في بقعة معزولة في ابي الخصيب ..قنطرة من جذوع النخيل ثبت عليها تراب تصلب على بارية من القصب .. يعبرها علاء رازي الى منزله وهو شاب قوي السمرة بدين .. يجذبك في وجهه انف منتفخ مثل كرة كبة وعينان جاحظتان وتعرق لا ينقطع ولهاث .. وله كرش يتهدل .. لا عائلة له .. وحيدا يجابه مطر الشدائد في بيت يتكون من غرفة طينية تقطر عليه كلما مطرت السماء .. وحمام من خصاص قصب وتواليت من الصفيح اسندت بعضها باسلاك وخيوط وتخرج الفضلات منه الى النهر عبر صفيحة كميزاب تنحدر..وهو كل ضحى جمعة يمضي الى سوق البصرة في الباص الخشبي مرتديا دشداشة رصاصية اللون ونعالا جلديا, حاملا كيسا ابيض صنع من اكياس الطحين النايلون …ويستلم النقد ويتسوق ويعود ..لكن الغموض يثير شهوة الدوائر الامنية ورجال الحزب الرفاق الاشد حرصا على الامن ..فقد اودع اسمه في سجلاتهم الاشد خطورة وتحته خط احمر واعطي الرقم 5698 م. خ ,وربما يفسر الرمز بانه مشتبه فيه خطير ..وربما يقصدون به شيئا اخر , الله اعلم ..لقد اغروه بكل الوسائل ورفض الانتماء للحزب .. السبب بسيط .. انه لا يرغب باي صداع ..لكن هذا العذر لا يقنع تلك الجهات وبدات القصة مع اول تقرير كتب عنه .. فقد كان جاره الرفيق ابو رسول قد فقد احدى عينيه بفعل حجر نزل من السماء وكانت زوجته لا تطاق .. فحول حقده الى الاخرين ورأى ان اخلاصه للحزب يعطيه قوة .. كان يعمل في دائرة الكهرباء ..ولا يتمكن هارب من الجيش ان ينجو من قبضته ولا احد يتخلف عن الالتحاق بالجيش الشعبي وهو حي بجواره حتى انه اخرج هاربا في مهمة تفتيش من بالوعة جافة .. وطالما تلقف هارب من احضان زوجته واقتاده بلباسه الداخلي .. كان شعاره (لا ينجو احد حتى ثعلب قريش )..فكتب ذات يوم تقريرا الى الحزب (علاء رازي شخص غامض وقد يكون جاسوسا او منضما لحزب عميل ).. تهمة قد تقطع الرأس ..لم يكن علاء يدري بما يجري ..كان مهتما بالحفر على الخشب والتخريم والاسمتاع لاغاني ناظم الغزالي والخشابة ..فرصدته العيون والاشباح .. يمر بلم كل ساعتين في النهر حيث شيد منزله فيما كان اخر يرقبه قرب موقف الباص.. ودربت حمامتا زاجل مزودتا بكامرا على المرور فوق منزلهم كل ثلاثة ايام ..وعلى تلة يتسمر رجلان اسودان مزودان بمنظور ليلي ..لكنهم لم يتمكنوا من اثبات شيء ضده .. فارسلوا اليه امراة باثواب المعدان .. عبرت القنطرة وطرقت وسألت علاء ان يشتري السمك فاقتنى منها كيلوين من اسماك البني ,فالتفتت اليه طالبة الماء فلما مضى تمكنت من التقاط ورقة دستها في صدرها وشربت الماء وعادت ..سلمتها الى رسول فقرأ (ه. م ــ شجب ,جنح.. علاء ).. وقد كتبت بخط متعثر على ورق دفتر مدرسي مخطط ..وسرعان ما تم نسخها وارسالها الى احدى عشرة جهة امنية .. لفك رموزها ..عندها فقط ادركت الجهات الامنية الخطر الحقيقي .. فهي رسالة مرمزة همشت بتوقيعه وباسمه الصريح ..