اذا افترضنا مسبقا ان الحذف والإثبات هما تقنيتان تلازمان أي عمل ابداعي، ولا سيما الشعر الذي نحن بصدد تناوله هنا، فحسب اعتقادي لا يجوز بأي حال من الأحوال للشاعر طرح كل ما يريد قوله في مجموعة شعرية واحدة، مرد ذلك إلى تعذر سعة المساحة المتاحة، اذن فهو يختار من الأحداث ويقتطع منها ما يتفق مع التفصيلات التي يريد توصيلها.
واننا اذا ما تمعنا في مجموعة الشاعر نصير الشيخ (شجر من محنةالوقت)..نرى ان مفردة الوقت طاغية ومهيمنة، بدأً من العنوان الذي هو المفتاح الاول للنتاج الشعري، مرورا بمتن القصائد، نرى ان الوقت الذي يوظف وفق رؤيا فنية يتداخل فيها الواقع مع الخيال، يقتطعه الشاعر من زمن الوطن الواقع تحت نير الحروب والحصارات وحكم الطغاة، فالشاعر الذي يقلب دفاتره بما تحوي من احداث وشخوص ليطرحها امام القارئ ،يؤثث لزمن الحرب حضوره الفعلي في اغلب القصائد…
/انام باغطية الحرب قصيدة (طاعن في الرخام) /نثرت بقاياه عند الحدود شظايا الحروب الكسيرة (قصيدة (صنوبر بهي) /ان لي وطنا يقطر حربا منذ اول رمح قصيدة( حروف الملاك)/ تعلق مجدك فوق دخان الحروب قصيدة ( رمال) /هكذا انت لا تاريخ يمجد حروبك قصيدة (خرائب العاشقة)/ للمقابر وهي تمد وسادة رمالها لتغفو عليها ضمادات الحرب.. قصيدة (خريف مؤجل).
ان هذا الزخم الذي أعطى مرتعا خصبا لتفعيل حركة الزمن يستمر منهمرا شاغلا مساحة كبيرة من المجموعة البالغ عدد صفحاتها (98) اذا ما حاولنا ملاحقة العبارات الموظفة في الخطاب الشعري والمفردات التي ترسم افق الزمن وفق المسارات التي اتخذها الشاعر في الاعتماد على صورة الوطن مباشرة وترميزا ،فاننا سنقتطع من المجموعة هنا الكثير من الابيات كي نستدل بها عليه:
(استظل الساعة بسقائف الندم / في الصباح الكسول/تتكدس عندي الليالي/ قصيدة (طاعن في الرخام) يدخن الماضي باصابع مرة/يعيد تكرار السؤال/ عن الوقت/ جيش النمل الذي التهم ممالكه /يفترش رخو ايامه/ صديقا للمقابر اضحى/يملا ءالنهاربانفاس احلامه المائزة/ يشطب التقويم ، ويقيم ذكراه الحزينة / يكسر الزمن المندلق من ساعات غرفته / فيسيل بطيئا / على وسائده الداكنة/ وجدته الفرااشات ذات صباح / تشرب من دمه الازهار قصيدة (صنوبر بهي)..
قصيدة( حروف الملاك)/ تسجية الصباح على الانهر الغريبة /ليلي المتخثر بالشعر والدمع والاغنيات/قصيدة (\تكايا الوجد)/الصباحات جعلتها تسبح في حمدك /اجبك الساعة عن نفسك /قصيدة (جنرال) تحت رماد القنابر / ايامه البائدة تستعد / وتلقي عليه / رماد التحية ..قصيدة (غصن اس) /بدموع لامعة / تطرز ايامها الغائمة / وبصبر مرير تحوك عمرا افل /صباحا تمسح غرة الفجر / كي يتدثر اباؤها بافياء احلامهم / وحين يهبط المساء / في محاق العمر / عند تلول بقايا السنين قصيدة (ذكرى ابدية) /الايام معتقة تقعى على رفوف حجرتك الرطبة..قصيدة (اقاصي) /الذين اندلعت من صباحاهم اساطير / وغفت مساءاتهم على كوانين شتاء / يستضيفون ليل سمر طويل / يوقدون فجر فحولتهم /يلمع صيف بشفير مناجلهم / يقطعون سرة الوقت. قصيدة ( رمال) /كامير مخلوع / تقشر صمته السنواتُ/ وايامه تمضغها الادعية / لبعيد بعيد / تسحبه الخلوات / لا قبية الزمن الخائرة / كامير مخلوع / تقشرك السنوات / وتضمك الغيمة الهاطلة).
