صدرت مجموعة ( خريطة (خارطة) أيوب) القصصية للقاص ضياء يوسف جندو(1) عام 2014، عن منشورات اتحاد الأدباء والكتاب في البصرة،وعلى حساب شركة آسيا سيل في البصرة التي دأبت على المساعدة في نشر نتاجات الأدباء البصريين ،وخلال ثمان سنوات من صدور المجموعة لم يشر إليها احد من الأدباء أو النقاد حتى بسطر واحد،بسبب عزوف القاص عن تجمعات الأدباء واقتصار وجوده مع مجموعة صغيرة منهم، وعزوفه أيضا عن الترويج لكتاباته القصصية،معتبرا إياها نماذج بسيطة إزاء ما اطلع عليه من قصص وروايات أجنبية بشكل خاص منذ شبابه ولغاية انطفاء حياته عام 2021،ومن خلال وجهة النظر هذه لم ينتج سوى عدد قليل من القصص التي ضمتها هذه المجموعة، مع مجموعة من الدفاتر المكتوبة بخط اليد – فقد كان جاهلا بالتقنيات الحديثة في الكتابة على الآلة الحاسبة -وهي على شكل محاولات لكتابة رواية كان يجمع أحداثها من قاع المدينة، وهو يراقب المتسولين والمهمشين على قارعة الطرق والأسواق ويتحرى حياتهم ويستمع لهم، مكتشفا عالما سريا في حياتهم يوجهه رجال أغنياء،يتعهدون لهؤلاء المتسولين توفير سكن لهم ومستلزمات الحياة المتقشفة لقاء تسليمهم ما يحصلون عليه من نقود نتيجة تسولهم طيلة اليوم!!! وكنت ألح عليه بانجاز روايته هذه فيعدني بذلك لكنه في اللحظات الأخيرة يعتذر بتعديل أو إضافة ينبغي له اعتمادها!
اشترك القاص بالمسابقة القصصية التي أقامها اتحاد الأدباء والكتاب في البصرة بعنوان(مسابقة جليل المياح الإبداعية عام 2009) بقصته ( خارطة أيوب) وفاز بالجائزة الثانية، بعد حجب الجائزة الأولى، ولما سالت احد النقاد الذين اشرفوا على تقييم هذه القصص،عن سبب حجب الجائزة الأولى التي كانت من نصيب القاص ضياء يوسف جندو، قال انه تصور أن قصة خارطة أيوب هي قصة للأطفال لان بطلها طفل!! تعجبت من عدم قدرته على التمييز بين قصص الكبار وقصص الأطفال!!وتعجبت أيضا من منطقه بان قصة الأطفال الجيدة لا تستحق الجائزة الأولى بل الثانية!!
تضم مجموعة ( خارطة أيوب 79 صفحة من القطع الصغير) عشر قصص قصيرة كتب القاص ثلاث قصص منها منتصف سبعينيات القرن العشرين، هي : خارطة أيوب، البحث عن منسي المختار،قضية العامل عنترا،وكتب القصص الأخرى بعد التغيير عام 2003 كما ورد في نهاية كل قصة.
فضاء عائم دون خارطة
يغلب على ثيم قصص هذه المجموعة،تناولها عالم المهمشين من العمال وجامعي القمامة والمتقاعدين ، والمصابين بأمراض الشيخوخة،ويستثمر القاص تقنية الفجوة التي تعنى بإحداث فراغات وقطع للأحداث عبر تقنيات الحذف،الترميز، وبالتضافر مع بنية المشهد، وأيضا المنتجة والوصف المقرب للشخصية أشيائه،واستثمار الحوار،بالتناوب مع عين الكاميرا وهي تضيء تفاصيل المشهد الوصفي،بتعمد قطع حركة السرد، والحوار،والتركيز على الوصف باعتباره دالا على علاقة الشخصية بعالمها،وهو ليس وصفا تزيينيا او ديكوريا بل وصف يحمل صفة رمزية، تتعلق بعالم الشخصية بشكل خاص، وصف متحرك ضمن المشهد الحواري أو السردي.
