يُقال إن واحدة من استراتيجيات الكتابة الروائية لدى نجيب محفوظ، أنه كان يخصّص ملفاً مستقلاً لكلّ شخصية من شخصيات الرواية التي يحضّر لكتابتها، يملأه بسيرة حياة الشخصية سواء أكانت رئيسة ام فرعية. وما يلفت النظر في رواية (نور خضر خان) لجابر خليفة جابر (دار خطوط وظلال، ٢٠٢٢) أن المؤلف جابر خليفة عملَ بشكل أو بآخر باستراتيجية محفوظ التحضيرية هذه، خاصة إذا تذكرنا أن رواية جابر تتبع نظام التشجير العائلي الذي كتبَ محفوظ به (الثلاثية) و(الحرافيش). إلا أن هذا النظام التسلسلي في روايات محفوظ يفرق كثيراً عن نظام التشجير في رواية (نور خضر خان)، إذ أنه نظام غير تسلسلي، بل هو نظام متداخل الأنساب، أو بالأحرى متراكم الطبقات، قريب من المخطوطات التطريسية، ذات الحواشي المحيطة بالمتن الرئيس للرواية.
لقد أتاح نظام التطريس سردَ تاريخ أربع أُسَر، واستخراج نسختين مستقبليتين من المتن الرئيس الخاص بالحكاية المتعلقة بالسبيّة آنوش، الجدّة الكبرى لأسرة توما سركيسيان. النسخة الاولى بقلم نور خضر خان بتاريخ ٢٠٢٤، والثانية كتبها زوجها الأرمني خاجيك جميل بيكر بتاريخ ٢٠٤٩، وقد استعان الاثنان بالروائي جابر خليفة لتحويل مخطوطتيهما إلى شكل روائي هو الأخير. استعان جابر خليفة بالدليل العائلي المفترض الذي وضعه خاجيك بيكر، لكنه أنشأ روايته على أساس مخطّط خيالي مطابق لدليل خاجيك بيكر كي يتابع التناسل الكبير لأسماء الأسَر الأربع المتفرعة من أصل واحد، ويوثّق حياتها بما استند اليه من وثائق تاريخية، إضافة إلى إعادة تأسيسه للأمكنة الأصلية (الدار الكبرى للأسَر المعروفة بدار زمان في منطقة نظران بالبصرة وما حولها) ثم ساح بروايته داخل شبكة من الرحلات والسَّفريات والانتقالات القسرية والطوعية للشخصيات إلى مناطق الخليج العربي ومدن خاضعة للإمبراطورية العثمانية كمدينة أورفه التركية ويريفان الأرمينية إضافة إلى مدن أوربية مثل برشلونة البرتغالية ولندن البريطانية. ولا أعتقد أن قراءة الرواية ممكنة ما لم يستعن قارئها بهذا المخطَّط الذي تقترحه الرواية، قبل القراءة وفي أثنائها (ونحن نعرف أن روايات عربية وعالمية سلكت مثل هذه الطريقة، كرواية _سارتورس_ لفوكنر، ورواية_ ترمي بشرر_ لعبده خال، اللتين اعتمدتا في بنائهما على مخطّط تعريفي بالشخصيات).
