الكتابة عن القصة القصيرة جدا قد تشكل نوعا من المجازفة خاصة وأن الرؤية لم تتضح بعد والاختزال والدهشة اللذان قد تعتمد عليهما قد لا يكــــونان موفقين دومـــا ممـــا يجعل كاتب السرد القصيـــر جدا في مراهنــة مع الطرح الفلسفـــي الذي قد يمنــــح النص أفقــــا أوسع وتفسيـــــرا متعددا بتعدد القراء وانتمــــاءاتهم ومستــــــواهم المعرفـــــي
وهي مراهنة صعبة وأنــــا صدقـــــا لم تكن القصص القصيـــــــــرة جدا تستهويني لأكتب عنها لسبب بسيـــــــط هو أنها مازالت للآن مثار جدال و التجارب المنشـــورة ليست دوما مقنعة رغم بروز أسمــــاء فعلا أبدعت في كتــــابة ما اصطلح على تسميته بال ق ق ج
ولعل المختبــــــــــــرات السردية بالمغرب ومصر قد منحتنــا بعض التجــــارب التي استهوانـــا اختزالهـا وحببتنا في الغوص فيها بالشكل المثيــــر والمغري فلا أحد يمــكن أن ينكر تجربة القــــاص شريـــف عابدين
من خـــلال مجـــاميــعه القصصية والتطور المدهش الذي يشتغل عليه بآخر إصداراتــــه
وعلي بن ســاعود في المغرب من خــــلال *انحناءات ملتوية *و*ظلال عابرة *
دون أن ننسى تجربة القاص الليبي جمعة الفـــــــاخري وان كنت لا أنكر أن أول مجمــــوعة عرفتني بهذا النمط من الكتــــابة هو القــــاص المغربي حسن برطال
من خلال مجموعته سمفـــــونية الببغــاء ممـا جعلني لفترة معينة أحصر كتـــابة القصص القصيــرة جــــدا حكــــرا على مســاحة جغرافيــــة معينة لسبب أو لأخر
إلى أن أهدانــــــي القـــــاص السعـــــــودي حسن علي البطران مجمــــوعته نــــــاهدات ديـــسمبر المجمـــوعة التــــــــي أغرقتني فيـها واستفزتني جدا سواء من خلال طرح نــون النسوة المشَكِّل للخــط المتــصل للمجمــــــــوعة أو الإشــــراق الذي تحسـه وأنت تتجول بين نصوصــها البالغة 103 نصــوص قصصية قصيرة جداً ، وحدها العنــاوين قد تحيـــلنا على مفارقـات متعددة قد توجهك لتدرك المسار الذي اتخذه المؤلف لمجموعته .
نــاهدات ديسمبر هي رابع مجمــوعة قصصية قصيــرة جدا تصدر للقـاص حسن علي البطران بالمملكة العربيـــة السعــــودية وهو الوفي لهذا الجنس الأدبي رغم أن إصداراته الأولى كانت عبارة عن مقـــالات
فهو يعتبر أول من أصدر ثلاث وأربــع مجاميع قصصية من السرد القصير جداً وإن بدأ الآن يتعدد إصدار المجاميع فيها من خلال
محمد الشقحاء ، وخالد اليوسف وغيرهم
وإن سبقهم في الكتابة لهذا السرد القصير جداً جبير المليحان ،
وهو أي البطران من كتــــــــــاب القصص القصيرة جدا المكثرين ، ومن عشاق الغوص فيها .
ونـــاهدات ديسمبر مجموعة موغلة بالمفارقـات والتركيـــــــــز والتسلسل حيث تفــــاجئنا ما بين الإهداء و الوخزة بمجمــــوعة من العناوين المستفزة ووقــوفا على ما جاء بين الدفتين الداخليتين نقف على عالمين متشـــــابهين حد الاختلاف هما ( الإهداء ) والمقطوعة الأخيرة ( وخزة ) فالإهداء كـــان لأم العيال من خلال طرح فكرة الحمل والإنجاب قائلا:
الى من حملت بحشاها اول زرع وتجسد نبضا حقيقيا شاركتها فيه والوخزة كما أسماها الكاتب وهي كلمة مشتقة من الوخز أي الألم في تشبيه بين ألم المخاض/ الولادة وألم الإبداع ،
الألم الذي يتبعه فرح باستمرار الحياة / الوجود قائلا :
ولكنها – يقصد القصة القصيرة – تثبث وجودها وتسيطر وتتسيد وتضاء لهــــا المسارح… هو بالتأكيــــد الفرح الممزوج بالألم وهو التعدد سواء من خلال التوالد ( وتجسدا نبضا حقيقيا ) أو الإبداع ( تتبث وجودها وتسيطر وتتسيد ) وجهان لحقيقة واحدة،
هو الميلاد المتكرر وقد يكون الإشـــارة إلى ما قد تشكله التجربة الإبداعية ككل للكاتب .