في قصة( خارطة أيوب) يبرز المشهد الوصفي عالم الجدة العجوز التي تملك بسطة حلويات على قارعة الطريق،تحوي على حلوى نائمة (بالورق الملون أو الحلوى العارية إلا من نثار الطحين الأبيض، وكان الذباب والبق يهاجم الحلوى العارية …ص5) والعجوز تحمي محتويات بسطتها ب( عصا قصيرة ذات نهايات ورقية مقصوصة على شكل شرائط، طردت الذباب بها ص5) ويبنى المشهد السردي في هذه القصة على تقنية إحداث فجوات في حكايات الطفل وحواراته مع جدته الطاعنة في السن،منها حكاية ( نورية المجنونة) التي تصفها الجدة بعبارة خبرية :( نورية المجنونة ثائرة اليوم ص6)وفي الصفحة 13 من القصة يخبرنا السارد العليم (انشق صراخ آت من ناحية الخرابة التي ترقد فيها نورية،تصرخ في الفراغ وتلطم وجهها …وحين تبدي الجدة تعاطفا مع نورية : وتسال من الذي احترق ..يجيبها شاب من أهل المنطقة : نورية المجنونة..من غيرها يحترق.وبهذا المعنى تأتي حكاية نورية دون تفصيل وكأنها لغز حكائي ليس له أسباب !!
وتأتي حكاية أم الطفل في ذاكرته محاطة بالألغاز والتقييمات اللاخلاقية، فهي في أعماق الطفل من الأشرار وتعيش مع الأبالسة كما وصفها جده. وهي في نظر أمها الجدة العجوز فتاة حنونة وقلبها مغرق بالحزن والشوق.
وهناك حكاية الغول الأبيض والقزم شلخمر التي رواها له جده وهذه الحكاية ترد أمامنا ممنتجة بالتناوب مع حكايات الجد التي يرويها للطفل في وقت فراغه وبعد الانتهاء من عمله في الفرن واحتسائه الخمر ،والجد هنا شخصية غائبة عن وقائع القصة،لكنه مجسد في ذاكرة الطفل،المحمل بالغاز الجد وحكاياته الخرافية، وهي تتجسد في ذاكرة الطفل ممنتجة وغامضة فالغول كما يراه الطفل (ابيض شعره من كثرة البحث والتنقيب لرسم سير سفن اللصوص والأشرار في الجزر البعيدة …ص8) ووظيفته حرق سفن الأشرار ،( وكل ذلك لأنه استطاع أن يرسم خارطة أيوب ص9) وخارطة أيوب خارطة غامضة في ذهن الطفل فهي من وجهة نظره (خارطة أيوب اكبر من هذا المكان …)( وأنها تشبه الدائرة، قال جدي أنها تشبه القمر بعد منتصف الليل .ص9)
أما أيوب فهو ( رجل غبي، وذلك لأنه لم يشرب من ماء البحر ص10)،ولا تربطه رابطة مع أيوب النبي على الرغم من أن الجدة تستنجد به على تجاوزات الصبي عليها قائلة ( يا صبر أيوب)
إن تقطيع الحكايات وأحداث فجوات كبيرة فيها، يهدف إلى حذف متعمد لأحداثها التي يتناص بعضها مع الموروث الحكائي العربي،وبعضها الآخر مع وقائع الحياة المعاصرة، لصالح تنشيط مشاركة القارئ بإكمال الفراغات التي تعمد الكاتب حذفها وأيضا لصالح إدامة وإظهار رمزية هذه الحكايات لتي تجسدها كلمات متفرقة تأتي على لسان الطفل بوصفها خلاصة دالة على انتظار الخلاص من الشرور(انه اله يكره الشر والأشرار يخرج من قنينة ويتحول من قزم إلى عملاق (….)فهو لطيف ويتألم حينما تتصلب قلوب البشر بالحقد والأنانية وعقولهم تتحول إلى حجر اسود بشع المنظر وتفوح منه رائحة النتانة…ص12 ويتزامن كلام الطفل هذا عن الغول والقزم شلخمر، مع حاضر السرد الذي يجسده السارد العليم بمشهد عام تظهر فيه عذابات نورية المجنونة نموذجا على عذابات غيرها ( بنايات البيوت المتلاصقة في هدوء وسكينة، في ظلال وفراغات منتشرة كما هي، ببطء شديد (…)في هذا الهدوء الذي لاح فيه السكون انشق صراخ آت من ناحية الخرابة التي ترقد فيه نورية، تصرخ في الفراغ وتلطم وجهها ص13)
إشكالية المنسي بوصفه دالا
وفي قصة ( البحث عن منسي المختار)يبلغ القطع المتعمد والحذف والمنتجة لإحداث فجوات كثيرة في القصة بعدا أعمق ،أدى إلى إشراك القارئ في إضفاء تأويلات متنوعة عند القراءة، وتظهر تقنية الفجوة منذ البداية،حين يعلن ساردها عن حكايته بجمل مفككة ومرتبكة: (ربما فعلت غير ذلك،لكن لسبب بسيط،فيما بعد حينها تحتم علي الحصول على ختم مختار المنطقة:وفي النهار ذاته، قرابة العصر،سالت من الجيران والمعارف والأصدقاء فلم اعرف شيئا ص18).
