حين يرثي الشاعر كاظم اللايذ ، شخصا عزيزا مثل احمد جاسم، فهو يتقيأ دماً، ويبكي لظى، ويتقطع حسرة وتأوها. وكلما امعنت ُ في معرفة كاظم اللايذ ، اجدني غارقا في منجم عظمته ، مبهورا بمعادن لغته ، مأخوذا بسحر ملكته! فهو لا يستعير وصفا من لغة، او مفردة من قاموس .. كتلك التي الفناها ، في لغتنا العربية من طباق او جناس او تشبيه! كبستان في عالم الذر ، تتحسسه الارواح ، ولاتطله الاجسام.
هو شاعر يركز حَرفَه رمحا، في كبد الابداع، ويترك قابليتة الابداعية تتفجر لوحدها، بحورا من التفرد، مستنطقا الحرف، ومستدعيا المعنى !
ففي مرثيته (في استعادة احمد)، نجده وقد صام حولين كاملين، يلتقم الحزن فطورا، ويكرع الاسى والفجيعة شرابا! يشعل في قلبه حريقا من الشوق، محاولا استحضار الغائب البعيد، بالضغط على جسد الحرف، ومعاقبة اللفظ، بحد المعاني، القاطع الصقيل .
خصوصا وان الغائب كان لايفارق الشاعر ، طرفة يوم ، او لمحة عين !
_ سنتان
وانت هناك
ترقد خلف سياج الزمن
ملتحفا بأزار وحدتك المطلقة
مباراة محتدمة ، في موكب عزاء صامت اصم ، بين المفردة والمعنى . ففي الوقت الذي تحدد فيه المفردة ، شخصية َ صاحبها ، وملكته ، وتظهر اسرار كنهه . فأن المعنى يغوص في اغوار ، موضوع المرثية مستهدفا الغائب ، مستجليا حقيقته الحاضرة ، بلباس اليقين ، مثلما تفعل السمادير بفؤاد مُعنّى ، وروح ملتاعة .
_ في البرية التي نباتها العوسج
وظلالها الشواهد والحجر
وأديمها الرمل العطشان
وكلامها الصمت المطبق
ارتماس المعنى في وهج ماوراء الطبيعة ، يمس وترا لاشعوريا يجهله الواقع الملموس ، ويستقرؤه الخيال ، مرويا ومتواترا ، عبر اليات وتداعيات الموروثين ، الديني والعرفي.
فيصور الجانب الاخر للحياة ، بمنظار عالمه الحي واختزالاته ، المتجسدة في الاحياء والجمادات ومظاهرهما الدالة عليهما بالمنطق والدليل . فتضفي على الراحل ، حِلَةً من الاحتوائية الكونية للوجود ، وتسخيرها لعالم الفناء والعدم ، جاعلا منها تواصلا حيا نابضا بالجمال ، الذي طالما عشقه الراحل ، وعمل من اجل ديمومته وبقائه .
وحين يأخذك مد الشاعر ، الى حيث جزر السنين ، ونضوب المشاعر ، سيريك مخابئ ومضمومات جديدة ، لمفردات
نعرفها ، تم تطويعها في النص لتعطي شكلا اخر لمساحاتها ،
ومذاقا متغيرا ، مؤثرا في الزمان والمكان والحدث !
_ مثلما تحمل القطة ولائدها مغمضي العيون
من مكان الى اخر
………..
………
احدق في العدم
واخوط بملعقة الشاي وحدي
لكن حزني
لأنك لم تأخذ
من هذه الحياة ماتستحق
………
………
حزين لانك لم تترك لولائدك الثلاثة
مايقيهم صبارة القر
ولايدفع عنهم حمارة القيظ
حنانيك ابداعا سيدي ، يشق عنان الكلم ، ويغبط زهو الابجديات .
صبارة القر ،
حمارة القيظ
معان مكثِّفة سرقت بهجة الحرف ، وأطفأت نور الكلمات ،
وفجرت بركان الالم ، في جدث لما يزل ترابه المهال مبتلا بدمع الاحبة المودعين !
وها انت ، تزجي دمعك سخيا ، غاليا ، لتبل به خيال وجنات ، طالما اشبعتها تقبيلا بعينيك الملهوفتين !
ورشفت من اديمها الضواع ، مسك النبل والوفاء !
تبا لحياة سلبتك ، مَن كان لك الحياة ، حلوها والمر ،
ذلك الودود الوفي النقي ، الذي وصفته بأصدق كلمات ودك واخائك النبيل ..
_ بل خرجت منها منهكا مندحرا
_ كثير الكدمات
_ دامي الاضراس
……..
…… ..
ولكني حزين لاجلك
يا احمد !
ويستمر نزف كلماتك اخر نقاط مدادها الداكن الحزين ،
وتلفظ معانيك الجميلة اخر انفاسها ، لتودع ذرى عزيز
سنلتقيه حتما ذات يوم ، وسنبني امال صداقتنا من جديد
ولكن بهياكل عظمية
وبلا مشاعر ….