كنت ماضيا لأرى وجه الله في ليلة الجمعة، بعد أن اختنقت مؤخرا من الغطس اليومي في الزائلات والتلهي عن المقامات العالية. فاحتجت الى جرعة من الروحانية تتناسب مع وجع الروح. فقصدت التكية القادرية في ذيل شارع بشار هاربا ابحث عن قلبي. فانا اعرفه منقسما على قلبه. قد نحت من طين. لفحته نار العشق. ونفخته انفاس الملاك. لكنه ولع بالدنيا الدنية ولذة الخطيئة.
فقلت لعل الشيخ له وصفة تريح القلب من عناه. فالشريعة فقه الظاهر. فيما الطريقة اكسير الباطن.
وقد كنت زرت التكية قبل ربع قرن. وحضرت منقبة نبوية في ليلة الجمعة, كانت السماء وقتها تنث بندى الرحمة .فما الذي ذكرني بها؟ هل اشتقت إلى تائية ابن الفارض الأرق, وعرفان بن عربي في فصوص الحكم, واشارات الشيخ الرئيس, وفداء الحلاج لولا بقاء الانية فيه, ومدرسة السهروردي.
كنت اعرف اني عبد نفسي, وقن الدنيا. فقد زرت يوما مع صديق اغواني شارع بشار المدنس ذاته. وقد كان يومها مرتعا لبائعات الهوى وطلابهن. ولكني كنت جبانا عن اللذة او لعله تطهر اجباري. ومرة قال لي جندي وانا ذاهب في المنشاة الى جامعة الموصل ان هناك معبدا في البصرة يتوجه اليه في كل اجازة او نزول يومي. إنه شارع بشار.
و ما يعين التكية على نفسها وتنفسها انها تتوسط مستقرين للقداسة. ففي بداية الشارع، يقع مرقد علي بن يقطين بواجهته الضيقة. وهو قليل الزوار. وقد تحرر اخيرا من إغلاق باب مرقده. فتمت التوسعة. أما نهاية الشارع فاستدارة . في وسطها يستدير جامع الكواز الذي انشئ مطلع القرن السادس عشر . وتوارث خدمته بيت باش أعيان حتى عام ١٩٧٩. وعلى القادم ان يدور كالدرويش المولوي حول الاستدارة وحول نفسه محلقا لربه.
من مدخل الدرب، بانت قبة مصبوغة بالأخضر المتقشع ، كأنھا بطن امرأة حبلى، انتفخت صرتھا. ھي ھي ، بیت القلوب. يستوطن الله فیھا. فتقدمت مستغفرا خطاياي. لكن رائحة كريهة تطر الهامة صدتني. كان أحشاء السمك الطازج والبائت يرميه أصحاب المحال وباعة السمك. وتساءلت كيف تدور حلقات الذكر بالذكر مع ان الزفرة لا تدفعها شدة من اعواد البخور ولا الحرمل والمسك الأبيض.
وصلت مكان التكية المفترض, بحثت عن بابها. فلم اجده. درت حولها باحثا عنها. فكانت محال بيع السمك تخنق التكية من جوانب ثلاثة. فيما تكفل بالواجهة صفان متقابلان من بائعات سمك الفاو والهور والأحواض التي تنفخ للسمك البروتينات وتمنحها شحوما. فوجدت من جهة الشرق بابا وسخا, دفعته فثمة ممر ضيق وسخ فيه أنقاض وماعزتان. وفي آخره باب مغلق بسلسلة. لقد تغيرت خارطة الذكر والذاكرين.
لكني اهتديت اخيرا الى الباب الاخضر القديم المضمخ بكفوف الحناء المتیبسة وقطع الأقمشة الخضر. وقد أغلقته تقريبا كومة كارتونات واقفاص بلاستيك. فهل هجر العباد ربهم. وانزووا في معترك الأوهام الزائلة يعيثون بتقواهم.
كان الباب معتقلا بسلسلة عتيقة وقفل صدئ یتدلی منها. حركته فانفتح. ولكني لم الج. بل أعدته لحاله الزائف. ووقفت على أطراف الأصابع. اطل من اعلى الباب. اطالع الداخل بصعوبة. على الیسار ما يشبه المرافق الصحية وبضع ادوات قديمة في صنادیق بلاستیكیة. والى الیمین حجرة صغيرة شبه معتمة رطبة الجدران فد فتح بابھا. فظهر منها جزءا من قبر سمین ، يحاصر الجدران، تدثره قطعة قماش عتيقة من جفجاف اخضر، وقد نقش علیھا آيات قرآنیة بخط غیر متقن. وطالعت باب قاعة الذكر الواسعة حیث تقام المناقب النبویة. واستعدت المشهد قبل ربع قرن. وكيف احتملت على مضض رؤية حفل الدرباشة حيث السيوف تغز البطون والخناجر ترتكز في الرؤوس مع رقع الدفوف. واصطبرت كي لا اقيئ.
كانت القاعة مغلقة. فوقفت اتنصت., طرقت الباب. لم اسمع صوت الله من طور المحبة. طرقته مرات فانفجر صوت منزعج من خلف الباب ( لا احد موجود). ثم (تعال غدا)، كانها دائرة رسمية. فقلت له صدقت ايها الحارس الارضي لبيت السماء ! لا احد موجود! فالجميع في غيبوبة الدنيا. ولم تعد السماء تبال بالتكية وروادها المغادرين.
بل لعله يقصد ان لا موجود الا الله. فنحن مجرد اشارة وظلال. نجمة مطفأة في جلجلة المجرات وتزاحم السدم, محض غبار هائم في مدافن الازمنة. تهلكتا الأزمنة. فتفكك صورتنا. وتبيد هياكلنا مثل قشرة الخنفساء.
اكملت طريقي الى سوق البصرة من الخلف، اجر سيفي ورائي. فلم أنل الطريق ولا الطريقة. ولم أبصر صورة ربي. فكنت كالمريد الذي تأخرت أسفاره. فمات.
مضيت عبر الأزقة الطیبة، والوسخة، والدكاكين الصغيرة المتزاحمة یسكنھا الفراغ. كنت اتطلع أن اضیّع ظلي وسط الزحام. وان اندمج في دورة التسوق والنظر والأوقات الفارغة الممتعة. لكني عدت لا احد معي سواي. وخلفي قبة خضراء تقشع صبغها… ترتفع.. خالية.