والحكاية التي تسردها الشخصية الرئيسة بضمير المتكلم، حكاية مألوفة في زمن السبعينيات،حين كان لكل قرية أو محلة مختار مسؤول عن التعريف بالمواطن الذي يسكن ضمن منطقته الجغرافية، من خلال ختم تمنحه الدولة له،يضمن للمواطن التعيين في دوائر الدولة أو انجاز أية معاملة أخرى.
تدخل الشخصية في متاهات بيوت المنطقة بحثا عن منسي المختار، ويلتقي خلال بحثه بشخوص القصة:بائعة الباقلاء التي تجيبه إجابة ملغزة لا تهديه إلى مبتغاه (منسي المختار موجود على الدوام،أو لا يفارق القلب، كثيرا من ذلك ص18 ليبقى السؤال أين نجده ؟ معلقا!!
فمعظم الأبواب التي طرقها السارد ومن معه من حاملي العرائض، كانت إجابات ساكنيها:(انه مات منذ زمن طويل..) او انه طرد منذ 1958 وحل محله سالم المختار صديق طبر البهلوان ص19).
إن ظهور أسماء وشخوص القصة أثناء حركة السرد ، يزيد الأمر ارتباكا وبلبلة ، فسالم المختار البديل لمنسي المختار ( سافر إلى الكويت قبل عام 1958 بسبعة أيام ولم نعد نراه..و…و.. ص20)في حين أجاب طبر البهلوان ( سالم لم يذهب إلى الحج )ولما صححوا له أن الاسم المقصود هو:منسي المختار( صديقك القديم يا بهلوان) أنكر البهلوان صداقة منسي المختار وطردهم من أمام بيته مستعرضا جسمه الرياضي بالرسوم الكثيرة التي نقشت عليه،وقد بقيت عالقة في ذاكرة السارد، يحركها في ذاكرته حركة تقطع السرد في عدة مواقع، بالوصف المتحرك للرسوم المنقوشة على جسم الرجل الضخم/ البهلوان، وهنا يؤشر السارد على نماذج من الشخوص تفخر بقوتها وتسلطها على الآخرين من خلال هذه القوة وتجسدها في هذه الرسوم الدالة على ذلك (الرجل ضخم الهيكل،تمرح على صدره وساعديه وساقيه مجموعة هائلة من الحيوانات والفتيات القزمات،أفعى زرقاء تصعد من نقرة البطن لتعلو حتى نقرة الرقبة، رأسها مثلث تهيم حواليها طيور غريبة، غاضبة الشكل، والى يسارها فوق الثدي، كلب صيد يطارد قطة متوتر الشرايين، أمامه مباشرة فار يعدو برغبة مثيرة ص21) ونلاحظ أن استثمار الأفعال المضارعة في الوصف،مثل تمرح،تصعد،تهيم،يعدو،)تضفي على الوصف حركة آنية تتواشج مع الحوار وحركة لشخوص.وحين يتصاعد الحوار حادا وغاضبا،بين الشخوص تشارك الرسوم على جسد البهلوان في حركتها وانفعالها في هذا الحوار المتشنج :(نط كلب الصيد فتعثرت القطة واختفى الفار تحت كف البهلوان ..ص21)
ويبدو لنا أن إشكالية الدلالة في هذه القصة،تتمحور في التاريخ المثبت على لسان شخوصها بالعام 1958 وما بعده وما قبله بسبعة أيام،دون توضيح العلاقة بينه وبين اختفاء منسي المختار أو طرده من المختارية ،او قتله، والتاريخ المذكور يحيل بشكل مباشر إلى ثورة 14 تموز، مما يستدعي تأويلات تتعلق بشخصية المختار وعلاقته بهذا التاريخ بالعلاقة مع كلمات (البحث عن منسي المختار) المثبتة في بداية عنوان القصة، وهي تفتح باب التأويل على ذلك التاريخ،(2)لقد حفزت الفجوة التي أحدثها القاص في حركة السرد، وفي الحوار، وفي تحجيم دور الشخوص في الإبانة عن آرائهم متضامنا مع الحذف والمنتجة ،إلى تنشيط دور القارئ في اقتراح سلسلة من التأويلات المتنوعة ،ما زالت القصة تحملها!!وهي تقنية توفرت في معظم قصص المجموعة، تأثرا بقراءات القاص للقصة الأجنبية بشكل خاص وإنصاته إلى تقنياتها التي توفر مسافة للتأمل والتأويل من خلال الحذف والمنتجة لإحداث فجوات تسهم في تنشيط دور القارئ .