تمتد قصص حسن علي البطران من شرعية الإهداء الى أم الأبناء إلى شرعية التعبير القصير جداً فتتلخص الحياة بحنينها وضوئها وألوانها وحتى إرهابها، حيث يرسم لنا عالما خاصا، حياة متكاملة بصفـــات معينة يحدد معالمهـــــا من خلال مجمــــوعة من العناوين بعيدا عن الأنا فيها القيادة الحمراء
و*بياض كله سواد * حتى البراءة فيها براءة حمراء وجهها مرآة * رعد بلا مطر *لون من طيف * نوع من سكر * هي في نهاية المطاف * أراض مقدسة لا تقبل السجود*
في مجمـــــوعة ناهدات ديسمبر نرصد من خلال العنـــــاوين العلاقة الدائمة بين العنوان والحبكة زيادة على كونــها ترسم خطا أفقيا للنصوص فهي تعزف تناغما يعبر عن السرد القصصــــي القصير جدا بشكله الاختزالي والتسلسلي ويعبر عن العالم الذي أسسه حسن علي البطران من خلال مجمـــــوعته حيث نجد المشاعر الإنسانية والتفــاعلات ( حنين ، تنهيدة ، جوع ، قلق ، نزاهة ،خيانة مبطنة..) ونجد المفارقــــات (نظرة فوق نظرة تحت ،واحد ناقص صفر، بعيدا عن الأنا ،غرس بعمائم مزيفة …) أما الألوان من خلال العنــــاوين فقد تم حصرها في ثلاثة ألوان :
الأحمر المتكـــرر أربع مرات والأبيض ثلاث مرات والأسود مرة واحدة وهي ألوان حية قد تشكل علم أي بلد عربي كتحديد للخريطة التي يحاول أن يقربنا منها الكاتب بتلميح مقصود دون تحديد لمكان بعينه . قيل قبلا إن الشعر ديوان العرب وقيــل عن الرواية أنها قد تتخذ نفس المنحــى فهل يا ترى يمكن ان تكون القصص القصيرة جدا كذلك ولو من باب ان كل أدب هو رصد لواقعه فلا احد يستطيع ان يجزم بالعكس وإن كان من الصعب إصــدار القطع بذلك لكن لو انطلقنا من مجموعة ناهدات ديسمبر سندرك أنه استطـــــــاع رصد كل مكونــات المجتمع بتحولاته ومن خلال رصد العلاقــــات الإنسانية بكل أبعادها سواء بالصور الظـــاهرة أو الخفية
فنجد المرأة المتعددة الحضـــور ونجد الرجل الراوي والفــــاعل في كل تمثــلات المجتمع ونجد السيـــاسي والإرهابي ، ونجد الصور المجتمعية بتعددها :البراءة والزيــــف ، الغيم ولا مطر والشجرة والثمــــــار و خيمة وفيس بــــوك وغيرها
إنها حياة متكــاملة بكل تناقضاتها وتقابلها ودهشتها . وعودة للنص المفــــارقة الذي شكل عنوانه عنوان المجمــوعة ككل وطبقا للفكرة التي تجزم أننا وإن كنا لا نكتب العمل الإبداعي بوعي إلا أن اختيــــار العنوان يكون بوعي .