مرت الورقة بتعرجات ووديان وتنقلت بين ظلال وسراديب خفية.. عبرت جسورا وعرصات وانهارا وظلمات.. وضعت على لوحة عرض بصورة مكبرة حتى ان احصائيا رصد خمسين نوعا من طبع الاصابع مر عليها ..حلل نوع الخط وجهة تصنيع الورق والعمر الافتراضي لتاريخ الكتابة ..واتوا بعالم لغوي وعصبوا عينيه وانزلوه عبر سلالم وحملوه على جمال ومر بمتاهات وفيافي .. حتى اجلسوه امام محمد الصقر في بغداد وهو رجل متحجر الوجه شديد التوتر يتكلم بصوت صارم مرتفع .. وضع نظارات سوداء على عينيه واتوا له بكأس عصير..وساله عن معنى كلمة< شجب> كان العالم مرعوبا لكنه اجاب :
ــ ( شَجَبَ الغُرَابُ شَجِيبٌ : نَعَقَ بِالبَيْنِ ، بِالفِرَاقِ
شَجَبَ الوَلَدَ : أحْزَنَهُ ، غَمَّهُ أوْ أَهْلَكَهُ
شَجَبَ الصَّيْدَ : رَمَاهُ بِسَهْمٍ فَأَصَابَهُ فَتَعَطَّلَ عَنِ الحَرَكَةِ
شَجَبَ مَوْقِفَهُ : اِسْتَنْكَرَهُ شَجَبَ العُدْوَانَ
شَجَبَ القِنِّينَةَ بِالشِّجابِ : سَدَّهَا ، أَحْكَمَ سَدَّهَا)..
سجل الصقر في دفتر جيب صغير(شَجَبَ القِنِّينَةَ بِالشِّجابِ : سَدَّهَا) وقال في نفسه :< ربما تعني قنبلة محلية الصنع > .. واحتار بمفردة جنح فهل هي بمعنى (الحيوانُ في سيره : مَال بِعُنُقِه إلى الأمامِ لشدَّة عَدْوِه واندفاعِه
جَنَحَ على الشيء : أقبَل عليه يَعْمَلُهُ بيدَيْه وقد حَنَى عليه صدْره
وجَنَح أن يأكل كذا : رَأى في أكْله جُناحاً
جَنَحَ الطائرَ وغيرَهُ ، جَنْحاً : ضَرَبَ جَنَاحَه أو جانِحَتَه .. او هي بمعنى جناح الطير اوهي الجريمة التي يُعاقِب عليها القانون ) بعدها انتشر مخبرون في الدرب الترابي المفضي لمنزل الرازي :بائعو حلوى وراكبو دراجات هوائية و مصلحو الطباخات المعطلة يجوبون حاملين سلكا علقت فيه قطع غيار.. جباة قوائم الكهرباء وانتشرت في قاع النهر سلاحف عملاقة تم تدريبها بعناية .. ووضعت مجسات الصوت في الكلاب التي زرعت في الزقاق ..ثم ارسلوا فتاة جميلة لتستطلع فطرقت واخبرته بانها علمت بقوة تخريمه وحفره على خشب الابنوس و الجوز و البلوط و خشب الحور.. وانها فنانة من كلية الفنون ولها تعاملات تجارية بالتحف واتت لتنشيء تعاونا بينهما ..
ولم يكن معمل القنابل المحلية التي ارسلوها لتستكشفه الا انية من فخار لتبريد الماء وضعت على مرفع ذي ثلاثة ارجل خشبية وغرفة طين تسرب المطر . فرشت بحصران مصنوعة من الخوص ومخدتان من ريش الطيور وفأرتان تتطاردان وقطة خاملة وقد نشرت على طبلة قطع خشبية متنوعة و مبارد وازاميل وادوات تخريم اخرى واداة مقاسات .. وقرآن ملفوف بقطعة خضراء وضعت داخله ريشة من جناح طاووس جوار كتب ادعية وكتاب <مفتاح الجنان > و<الصحيفة السجادية >..لا قنابل ولا هم يحزنون لا كتب لماركس ولينين ولا كتاب <فلسفتنا >.. شجيرة صفصاف وتينتان وسدرة واربع دجاجات وفراخ يعبثن في الحوش الترابي.. وصندوق توفير صغير .وما خلفه جده من مسحاة ومناجل وفروند وصورة للامام العباس واخرى لابيه في الاسود والابيض بعباءته وكوفية وعقال ..وآثار موقد وقدر كبير مسود كانت جدته تستخدمه لطبخ الثواب..