ما يقوله المهمش عن ذاته الحزينة
في قصته ( النائم في الحقيبة) التي كتبها بتاريخ 17/12/ 2012 بوصفها عمله الأحدث في مجموعته ( خارطة أيوب) تتضح تلك التقنية بشكل جلي.فهي تكرس – كما ازعم – ثيمة جديدة في القصة العراقية القصيرة،وهي ثيمة لم يكتب عنها وفيها في القصة العراقية على وفق معلوماتي البسيطة في قراءة القصة العراقية القصيرة.هذه القصة تتناول التراث المسيحي المحلي في مدينة البصرة، على وفق تساؤلات عن جدوى الوجود، في فضاء شاك ومعاد له،وهي تختلف كثيرا عن موضوعة اغتراب المسيحيين في بلدهم العراق بعد التغيير عام 2003 كما صورته روايتا (يا مريم) لسنان أنطوان ورواية (طشاري) لإنعام كجه جي، فالاغتراب فيهما قد تولد من ظروف خارجية أساسها الاحتلال ودخول موجات الإرهاب إلى البلد،وقد بدت العلاقات بين هذه الشريحة ومحيطها علاقة طبيعية لا تشوبها شائبة. هنا في قصة ضياء جندو تبدو الإشكالية معقدة، إشكالية وجود مهدد بالاقتلاع، على وفق أحداث خيالية تسندها أخرى مشخصة في واقع مدينة البصرة تحديدا التي اتسمت طيلة تاريخها بالتسامح ومعايشة سلمية بين سكانها من مختلف الطوائف والأعراق والديانات!! إذن ماذا جرى وماذا حدث!!!
يعمد سارد القصة إلى كشف الإشكالية والتعليق على وجودها وسط جو ملبد ينذر بالمطر والعواصف (لم تهطل الأمطار في البصرة منذ فترة طويلة، اليوم أصبحت الغيوم تأتي مسرعة من أماكن بعيدة،الريح تظل ترقص هنا وهناك محدثة عويلا وصراخا ….ص38)(2)، ومن خلال هذا الجو الملبد تتضح ملامح شخوص القصة في مشاهد متنوعة، يظهر في المشهد الأول : رجل يمشي في شارع زلق ( يرتدي ملابس سوداء في عنقه ياقة بيضاء، ينتعل حذاء رياضيا، وراء ظهره حقيبة زرقاء منتفخة، مرسوم عليها كرة قدم بلون ابيض ص35).في المشهد الثاني يتعرض الرجل ذو الحقيبة إلى الضحك والسخرية من شخصيته من قبل تلاميذ ثلاثة يصيحون بصوت واحد (معتوه بالك عنا..هو مو منا ..) ثم يرشقونه بحصوات، ويستولون على الحقيبة وسط صياحه بصوت مبحوح (حقيبتي- الرب معي- هو عكازتي – حقيبتي ص36)في المشهد الثالث ( انبثق شبحان في بداية الشارع، كانا بدون معالم واضحة، رجل عملاق وامرأة ضخمة ص36)في المشاهد الثلاثة يكتمل ظهور شخصيات القصة: رجل نحيل بملابس سوداء في عنقه ياقة بيضاء، يعلن (الرب معي) ثم نتعرف عليه من ملابسه الدالة على وظيفته الدينية وعلى اسمه ( الشماس بولص).شبحان :عملاق وامرأة ضخمة، العملاق يحمل اسم صخر ولا يتفوه سوى بزعيق قوي ضد التلاميذ الذين تفرقوا والقوا الحقيبة صوب حائط واطئ لأحد البيوت،أما المرأة الضخمة فيعرًفها السارد بصوتها المزعج وهي تردد (لقد انتهى تاريخ النوم..النوم لقرون طويلة قذرة..هناك حيث الظلام البارد الموحش.. حان الوقت للخروج من هناك يا أبناء النور ص37
أما في المشاهد الباقية، فيتمحور الصراع بين الشماس والعملاق صخر على حيازة الحقيبة، التي يصرح الشماس بمحتواها للمرأة الضخمة قائلا : (يوجد – هو – على شكل كتاب..) فترد عليه بسخرية وتهكم ( هذه هي أوضاعكم إذن..كل ما لديكم كتاب ! ص38)وفي القصة صوت خارجي محصور بين قوسين يسجل تعريفا بكتاب الحقيبة بالاشتراك مع عين الشماس بولص (اعتقد أن سفر التكوين ليس المقصود..ربما في العهد الجديد..أو الرسائل لأنهم معا في كتاب واحد داخل الحقيبة، فهمت الآن ما المقصود،(راح بولص يستعرض هذا في ذهنه ص42).
