يرى ابراهيم بن محمد ابن ابي عون (ت٣٢٢هـ) ان الشعر ينقسم على ثلاثة اقسام، منه المثل السائر كقول الاخطل:
قَدْ أقْسَمَ المجْدُ حقّاً لا يحالِفُهُمْ حتى يحالفَ بطنَ الرَّاحةِ الشعرُ
ومنه الاستعارة الغريبة، كقول الطرماح:
فَقُلتُ لها يا أُمَّ بَيضاءَ إِنَّهُ هريقَ شبابي واستَشنَّ أَديمي
ومنه التشبيه الواقع النادر، كقول امرئ القيس في العُقاب:
كَأَنَّ قُلوبَ الطَيرِ رَطباً وَيابِساً لَدى وَكرِها العُنّابُ وَالحَشَفُ البالِ
ويضيف ابن ابي عون أن الشعر الذي يخرج عن هذه الاقسام الثلاثة فهو شعر وسط أو دون ذلك لا طائل فيه ولا فائدة.
ويرى ابن ابي عون أن أصعب أقسام الشعر هو التشبيه، لأنه لا يقع إلا لمن طال تأمله ولطف حسه وميز بين الأشياء بلطيف فكره.
وقد حاول أن يثبت ما قاله عن التشبيه حيث أورد في كتابه التشبيهات نماذجاً وابياتاً شعريةً من التشبيه. إذ يقول في مقدمهِ كتابه: (أنا اثبتُ لك في هذا الكتاب ابياتاً من التشبيه مختارة وأتخللُ المعاني المختلفة والتشبيهات المتداولة إلى الأبيات الطريفة النادرة واقتصرُ على جملة يكون لك فيها حظ ومتعة وتأدب ورياضة وأتجنبُ الاطالة التي يتلقاها الملالةُ).
منهج ابن ابي عون في كتاب التشبيهات
كان المؤلف يعرف لمجموعة من تشبيهات العرب الشعرية في مختلف الموضوعات، متخذاً من أسلوب المبرد وسيلة لعرض نماذجه الشعرية في التشبيه، ومتخذاً من أسلوب ابن طباطبا العلوي مقياساً لقياس تشبيهاته الشعرية.
يقول محمد زغلول في كتابه تاريخ النقد الأدبي والبلاغة: (يجمع فيها بين طريقة المبرد في الباب الذي عقده للتشبيه، وبين ابن طباطبا في الفصل الذي عقده في عيار الشعر. ويعرض مجموعة ضخمة من تشبيهات العرب في المعاني المختلفـة وفي وصف الإبل والليل والنهار والجياد والسيف. الخ). فكان يختار نوادر التشبيهات دون الأوصاف والاستعارات. وكان ابن ابي عون في كتابه يحكم على الشعر وجماليته من خلال الأساليب الفنية – وخصوصاً التشبيه – وليس على الأغراض الشعرية الأخرى.
ابن ابي عون ناقداً أم جامعاً للأشعار؟
قبل أن نطلق حكمنا في هذه المسألة، لا بد ان نغوص ونتعمق في حركة الاتجاهات النقدية في عصر ابن ابي عون في القرن الرابع الهجري لنقف على دوره وأثره في نقد الشعر، وهل فعلاً قد جاء بأحكام ومقاييس نقدية ام لا؟
عندما نبحث في كتب النقد والأدب العربي، نجد أن أبرز اتجاهات النقد في القرن الرابع الهجري تدور حول قضايا رئيسية أهمها: الصراع النقدي حول ابي تمام، والمعركة النقدية حول المتنبي، والنقد والأثر اليوناني (الارسطي)، بالإضافة للجهود النقدية الأخرى التي كانت بارزة في هذا القرن، كمحاولة ابن طباطبا في نظرية (عيار الشعر) واعتماده على الذوق الفني، وأيضاً الدراسات النقدية التي استخدمت في دراسة الإعجاز القرآني على يد جماعة من غير النقاد مثل الخطابي والباقلاني والرماني.
