هناك أماكن تترك في الذاكرة رائحة تظل منبعثة،والمكان هنا يخرج من كونه حيزا هندسيا الى مايشكل فضاءات ابعد، ليصبح قصة وطعماً وذكرى..ومن ثم أثراً.والمكتبة هذا الكون الضاج بأرواح وانفاس وتجارب ثرة لكتاب وأدباء ومفكرين وفلاسفة،كلهم يجتمعون في لحظة خشوع على أرفف المكتبة بانتظارمن يقتني ذلك الكتاب،ويبتاع تلك المجلة،او يشتري هذه الجريدة ” الصحيفة” مطلعاً على أخبار العالم.
والمكتبة العصرية في مدينة العمارة أسست بتاريخ 5.10.1929،ومؤسسها المرحوم” عبد الرحيم الرحماني” فرعاً عن المكتبة العصرية الرئيس في بغداد،والتي تأسست عام عام 1914 من قبل “محمود حلمي”، ثم آلت أدارتها في بغداد الى “صادق القاموسي”.
وتعد المكتبة العصرية في ميسان ومنذ تأسيسها وحتى الآن المكتبة الأم، وهي الأقدم في محافظات الجنوب،توازيها في القدم المكتبة الأهلية التي تأسست في البصرة.وأستمرت المكتبة العصرية بأدارة ” عبد الرحيم الرحماني” وبمعية ” حيدر حسين” كعامل في المكتبة وبائع للصحف أنذاك، لحين استقرارالرحماني في بغداد عام 1964، حيث آلت ادارة المكتبة الى السيد “حيدر حسين”.
التقينا بالكتبي ” سعد حيدر حسين” ودار بيننا هذا الحديث،والذي تحدث فيه لمجلتنا الشبكة العراقية، بدلا عن أبيه الحاج “حيدر حسين” الذي يمربوضع صحي يمنعه من التواجد في المكتبة. حيث قال : (( هناك مكتبات عاصرت المكتبة العصرية،وتركزت في سوق العمارة تحديدا،شارع التربية الآن والذي كان يسمى سابقا” شارع المعارف”،فهناك مكتبة ” النجاح” لصاحبها الشيخ ميرزا الإنصاري والتي افتتحت عام 1941م، ومكتبة ” الغد” للأخوين ” شاكر وإبراهيم الهاشمي”،ومكتبة ” الأهالي” للسيد قاسم جاسم،وكتبة ” الزبيدي” للسيد غالب الزبيدي،وكذلك مكتبة بغداد…لكن هذه المكتبات لم تصمد لظروف عديدة وأولها تحولات السوق نحو استيراد القرطاسية وقلة الإقبال على اقتناء الكتب وشرائها.
ــ كانت ملحقة بالمكتبة العصرية ” مطبعة صغيرة” وهي مطبعة حجرية قديمة سميت في وقتها ب” المطبعة الرحمانية” لذا كانت اليافطة الرئيسة للمكتبة تقرأ (( المكتبة العصرية والمكتبة الرحمانية”، ثم قل عمل المطبعة لكونها من طراز قديم يعتمد صف الحروف الرصاص،ورصفها باليد،وبحجم ” 12,14″ لطبعها.وكانت تنتج طباعيا ” كارتات الأعراس” و”وصولات تجارية” للمحلات المجاورة،و ” أكياس ورقية”..
وظلت المكتبة العصرية صامدة كل هذي العقود من السنوات لربما لموقعها الجغرافي في رأس السوق الكبير،وأعتياد روادها على شراء الصحف والدوريات والإصدارات التي تباعا اليها. وبسبب مركزها الستراتيجي وحضورها النوعي في اشاعة حب الثقافة وتوافر الكتاب والمجلة والجريدة فيها على الدوام، تم منحها أجازة استيراد للكتب والمطبوعات العربية، أسوة بالمكتبات العريقة ذات الحضورفي بغداد، وكانت الدفعة الأولى من استيراد المطبوعات من دور النشر العربية،هي مجموعة نادرة من القرآن الكريم والقواميس عربي/ انكليزي،وذلك لسهولة وصولها للمكتبة وعدم تعطيلها لإخذ الموافقات من دائرة الرقابة العامة آنذاك.
وسئل ذات يوم الكتبي ” حيدر حسين ابو سعد” والحديث لولده ” سعد” :
ماهي مواصفات الكتبي ، فأجاب: (( الكتبي مثل الصيدلاني، فالصيدلية فيها جميع الأدوية،وهي تجمع المتناقضات،هناك أدوية ” منحفات” وأدوية ” مسمنات” ،وهناك ادوية ” مسهلة” وهناك ” قابضة”..المكتبة تعرض وتبيع هذا الكم من الكتب بمختلف توجهاته وعلى الكتبي ان لايعكس توجهاته السياسية والثقافية،وان يقف بمسافة واحدة من الجميع.وهذا ما اعتاد عليه كتبيو المكتبات الرصينة في بغداد ” شارع السعدون وسوق المتنبي”…مع الأتفاق على صنع ثقافة تحتفي بالأنسان والأبتعاد عن ترويج الكتب الهدامة التي تسبب اضرارا للمجتمع.
لذا كانت المكتبة العصرية فترة الستينيات والسبعينيات عبارة عن حوار افكار، فهنا الماركسي والقومي والعروبي والأسلامي كلهم في حوار ودي.وجدير بالذكرلابد أن نؤكد بأن عمل المكتبة لازال مستمرا حتى الآن ، وبأدارة المعلم المتقاعد ” شريف عبد الحسين ابو حسنين ” الذي كان رفيقا للحاج ” ابو سعد”.
يقول الصحفي ” جلال ساجت” عن المكتبة العصرية: ” كان عملي منتصف السبعينيات في الدار الوطنية للنشر والتوزيع،وكان عملها توزيع الصحف والمجلات والإصدارات الجديدة من الكتب على المكتبات في ميسان. وكنا نعطي حصة الأسد من المطبوعات الى المكتبة العصرية، وصاحبها ” ابو سعد” مثلا تصلنا 3000جريدة ،حصة ابو سعد تكون 2000جريدة،وهكذا بالنسبة للكتب والمجلات.وشكل الحاج” ابو سعد” نموذجاً نادراً في تفانيه في عمله ” كتبي” وتمتعه بعلاقات واسعة وطيبة من جميع الشرائح من اهالي ميسان، وتعامله النبيل مع الزبائن،ومن النوادرالتي شهدتها وعايشتها، ان الحاج ” ابو سعد” كان ” يضوج” من المجلات الرياضية ..!! وذلك لأزدحام الرياضين والمهتمين بشؤون الرياضة وتزاحمهم عند المكتبة)).
والمكتبة العصرية ومنذ تأسيسها عام 1929 وحتى الآن هي محج الأدباء والصحفيين والمحامين،بل وحتى ابناء ميسان المغتربون لابد ان يمروا بها ويلقون التحية على الحاج ” ابو سعد” بدءً من الشاعرالكبير” محمد مهدي الجواهري” عندما كان معلما للدراسة الأبتدائية في المناطق الريفية لقضاء علي الغربي وتواجده الدائم للتزود بالجديد من الكتب الأدبية ودواوين الشعروالروايات.وكذلك المخرج والفنان الراحل ” د.فاضل خليل”،وكذلك ” د.فاضل السوداني” استاذ المسرح،والروائي ” عبد الرزاق المطلبي” والعديد من الأسماء المرموقة والحاضرة في في عالم الأدب والصحافة.