إن قراءة هذه القصة على وفق أحداثها المختصرة،وإكمال فجواتها التي تدعو قارئها بتفعيل دوره وانجاز التأويل المناسب لأحداثها!!سيكرس تأويلا خاصا عن عالم مجموعة من الناس، كان لها وجود فعلي في المدينة بدلائل رمزية تمثلها أماكن العبادة ( الكنائس) المنتشرة في مدينة البصرة، على وفق طوائف هذه المجموعة من الناس: الأرمن ، الكاثوليك، الارثذوكس، السريان وغيرهم. وكان وجودهم طبيعيا مع فئات وتجمعات أخرى في المدينة، وكان ذلك وضعا طبيعيا قبل التغيير،لكن ذلك لم يدم طويلا فقد جلب التغيير معه بواعث وحوافز للفرز والتشخيص والنبذ والإقصاء، لمجموعات بشرية تحمل اعتقادات وأفكار متنوعة، وقد تعرضت إلى الأذى النفسي والجسدي مما جعل أفرادها يهاجرون على الرغم من نيتهم في البقاء في وطنهم.وتكشف ذاكرة الشبكة العنكبوتية، مظاهر العنف والقتل المتعمد والتفجيرات التي طالت معظم المدن العراقية عام 2012 العام التي أنجزت فيه كتابة القصة، وكان المسيحيون من ضمن الناس الذين طالهم التهميش والإقصاء والاعتداء( لاحظ دلالة صياح التلاميذ وتشهيرهم ومهاجمتهم لشخصية الشماس بطرس وهم يعرفونه جيدا)،والاهم من كل ذلك أن القاص قد خبر هذا التهميش وعاش فصوله،فهو من الطائفة نفسها،غير أن سمار بشرته واقتراب ملامحه من ملامح سكان المدينة قد جنبه الأذى هو وعائلته، لكنه عاش الدراما العنيفة التي طالت قومه بشكل خاص.وتتضح وجهة نظره في هذه القصة، من مجموعة منصات ومشاهد وحوارات مقتضبة، دالة على ذلك، منها: مهاجمة التلاميذ لشخصية الشماس وسط جو ملبد بالعواصف والمطر وصفه القاص( لم تهطل الأمطار في البصرة منذ فترة طويلة ص38)وهي إشارة إلى التغيير العاصف، ثم يحدد المنطقة التي يخرج منها الشماس بطرس (في الشارع المؤدي إلى السيف) وهي إشارة إلى المنطقة التي توجد فيها الكنيسة ( أكثر من كنيسة)،ولا نريد أن نبسط رموز القصة ودلالات الأشياء والشخوص التي وردت فيها مثل الحقيبة وما تحويه من كتاب، وظهور الشبحين وتلفظ المرأة الشبح بعبارات تشي بالدعوة إلى التغيير ( ربما الحث على الهجرة)ثم فشل مسعاها الذي جسدته عبارة توصيف مصير الشبحين ( كأنهما تمثالان من الطين الرخو،الذي بدا يذوب شيئا فشيئا تحت تساقط المطر،حيث غرق الشارع ، مشى ببطء ثم استدار نحوهما ليتأكد أنهما لا يتبعانه، لكنه لم يجد لهما أثرا ص43).لقد تناولت ثلاث قصص ،من قصص هذه المجموعة، لتسليط ضوء على قدرة وإمكانية هذا القاص المنسي،ونجاحه على إدامة حضور منجزه القصصي منذ سبعينيات القرن العشرين، باستثماره تقنيات القصة الحديثة وتوظيفها بنجاح في معظم قصص المجموعة، التي تناولت شرائح مهمشة ومسحوقة في فضاء التغيير الصاعق لها ولنفوسها التواقة للعيش بسلام وامن.ومن أهداف قراءتي لمجموعة ( خارطة أيوب) حث النقاد على قراءتها وتأمل ثيمها وأشكالها.