والسؤال الذي نطرحه حول كل هذا، ما هو دور ابن ابي عون في كتابه التشبيهات من نقد هذه الاتجاهات النقدية، وما هي معاييره ومقاييسه النقدية التي اعتمدها في نقد الشعر.
الحقيقة، أن كتاب التشبيهات لم يتناول أي قضية أو حدث بارز من قضايا النقد في القرن الرابع الهجري، فقد اكتفى ابن ابي عون في كتابه باختيارات شعرية على أساس صوري لا موضوعي.
وكما قلنا سابقاً فقد قسم الشعر لثلاثة اقسام (المثل السائر، والاستعارات الغريبة، والتشبيه الواقع) وهذه القسمة للشعر يراها الباحثين عجيبة، كذلك جعل التشبيه أصعب اقسام الشعر وهو ما لم يقره الذين مارسوا صنعة الشعر.
فكتاب التشبيهات لم يتناول القضايا النقدية الأساسية في القرن الرابع الهجري والتي شغلت حيزاً واسعاً من آراء النقاد، فمثلا في الصراع النقدي حول ابي تمام، نجد ابن ابي عون يخالف التوقعات بأنه أورد باباً من تشبيهاته بعنوان (ابي تمام الطائي: الجود والسخاوة) تاركاً بظهره الآراء النقدية التي كانت تطرح حول ابي تمام، وكذلك ينطبق الحال ذاته مع المتنبي، إذ كان مغيباً في كتابه.
نستنتج من ذلك، أن ابن ابي عون كان جامعاً لا ناقداً، جامعاً لنوادر الأشعار ولم تكن له معاييرٌ نقديةٌ تفرد وتميز بها عن غيره، فمقاييسه النقدية التي كان يميز بها جودة الشعر من خلال تشبيهاته هي مقاييس كانت معروفة سابقاً عند البلاغيين العرب القدامى.
نماذج من تشبيهات ابن ابي عون في وصف الفرس
اقتصرت في مقالتي هذه على تشبيهات وصف الفرس لمجموعة من الأبيات الشعرية التي اختارها ابن ابي عون في كتابه التشبيهات.
فقد شبه ابن ابي عون الفرس بأوصاف عديدة مستعيناً بنماذجٍ من أبيات شعرية للعديد من الشعراء العرب القدامى، ومن هذه الأوصاف التي أطلقها ابن ابي عون للفرس، منها:
- السرعة في العدو: فيقول من التشبيهات الجياد في صفة الفرس قول امرئ القيس:
وَقَد أَغتَدي والطَيرُ في وُكُناتِها بِمُنجردٍ قَيدِ الأوابدِ هَيكَلِ
مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقبِلٍ مُدبِرٍ مَعاً كجُلمودِ صَخرٍ حَطَّهُ السَيلُ من عَلِ
وقوله: قيد الأوابد هيكلِ: فالأوابدُ كل ما تأبد أي توحش من بقر الوحش والظباء وغيرهما، ويشبه الشاعر سرعة فرسه بالصخرة الضخمة المنحدرة من أعلى الجبال.
وقوله: الطيرُ في وكناتها: هنا يشبه الشاعر فرسه بخروج الطير مبكراً من اوكارها.
- الخيفانةُ الجرادةُ: ويُقال للطويلة القوائم الخفيفة اللحم من أناثِ الخيل (خيفانة) وذلك يحمدُ فيها، كما في قول امرئ القيس:
وَأَركبُ في الرَوعِ خَيفانة كَسى وَجهَها سَعَفٌ مُنتَشِرٍ
وجاء في المعجم الوسيط: الخيفانةُ من الجراد، التي صارت فيها خطوطٌ مختلفة بيض وصفر. ويُقال جراد خيفان: أي اختلفت فيه الألوان، فهنا شبه الفرس بالخيفانةِ الجراد لخفتها وضمورها.
- شبه الفرس بذيلِ العروس: كما في قول امرئ القيس:
لَها ذَنَبٌ مِثلُ ذَيلِ العَروس تَسُدُّ بِهِ فَرجَها مِن دُبُر
قوله: لها ذنب مثل ذيل العروس: فهنا الشاعر لم يقصد ان يشبه طول الذنب بطول ذيل العروس فقط، وإنما أراد السبوغ والكثرة والكثافة.