لقد مر عام منذ كتب تقرير عنه ولم يجدوا خيطا يقود لتنظيم ولا أي اثر يكشف شبكة سرية ..
ــ غدا نحتاجك تاتي الى مديرية الامن ..هناك استفسار لخمس دقائق وتعود..
قضى الرازي ليلة في غرفة منفردة بلا فراش .. كان يسمع الصراخ وصيحات الاستغاثة فلم ينم ..ومن فجوة اعلى الجدار علم ببزوغ الفجر فتيمم وصلى ..ونقلوه مقيدا في الصبح من محافظة الى محافظة في عجلة مظللة ..مغلولا وجائعا ..بعد يومين سأل الحرس فعلم انه في محافظة الرمادي ..لقد قطعوا به 652 كيلومتر..عاد بعد سنة لغرفة الطين ..لم يتوقع ان جهنما تقام في الارض ..وان القسوة لا حدود لها .. لم يتعرف على روحه فقد خربت ..ولا على جسده فقد شوهوه ..وحين نزل الى سوق البصرة في الباص الخشبي ..حاول ان يكبت افكاره وان يتخلى عن روحه .. فربما وضعوا في الباص مسجلات صوت او ان خلايا الخشب تتصل باسلاك خفية في غرف الرمادي الامنية او الى الصقر في بغداد ورأى في المارة مئات الرجال المخبرين ..لم تعد البرهانة العملاقة مجرد شجرة وعلامة على الوصول الى مهيجران لم تعد الطيور التي تندس فيها بريئة .. كل شيء يفوح بظل المخبرين .. تحولت احلامه لساعات وساحات رعب ..وفكر (من يقول ان زوجتي لا تكون مخبرة واطفالي القادمين ..)..كان جسده ثقيلا كأنه يحمل ثلاثة اكياس ملح 150 كيلو ..وحركة ابهامه ثقيلة لانهم علقوه طويلا في سلسلة ثبتت بمروحة السقف ..نزل قرب ثانوية العشار والتفت هامسا (لمن تدرسون ؟).. كان جسده يئن من كل مكان .. وعبر الجسر فاستقل مركبة الى سوق البصرة..وجلس في زاوية المقهى على تخت خشبي وضعت عليه حصيرة من البردي .. وتذكر وهو يدير الملعقة بقدح الشاي تلك اللحظة المزلزلة حين قدموا له ورقة مستنسخة وقد كتب فيها <(ه. م ــ شجب ,جنح.. علاء ).. وامروه بفك رموزها .. في عاصفة من الشتم والهراوات .. والاسلاك المكهربة والضحكات ..لقد عقدوا عورته بخيط وامروه بشرب كمية كبيرة من الماء وابقوه يتلوى لساعات ..طالما ايقظوه قبيل الفجر واجلسوه في طست مملوء بالماء في الشتاء .. وكهربوه ثم جلدوه حتى يفقد الوعي .. خمسة من الغلاظ يتعاونون عليه بعصا خشبية وصوندات وسياط وكتل اسمنتية ..علقوه على الشبابيك والاشجار..حجزوه في صناديق الكلاب البوليسية .. معصوبا غالبا .. خلعوا اظافره ..
مر قرب بيته المسيج باخصاص طفل في الرابع الابتدائي وكتب بقلم الرصاص ه.م ــ ثم كتب حرف الشين فتكونت اول مفردة مرمزة .. بعدها مر طير فكتب <جنح >وقصد بها جناحا الا انه تعود ان ينسى حرف الاليف .. جلس في ظل غرفة علاء الطينية .. محتميا بظلها من شرار الحر ..وحين تذكر ان معلمه حذرهم من الشخابيط في دفتر العلوم خلع الورقة من الدفتر وتركها للرياح التي ستودعها قرب الباب الصفيح في الداخل قبل يوم من وصول بنت المعدان وهي تنزل عباءتها من الاكتاف لتشد به وسطها فيما كانت القطط تموء بالقرب منها .
——
من مجموعة(مشاريع الرجل الضرير)