أنواع الهايكو لديه وفق هذا المعيار من مثل:
1 – التماعات لفظية
2 – التماعات ذهنية
3- التماعات تصويرية
اللفظية
يقول الشاعر في مقطع هايكو ( وأنا استخدم مصطلح مقطع بمعيار المصطلح النقدي العربي) :
النجوم مسامير
لولاها
سقطت السماء
هذا التآلف اللفظي يبدو واضحا منذ بدء النص حتى خاتمته كون المقدمات تقود لنتائجها، إذ البؤرة الشعرية تتمركز في كلمة واحدة هي المحور الدال في المقطع كله وأقصد المسامير ، فلولا هذه اللفظة لضاعت الصورة .
ونجد هذا أيضا في :
تخضب بالدم
شهيد
ما حاجته للحناء
هذا المقطع يعد أيضا من الالتماعات اللفظية فلولا كلمة ( شهيد) لما تشكلت الدلالة بين الدم والحناء ، وكأننا نؤشر أن الشهيد هو الجامع لهما في الاقتراب والمانع لغيرهما بالتأويل ،
ذلك ما نقول فيه المعنى الدال للفظة المؤثر على نظام قصيدة الهايكو التي يكتبها علي نكيل .
ويمكن لنا أن نأتي بنص ثالث يخدم هذا النوع من التشكيل الشعري عندما يقول الشاعر:
ضفة تقول لأخرى
لن نلتقي
بانحسار الماء
وكأني أجد أن هذا المقطع يتكيء على مرتكز لفظي واحد وهو ( نلتقي) فهو حاضن للدلالة الموزعة والمرتبطة بجناحي النص وهما ضفة من جهة والماء من جهة أخرى .
الذهنية
من جانب ثان نجد الالتماعات الذهنية في رحابة تشكيل التأويل في ذهن المتلقي ونقصد بها أن بناء المعنى يعتمد على ما يمنحه النص للمتلقي من سعة في تصور المعنى ، حيث نجد ذلك في:
النجوم
قناديل لا تخشى
الريح
ولنلحظ البناء الذي رسمه الشاعر حينما يتقابل طرفان وهما ( النجوم والريح) كونهما لفظتين منفردتين اولا ومعلقتين في فضاء تخيلي واحد وما بينهما قناديل لا تخشى ثانيا ، أما القناديل فهي أقرب للنجوم ، ولا تخشى أقرب للريح وكأن السطر الثاني قد انشطر نصفين الأول يعود للنجوم والثاني يعود للريح.
هذا لا يتوفر إلا عبر الالتماع الذهني في التأويل وشبيه به قول الشاعر:
في النهر
تطفو المصابيح
لا أحد ينتشلها
هنا نجد سطرا باردا (في النهر) يتحرك بوصفه محايدا لا دلالة له إلا أنه عنصر فاعل في مخيلة المتلقي التي ستشكل الصورة ذهنيا والتي تستدعي المصابيح المنعكسة على حين ( ترقص الأضواء كالأقمار في نهر ) مع مغايرة التشكيل المفرح عند السياب والحزين المؤلم عند علي نكيل في ( لا احد ينتشلها) .
وبذلك يقدم الشاعر نصوصا ذات التماعات ذهنية كثيرة في ديوانه هذا حيث يقول:
خاصرة النهر
تشكو أمواجا
هزمت البحارة
هنا لابد من خلق ترابط على درجة عالية من الكد الذهني الذي يجب أن يبذله المتلقي في تصور الرابط بين الخاصرة المقضومة وهزيمة البحارة ، بسبب الأمواج التي أكلت من الجرف خاصرته ، ومن البحارة بأسهم ، ذلك ما يمكن أن يخلق الدلالة الذهنية في المقطع الهايكوي،
ومن مثلها :
بنادق
لا تغني للحق
خرساء
وكأننا نقول ( البنادق خرساء من لا تغني للحق) كون الشاعر من أجل أن يخلق نصا ينتمي للهايكو عزل الموصوف عن الصفة وجعل بينهما الغناء ارتباطا بالحق .
التصويرية
ولتأكيد هذا النوع الشعري الدال عند الشاعر نذهب إلى هذا المقطع:
أحدق بالسماء
غيوم
قطعان مذعورة
لنجد الترابط التصوري لا يتشكل إلا عبر اكتمال الصورة برمتها من سطرها الأول حتى الثالث ، إذ نجد القطعان المذعورة استعارة متفجرة وملصقة بالغيوم وهنا تكتمل الصورة ، وما وجود السطر الأول إلا من باب التحديد المكاني ، إذ بإمكان الشاعر أن يستغني عنه إلا أن ذلك حين حذفه لا يجعل النص ينتمي لنوعه ، بل يقترب من اليراعة او النص الوجيز ، بيد أن التمهيد به كان سببا مهما لخلق نص هايكوي.
ويقول ايضا :
لا تفرح بالليل
الشمس
تتثاءب في مخدعها
هي كتلة من الاستعارة التصويرية التي اقتبست التثاؤب لتجعله في غير مكانه من باب التغاير الدلالي وبذلك خلقت حالة من التخيل اللا مألوفة والنادرة.
وهنا لابد من التأكيد على النوع الثاني من المقاطع ذات الالتماعات التصورية ، بما نطلق عليه بالتجريدي الذي حفل به الديوان:
إن لم تهب الريح
هل تخفق الاجنحة
يا لحزن البحار
هذا ديوان خصص لفن جديد في عالمنا الشعري من الضروري تصفحه لنستمتع به .