هكذا، فإنّ الاجراء المناسب لقراءة رواية متعدّدة المداخل، لا بدَّ يبدأ من خاتمتها، أي من دليلها التاريخي الملحق، وتطبيقه على المخطَّط التطريسيّ الخاص بكل قارئ يستلّ لنفسه خيطاً من عقدة الخيوط الدالة على البداية والنهاية. والحقيقة فإنّ رواية مثل (نور خضر خان) تقترح أكثر من بداية لسرد حوادثها، وأكثر من نهاية لاختتام قصصها الفرعية الكثيرة. ولعل الروائي جابر (الخبير بتخطيط متاهاتٍ افتراضية في أعماله، واقتراح نظمٍ تطريسية كتلك التي استعملها في روايته السابقة: مخيّم المواركة) عمدَ إلى تمديد خيوط الأجل المحتوم لأبطال الرواية المتفرّعين من البؤرة المكانية التي انطلقت منها خيوط السفر (دار زمان_ بيت الأجداد والأحفاد، ومقبرتهم معاً في المكان نفسه). إنها لعبة استساغ جابر خليفة تنويع قواعدها السردية، اعتماداً على متاهة التاريخ الدائرية التي تنسخ فيها الشخصيات أدوارَها الحكائية، وتتبادل أصواتَها الحوارية، ويتطرّس بعضها فوق بعض، وتشتقّ هويةٌ من هوية نسبَها ودينَها وعِرقَها (حكاية زواج كارين الأرمني من الزنجية زعفران مثلاً).
أخيراً سيستفزّنا عنوان الرواية المركّب (نور_ خضر _خان) للبحث عن أنسال متشابهة الأسماء، تبدأ بآنوش الكبرى، المولودة في أورفه العام ١٨٨٢ المتوفاة العام ١٩٥٧، وانتهاء بآنوش الصغرى ذات الاسم المستعار (نور خضر خان) المتوفاة في العام الافتراضي 2046.
وبقدر ما للعنوان المركّب من سِحر خاص على القارئ، فإن توليفه الاستفزازي يتمثّل في القصد المضمَر في الملفوفة/ الطبقة العقائدية للرواية، وعلى القارئ أن يكتشف الخيط الرفيع الضائع في بنية المكان والوثيقة والمجتمع العائلي المشتبِك الأنساب. فوراء ما نظنّه لعبةً افتراضية متقنة للمواقع التاريخية والرحلات التجارية والأسماء المتناسلة (كما هو الحال في الرواية السابقة: مخيّم المواركة) مقاصدُ بعيدة كامنة في علاقات الحبّ والبغضاء، العمل والتجارة والسفر. وهنا في هذه الرواية، فإن الانتقالات/ التطريسات الكثيرة لا تؤدي إلا لمفرق خطير واحد/ طبقة متصدعة غائبة، عنوانهما الآخر هو: التسامح الديني والتعايش الاجتماعي لمدينة عراقية_ كالبصرة_ زاخرة بالتنوعات العائلية والأنساب العرقية المتشابكة، منذ تمصيرها حتى دخولها تحت حكم العثمانيين، ثم تجاوزها الزمني إلى سنوات قادمة تنتهي بالعام الافتراضي 2049.
لقد امتدّ الزمن في الرواية، لكي يستطيع قارئها إحصاء القبور الرمزية المستكنّة في دار زمان التي أضحت مقبرة باسم (مزار لك) وبينها القبر الرمزي للروائي جابر خليفة جابر المساهم في إعداد نسخة ثالثة من مخطوطة الجدّة آنوش، فاستحقّ بذلك النسبَ الروائيّ لعائلة آنوش، ومصاحبة الأحفاد المتبقّين من العائلة في حياتهم ومماتهم.
كانت نسخة جابر خليفة لمسةً معاصرة لماضٍ ساحر بحكاياته وظلال شجرته العائلية. ولم يكن الوصول إلى الشجرة الأرمينية الأصل هذا، من دون التفافاتٍ بنائية، وتهجيناتٍ هوويّة لأصول العائلة التي تعرّضت للاستباحة والقتل على يد الجند العثمانيين، ولورثتها من المسلمين والمسيحيين الذين قرضتهم حروب القرن العشرين. ولعل هذا الالتفاف البنائي والتهجين الوراثي أقوى ما يستشفهما القارئ من نظام التطريس العائلي، المسوِّغ الأقوى لوصول الرواية إلينا بهذا الشكل المحيّر، الذي احتاج لدليل من الروائي الأخير، كي يحلّ طلاسم المتاهة الكبيرة.
—
*نور خضر خان- رواية للروائي جابر خليفة جابر – دار خطوط وظلال، ٢٠٢٢.