حسب رأي القاص المخضرم حسن البقالي و من خلال مداخلة حول العنوان في العمل الإبداعي بملتقى القصة القصيرة بمدينة مشرع بلقصيري المغربية نكاد نجزم أن الاختيـــار لم يكن جزافــا خـاصة وأن نص ناهدات ديسمبر قد حوى كل تمثلات المجمــــوعة من خلال طــــرح المفـــــارقة ، التسلسل ، التفـــــاعل بيـن الشخصيات والاختزال المربك والمدهش في نفس الوقت . ناهدات ديسمبر المرأة /الأرض بقراءة بسيــطة لغلاف المجمـــــوعة حيث يمكن تلخيص عتباته في ثلاث نقط أساسية :
اللون الأحمر الداكن والمرأة والعزف، فاللون الأحمــــر الداكن هنا قد يشكل الأرض القابلة للزرع ( التيرس ) فأحسن تربة زراعية هي صــاحبة اللون الأحمر الداكن تماما كالمرأة التي أشير إليها في العنوان بـ نـــــاهدات وهو جمع مؤنث لناهدة وهي المرأة التي نهد ثديها أي ارتفع وبرز وهنا نلاحظ التناغم بين لون الغلاف / التربة وبروز النهد أي الأرض المستعدة للإخصاب لتأتي الآلــــة الموسيقية الكونترباص وهي آلة موسيقية كبيرة الحجم ترغم العازف عليها على الوقوف والإمساك بها بطريقة معينة يشبه الاحتضان /الرقص كدليل على رقصة الحياة التي قد تشكلها المرأة / الأرض ، العزف على وثيـــــرة الحيـــــاة من أجل إصدار صوت الموسيقى / الحياة . والتناغم التام يشمل النص المقــــــابل في ظهر الغلاف والذي عنون بـ ( فلسفة قماش ) والمستعار من مجموعة قصصية ما زالت تحت الطبع كناية على الاستمرارية في رصد رؤيته للمفارقات المجتمعية في تسلسل مغر بالتتبع . النص يقول :
ترك سريره خوفا من أنثى بجواره … أهدته أنثاه قطعة قماش .. ابتسم وعاد الى فراشه .. عكف في غرفته أياما لم ير إلا ضوء إنارة الغرفة . النص يتناغم بشكل مثير مع المجموعة التي رسمت تاء التأنيث بكل تفــــاعلها فكانت الأرض ( خيمة اجتماعية ، أراض مقدسة ، توحدت الأرض ، حرمان أرضها من الماء ) والشجرة ( تفاحا أخضر ، شجرة البرتقال ، اهتزت الشجرة … ) وكانت المرأة ( أصابعها ، شذاها ،يحن اليها ،قالت له ، سهرت معه ،اختفت الا من قلبه ، تقول لأبيها ، يقول لامه ، أظهرت نهدها …..) التمثل الذي اشتغل عليه القـــــاص حسن علي البطران هو أعمق من الصـــورة الظاهرة للعين المجردة فقد اشتغل الكـــــاتب على مصطلحات أعمق تخدم الحياة بصفة عامة حتى لتصبح الأرض هي السلطة والحياة والاستمرار وهذا ما يؤكده من خلال تكريــــــس الشجرة المثمرة لكن عندما نركز على المرأة نلاحظ أنه لم يتحرر من المشهد الثقافي السعودي والمجتمع المحــــافظ فكان المتكلم دوما عن الآخر ( الأنثى ) بصيغة الغائـــــب والتغيـــــيب هنا ربما يكون مقصودا من أجل أن يصور لنا نظرة المجتمع المشرقي للمرأة سواء كانت أم أو ابنة أو رفيقة وهذا قد يحيلنا الى مداخلة الدكتور السعودي عبد الله الغدامي وهو يطرح إشكالية طرح اسم المرأة بالنسبة للمجتمع السعودي من خلال مداخلة قدمها بلقاء أدبي بالطائف وعنونت بــ ماذا لوأن شنا لم يوافق طبقة طبقا للحكاية الشعبية الذي يروي لنا قصته من خلال تصوير المرأة وهي المتعلمة والدارسة على غير التفاسيـــــــــر التـــــي تعتبر المرأة مجرد جمال ظاهري
وبالتالي حتى اسمهــــا عورة والكـاتب هنا يسلط الضوء على هذه القضية من خلال تكرار ضميــر الغائب(ها) لكنه احتراما وتقديرا للمرأة الرفيقة لا يتوانى عن طرح اسم رفيقة دربه ( شيخة) والتي قدمها لنا كرمز للعطــــــاء وهي التي منحته قطعة قماش/ شكل نبضا حقيقيا كدليل على التعبير الصارخ على موقفه من المرأة / الأرض / الشجرة أي العطاء والاستمرار …
يعتبر القاص حسن علي البطران سفير السرد القصير جدا السعــــــودي الى كل الأقطار العربية من خلال حضوره في مجموعة من الملتقيات القصصية خارج وطنه وبالتالي استطاع تطوير تجربته القصصية بالتعرف على تجارب متعددة زيادة على كونه رغم تعدد مؤلفــــاته في السرد القصير جدا لا يستعجل النشر والدليل أن مجموعته هذه التي نحن بصددها والمتكونة من 121 نص قصصي قد كتبت على مدار ثلاث سنوات 2011/2012/2013 م مما جعل مجموعته ناهدات ديسمبر تشكل عصارة المختبرات السردية التي تعتمد بالإضافة الى كل ما قيل على درامية الحدث وتعدد النهايات وترسم قاعدة سردية متكاملة فالنص القصير جدا ليس في حقيقته نكتة وإنما بناء درامي متكامل وإن شكل للآن نقاشا بين الباحثين في انتماءه الشرعي للقصة القصيرة أو انفصاله عنها .
—-
ليلى مهيدرة أديبة من المغرب