——
(1)- ولد القاص ضياء يوسف جندو في البصرة عام 1948،ولم يكمل دراسته الابتدائية،بسبب حالة الفقر التي كانت تحيط بعائلته، وانخرط مبكرا في سوق العمل الخشن،اذ عمل عاملا بسيطا ثم أصبح سائق معدات ثقيلة في شركة النفط في البصرة،وقبل التقاعد بعدة سنوات،انتقل إلى أعمال كتابية في إدارة العمال، الذين عايشهم طيلة فترة حياته العملية!!في شركة نفط الجنوب..وقد كتب قصصا عن أحوالهم ضمنها في مجموعته الوحيدة ( خارطة أيوب).
(2) ما اعنيه هنا يتعلق بحدث حقيقي يخص تأويل هذه القصة من قبل شخصية مثقفة كانت تشغل مكانة مرموقة في الثقافة العراقية انجازا وترجمة ونشاطا سياسيا هو الراحل مصطفى عبود ( أبو النور) الذي قرأ القصة قراءة خاصة على وفق الحادثة التالية :أرسل القاص ضياء يوسف جندو قصته هذه إلى جريدة الفكر الجديد التي صدرت في سبعينيات القرن العشرين وهي المعروفة بقربها من الحزب الشيوعي العراقي،وفي ذلك الوقت كنت في بغداد، وقررت وقتها زيارة الجريدة في شارع السعدون بغية الالتقاء ببعض الأصدقاء العاملين فيها،وحين دخلت بناية الجريدة التقيت بالراحل مصطفى عبود الذي كانت تربطني به علاقة معرفة منذ أن كان في البصرة،وكان من ضمن المعارف الذين نحترمهم ونجلهم لثقافته الموسوعية المتميزة،إذ كان الراحل مثقفا يكتب القصة القصيرة ويترجم الروايات والكتب الثقافية المتميزة منها ترجمته لإحدى روايات همنغواي التي نشرها في مجلة الأديب العراقي، وكتاب ( تحت أعواد المشانق) إضافة إلى ترجمات لاليوت وفوكنر وجويس وغيرهم .
قال لي ونحن خارج بناية الجريدة: هل تعرف قاصا اسمه ضياء يوسف جندو؟ قلت له نعم هو صديقي…قال : ضياء أرسل للجريدة قصة بعنوان ( البحث عن منسي المختار) وهي قصة تسبب لنا حرجا إذا نشرت في الجريدة . قلت كيف ؟ قال أنها ترمز إلى شخصية عبد الكريم قاسم والبحث عنه، ونحن مقبلون على إقامة الجبهة الوطنية مع حزب البعث، وهذا الأمر يسبب لنا إحراجا قل له أن يرسل لنا قصة أخرى وسوف ننشرها.. قلت له : لا اعتقد أن ضياء يفكر بمثل هذا المعنى!! لكن مصطفى كان مقتنعا بذلك،من خلال تأويله لشخصية منسي التي رفع رتبتها إلى ( دال) يحتاج إلى مدلول بالعلاقة مع الرقم 1958 المذكور في القصة ، وأيضا مع مجموعة من الأحداث المقتضبة التي تشي بهذا التأويل،احترمت رأيه فلم أكن قد اطلعت على تلك القصة، وعندما عدت إلى البصرة أخبرت ضياء بذلك فعمد إلى إرسالها إلى مجلة الطليعة الأدبية التي نشرتها في احد أعدادها اذ قرأها مشرفو المجلة قراءة أخرى مختلفة بل مناقضة للقراءة الأولى – كما أظن – وقاموا بنشرها في احد أعدادها دون تردد!!