كعادته صديقي…. يتصل بي ليسأل عن أحوالي، فحرارة الصيف والانقطاع المستمر للتيار الكهربائي لا يشجعان على الزيارة.
المهم يأخذ اتصالنا أكثر من ربع ساعة أو أقل عبر النقال “الواتساب” وقتها أشعر بانزعاجه من صياح الصبية وعدم الرغبة بالتواصل.
_ ما هذا يا أخي لم أفهم منك شيئا؟
بالتأكيد، أعتذر منه فيتكرر الحال وأجيبه بأسف آخر، حتى قلت له يوما؛
“أنا أشتغل نبَّاحاً يا صديقي..
فضحك متأسفا على الحال.
بينما أكدت له؛ إنها مهنة حقيقية.
فوجدته لم يعرفها، قلت له سأروي لك عنها وللآخرين ما أعيشه وما كانت الناس تترزق منه قديما، ولو نحن ،أنا وزوجتي، نشتغل بالمجان.
فيا صديقي..
تعرف جيدا أنا أسكن في أحد بيوت الحواسم، بيوت متراصة ومتداخلة بلا شوارع منتظمة، بيوت عشوائية غير مرخصة. كان بيتي عبارة عن شقق متداخلة لأبنائي الأربعة المتزوجين، كل شقة بغرفة واحدة ومجاز صغير وحمام، تشترك الشقق بمرحاض واحد.
عدد أسرتي ثلاثة وعشرون فردا، عشرة كبار، أربع زوجات وأربعة أبناء، أنا وزوجتي وثلاثة عشر من الأحفاد، كبيرهم لا يتجاوز ثلاث عشرة سنة، وأصغرهم بعمر الشهرين وثمة مولود سيأتي.
جميعهم، يتواجدون في الممر الذي يوحّد البيت الكبير. ولأننا بعمر الستين ونيف، لا غرفة لنا صار الممر منامنا، بمعنى نحن، آخر من ينام بسبب الصياح وأول من يستيقظ على صراخهم.
الممر هذا مختلف البناء ضيق جدا وهابط السقف، بمترين وعشرة سنتمترات. بينما الشقق عالية بعض الشيء، تباينت سقوفها بين الأرامكو والصفائح المضلعة والطابوق.
هذا ما اعتدنا عليه، منذ ثماني عشرة سنة، ولكن الذي لا نعتاده هو صراخ الصبية وعراكهم وضحكهم وبكاؤهم الذي يبدأ من نجمة الصباح وحتى آخر الليل وبلا انقطاع.
فلا حل يخفف الأمر إلا بالصراخ عليهم وضرب هذا ومداراة ذاك ليسكت أو اقناعه كي يأتي أبوه ليسكته بشراء لعبة أو يرضيه بقطعة نستلة أو المقرمش لكن الآخر حتما سيصرخ ليركض نفس الأب، يشتري للجميع.
بعضهم يريد شيئا آخر فتبدأ المشكلة لتلصق بمشكلة أخرى، وهكذا…
ولأن الأمهات والآباء تعبوا من أبنائهم، حوّلوا المهمة علينا، أنا وعجوزي، لعلنا نستمر في معالجة هذه الإشكالات بالصياح والصراخ الذي تجاوزنا فيه صراخهم وبكاءهم، لم نصل إلى البكاء، فقد
عوّضته عجوزي بالضغط والدوار، أما أنا فبضعف البصر وثقل السمع واشتعال الرأس شيبا.
اليوم أنا وزوجتي مهنتنا “لاحوح، نلح لعلنا نفلح بسكوت الصبية، مداراتهم” وبعض المشتغلين بها يسمون أنفسهم بالنباح، تشبيها بالكلاب، لكثرة الصياح على الصبية وتمردهم.
الفرق بيننا وبين المشتغلين قديما، إننا اشترينا هذه المهنة أو جاءتنا من غير ميعاد، بينما كانت البيوت في الأهوار والمناطق الزراعية والرعوية تستأجر العجوز لوحده أو مع امرأته ليكون لاحوحا أو نباحا، حتى عودة الرجال والنساء من العمل إلى البيت. وقتها يكون قد انتهى عمل اللاحوح.
يا صديقي
بقي الفرق الأخير عن مستأجري هذه المهنة؛
لم ننتهِ منها إلا مقبوريّن.. والسلام.