- شبه الفرس بالسهم: كقول جرير:
أرَاجِعَتي يَداكَ بأعْوَجيٍّ كقِدْحِ النّبعِ في الرّيشِ اللؤامِ
بأدْهَمَ كالظّلامِ أغَرَّ يَجْلُو بِغُرّتِهِ دَيَاجِيرَ الظّلامِ
تَرَى أحْجَالَهُ يَصْعَدْنَ فيهِ صُعُودَ البزْقِ في الغَيمِ الجَهامِ
قوله: كقدح النبع: أراد سهماً وشبههُ به لملاسته وضموره.
- شبه الفرس بالأنابيب: ويرى ابن ابي عون ان هذا التشبيه قديم، كقول ابن المعتز:
وَخَيلٍ طَواها القَورُ حَتَّى كَأَنها أَنابيبُ سُمرٍ مِن قَنا الخَطِ ذُبَّلُ
صَبَبنا عَلَيها ظالِمين سِياطَنا فَطارَت بِها أَيدٍ سِراعٍ وَأَرجُلُ
ومما يجمع حسن صحة التشبيه وحسن الاستعارة وبراعة المعنى ، أبيات لابي تمام الطائي يصف فرساً حملهُ عليه الحسن بن وهب تحسنُ باتصال نظمها ووصفها ، ويقول ابن ابي عون : (ولو فككنا أبيات التشبيه من الابيات التي تدلُ عليها أو تشيرُ إليها منها ومن غيرها مما يتسق نظمهُ لجاء البيت مبتوراً منقطعاً ولقلت الفائدةُ فيه وضاقت المتعةُ منه وغرضُنا في ما نثبتهُ نوادر التشبيه فاذا اتصل بيت التشبيه بما يليه ذكرناه إذا كان يدلُ عليه واذا كان قائماً بنفسه ولم يخلط به سواه وكذلك إن جاء الشيء لا تشبيه فيه مُتشاكلاً بمعنى ما فيه حرف التشبيه ذكرناه معه وأضفناهُ إليه).
قال ابو تمام الطائي:
نِعمَ مَتاعُ الدُنيا حَباكَ بِهِ أَروَعُ لا جَيدَرٌ وَلا جِبسُ
أَصفَرُ مِنها كَأَنَّهُ مُحَّةُ الـ بَيضَةِ صافٍ كَأَنَّهُ عَجسُ
هاديهِ جِذعٌ مِنَ الأَراكِ وَما خَلفَ الصَلا مِنهُ صَخرَةٌ جَلسُ
يَكادُ يَجري الجادِيُّ مِن ماءِ عِط فَيهِ وَيُجنى مِن مَتنِهِ الوَرسُ
هُذِّبَ في جِنسِهِ وَنالَ المَدى بِنَفسِهِ فَهو َوَحدَهُ جِنسُ
ضُمِّخَ مِن لَونِهِ فَجاءَ كَأَن قَد كُسِفَت في أَديمِهِ الشَمسُ
قوله: فهو وحدهُ جنسُ: أراد أن نسله ينسبُ إليه دون غيره لنجابته كما يُقال هذا الفرس من نسل ذي العُقّال وأشقر مروان وما أشبهها.
وقوله: صافٍ كَأَنَّهُ عَجسُ: العجسُ مقبضُ القوس وإنما صفا وحسُن لكثرة وقوع اليد عليه.
النتائج
أسفر البحث بعض النتائج:
- قسم ابن ابي عون الشعر على ثلاثة اقسام هي: المثل السائر، والاستعارة الغريبة، والتشبيه الواقع النادر.
- كان ابن ابي عون جامعاً للأشعار وليس ناقداً.
- اعتمد ابن ابي عون في منهج كتابه على أسلوب المبرد في التشبيه، وأسلوب ابن طباطبا في عيار الشعر.
- قسم ابن ابي عون كتابه التشبيهات على ٩١ باباً، وافرد باباً من أبواب كتابه في وصف الفرس، فقد شبه الفرس باعتماده على أبيات شعرية مختارة.