الأولى
ـــــــــ
يا من يصدّق خبرة بحقّ الله(1).. وتأمّل الرجل السماء الزرقاء البعيدة. وأحنى ظهره: يا مفني الخلق.. يا خالق الخلق .. يا هادم الأمم.. أنا أموت جوعا.. أمّا من خبزة واحدة تطفئ وجعي في هذه الريح الملعونة.!!,
يأتي الصوت راجفا حنونا منكسرا، منطويا، متدثّرا بوحدته.. يغصّ وجه الغريب بنغمة حزينة.. ينحني على عصاه مقوّس الظهر.. يميل برأسه إلى الأمام، ثم يكرر نداءه: يا من يصدّق خبزة بحقّ الله.
يمدّ يده للسيل الزاحف من البشر المتسكعين الذين يملأون أرصفة المدينة، في طريقهم إلى الحانة المركزيّة، التي افتتحها مولانا الباشا في احتفالات المملكة السعيدة، تيمنا بالذكرى الخامسة والعشرين لتربّعه على عرش أجداده الميامين. يشيح الناس بوجوههم عنه.. يهرب الخبز مسرعا، يصبح خلبا، يتدحرج بعيدا.. تلتقطه القطط السياميّة من الأيدي الكريمة البيضاء المخضّبة بعطور هوليود، والكحل العربي الأصيل، الذي شكّله أمهر عطاري المملكة السعيدة.
يمدّ الغريب يده.. يهرب الخبز، فيطفح وجهه مسحة هادئة كئيبة، ترسل أشعتها لتخترق الشارع الرئيس، ثم تعود نافذة إلى أعماق شرايينه.
يرتجف الوجه والأصابع.. تضيق حدقتا العين.. يرتجف العكّاز ثمّ ينوح على وقع الدفوف والطّارات، ودقّ الأكواب والكؤوس .. ( تشيرز أيها الزمن الجميل).. ( أفك فوتر سونتي) أيتها المملكة السعيدة.. بصحتك يا سيدتي الأميرة.. بصحة عشاقك وجواريك، والسادة المنبطحين على خفي نعليك البهيين. هات الطاس والكأس أيها الساقي.. لن أصحو بعد الآن.. فما أجمل أن يبقى الفرد مهزوما وسكرانا دائما، و يصفّق للباشا كلّما اتّخذ خليلة و كلبا وسيارة من تكساس الساحرة!. أليست تكساس هي الأصل والحضارة، والحبيبة والصاحبة بولد وبغير ولد، والأفق الشاسع المفتوح صوب ( مادونا) و( مارلين مونرو) و( بروك شيلدز)؟
ترتفع الكؤوس .. تهبط.. تتشامخ صدور النساء متلألئة عبقة.. وقع رنينها يغطي أرض الشارع ، وسماءه، وزواياه.
يقترب الغريب، لكنّ الخبزة تمتطي ظهر جواد، رُوِّض ليدخل في مسابقات فروسية كأس العرش، وملكات جمال المدينة، وصاحبات شركاتها، وعاهراتها المدمنات. يفلت لجام الحصان، وكالسهم ينطلق نحو قصر( الصخيرات)، حيث الجواري و الخليلات يستحممن بجوز الهند، وعطور( لاس فيغاس).
ترتدّ يد الغريب بيضاء فارغة.. مسحة الحزن تزداد انكسارا.. لا أحد الليلة مستعد لأن يتصدّق.. أين أصحاب الخير؟؟.. أين خبزة المحسنين؟ تطير.. تصبح شعاعا ثمّ تختفي.. ينطوي الغريب مسكونا بوجعه.. يعلو صخب المدينة.. تغصّ الحانة المركزيّة .. يتوارى الناس عنه.. يسند رأسه على عكازه.. تختلج عيناه راعفتين، ثمّ يصمت متأملا الناس.. مستسلما لشعور غامض يملؤه وحشة صامتة.. يشرق وجهه بالدمع، ثمّ يتّجه قاطعا أزقة( ألكزا) العتيقة صوب شاطئ البحر، وهو يستغيث ( يامن يتصدّق خبزة بحقّ الله).. يفترش صخور البحر، يخرج نايه ، يسرح بعيدا في فيافي مملكته. وكثيرا كثيرا ، يعود حلمه، وفيرا وسرورا، بريقا، تاجا، خيرا ، مدنا وأنهارا، وبلدانا وشطوطا، ودجلة والفرات والنيل، ويهدم المدن مدينة مدينة: إرم ذات العماد ، و واق الواق, وسبتة ومليلية، ويكسر منابر جامعاتها، صرفا ونحوا، وافرنقع واحرنجم، ووزارات ومؤسسات بليدة، متخمة بالهلاك الشاسع، والقذى،و رياح الخماسين من بغداد إلى شيراز إلى البصرة، حتى دمشق والكوفة، والإسكندرية، مرورا بمكة والمدينة والخرطوم.
ــــــــــــ
الثانية
ـــــــــ
على طاولة البار، انسدل شعر أسود فوق كتفين عريضين.. هزّت المرأة جسدها، فزاد انحسار الثوب. لمع فخذ أسمر، و تماوج كالنيزك.. حملقت عيون السكارى منبهرة .. تماوجت حركة الفخذ مع الموسيقى الصاخبة، فارتعش الزغب الأنثوي مبتهجا ثملا. تقدّم أحد السكارى.. أحاط خصر المرأة بذراعيه.. تبادلا الأنخاب.. دسّ يده .. ارتعش الزغب النامي، واستسلمت المرأة لذراعيه.
ـــ شربت كثيرا يا مدام.. هل فقدت أحدا؟
ــ أبي.. أمي.. زوجي.. ولدي .. أخي.. مدينتي . لا أعتقد أن لي أحدا آخر حتى أفقده.
ــــ أنت أميرة.. أنا خادمك الوفي.. سأكون لك الرمش والحاجب.. سننام الليلة معا.. ما رأيك؟
ـــ أريد ألف درهم عدّا ونقدا، وثوبا فاخرا من محلاّت ( سي العلمي) الأمريكية العالمية .
فتّش الرجل جيوبه.. جيب قميص خاوية تماما.. ثمّة قطع ورقية أخرى متناثرة مبعثرة في جيوبه الأخرى. أخرجها.. عدّها ثلاث مرّات، وقال بأسى: بشرفي وبأولادي الخمسة الغائبين، وبتربة شيخ طريقتنا، لا أملك سنتيما واحدا إلا هذه.
حملقت المرأة في الدراهم المفرودة على طاولة البار.. ثلاث مائة وخمسون درهما فقط.
ــــ يبدو أنك رجل طيب ورقيق، وابن حلال، أقدّر فقرك الأسود.. موافقة .. هيّا نخرج.
نهضا.. غادرا النادي.
في الخارج، بدت شوارع المدينة خاوية قاتمة إلاّ من بعض المتشردين و السكارى. قطعا أزقّة ضيقة، واتّجها صوب (باب الملاّح) الشعبي على الطرف الأخر من المدينة، حيث يرقد البحر هادئا وديعا تحت سماء بهيّة شاسعة