تأسيسا لما سبق نرى مدى مواطن التلاقي بين الحروب والموت، وصلاتها الكثيرة في كل ما يحدث في الوطن من ماسي، وما لهذه الصلات من تأثير أو تأثر على الذات الشاعرة ، فحتما حينما تكون الحرب هي الفاعل الاساسي على الارضية المطروحة، يكون المكان والزمان مرتعا خصبا لمشاهد نطل منها على الموت والقتل والدمار، وعلى اثر هذه يتشكل هذا الوقت بطيئا و مثقلا بالاوجاع والهموم، والشاعر نصير الشيخ الذي يسعى الى طرح رؤيتة هذه يركز جهده على طرحها بشتى الطرق، مباشرة من جهة، ومن جهة اخرى بصورة ضمنية، من خلال اسقاط ابعادها على القيم والمضامين والمدلولات من خلال المفردات والمكونات التي تعد مرجعيات يستمد منها الشاعر مادته التي تلتحم داخل النص الشعري، التلاحم الذي يفضي إلى وحدة عضوية، تتجه نحو ثيمة زمن الوطن الذي نتلمس صداه في كل ركن وهذا ما تؤكدها جل الصور التي طرحها الشاعر والذي من اجل جلاء جوانبها والكشف عن مصادرها لا يتوانى الى نسب فعل الحروب إلى الطغاة الذين فجروها :
(مفتتحاً بالوهم
سور الخراب..
من طين يدي
منهمرا في النشيج
ومنكسرا في الغواية )
قصيدة(طاعن في الرخام).
(يحتسي كاسا من الوهم
يندلق الموت من شفتيه
يغازل ارنبة البندقية
باردة كالهزيمة..
ممالكه وامجاده الساخرة
جزمته،
صولجان الفتوح باحراش امعائنا
والتلال البعيدة
محض مقابر .
قصيدة(جنرال)
كامير مخلوع
تقشرك السنوات
وتقضمك الغيمة الهاطلة
قصيدة (رمال).
لمكاتب البريد الملغمة بالذكريات المرة
وبرقيات التعازي
للراحلين وانا اعزيهم باخر دمعة سقطت
من نشيدي
فوراريتها الثرى في جنائز ايامهم
قصيدة (خريف مؤجل)
وما يلاحظ انه وفق الرؤى الخاصة للشاعر الذي جعل للذات الشاعرة قدرة الاستماع وقدرة على التبصر/ تبصر الخارج من الداخل/ الشاعر الذي عايش زمنا موجعا كنتائج لوطن عاش تجربة الحروب كانت قصائده شديدة الثراء بالعناصر التي ترفده بالصور، التي كانت عين الشاعر تتحرك اشبه بالة التصوير التي تسجل ما تراه جديرا بالتصوير، لقد كانت الكاميرا تصور سلسلة من الأحداث والشخصيات التي ثبتتها الذاكرة والتصقت بها، اذ ان ما بين الحقيقة والخيال اجتهد الشاعر في أن يستفيد من فنون مختلفة غير الشعر، فهو اقتبس واستفاد من مزايا تقنيات التصوير، فالشاعر الذي كان يبغى ترسيخ الذكريات ويصونها من التلاشي حاول استثمار عناصر الكاميرا لتصوير اللحظات والزمن الذي يضم الاهل والناس المحيطين الاب، الام، القرويون …
(اليك يا ابي/ ايها الذاهب في نزهة للابدية /تفترش الرمال الساخنة /تقرا سورة الحب/ وتنام مليا/ على حدقات الارق).. قصيدة(صنوبر بهي) .
كل هذه تشكل عناصر تكوينية داخل زمن هذا الوطن التي جعلت من دور الشاعر يتداخل ويتمراى في النص الشعري و الذي استطاع من خلالها تشكيل ذاته داخل فعل الكتابة أي بعبارة اخرى الاحداث والشخوص التي تنعكس بدورها على ذاتية (الذات الشاعرة )وهذا ما تؤكدها اغلب الصور التي تطرحها المجموعة على اختلاف تنوعها ..فمن يتأمل القصيدتين، قصيدة (حروف الملاك) /هكذا تشير اصابعك قطع الحلوى/لصورة باسمة على الجدار المتهدل و قصيدة /(محنة الوقت) (لزنبقة ايعنت جرحتها الشظايا /باصابعتيبست من فرط غربتها/ وقلب لا يسعه حزن الكربلاءات/ علقت صورته / على حائط متهدل ) يدرك صدق هذا الانعكاس الذي يجمع بين القصدتين اللتين تكونان خليط من الصور المتشابهة في الخارج والمتناقضة من الداخل فليس من قبيل المصادفة ان تكون كلا الصورتين معلقتان على حائط متهدل مما يكون هذا ترسيخا وكشفا للمتلقي عن مدى الالم والمعاناة الذي تعاني منهما الذات الشاعرة الامر الذي يؤدي الى اتساع الرؤية والاسهام في توصيل الصورة التي يريد الشاعر تصويرها والتي لايمكن تجاهلها خصوصا ان علامات حضورها راجع الى تكرارها في كلا القصيدتين وان هذا المزج بين الصورتين يحقق للنص الشعري القدرة على تاكيد الدلالات المشحونة فيه كما يدل ان الرؤية لم تكن مسلطة على ما في داخل الصورة فقط وانما على خارجها ايضا.صحيح ان اهمية ما يجري هو ما يكون بداخل الصورة ولكن العلاقة ما بين الصورة والحائط (المعلقة فوقه )ليست بعيدة انما قريبة بدرجة ما يتيح الانتقال اليسير بين ما في داخل الصورة وما في خارجها ، كما أن إضافة الى الصورة من خارجها، استطاع ان يشحذ عناصر التعبير فيها اضافة الى بثها من الثنائيات الضدية لاسيما ما تنطوي عليها قصيدة (حروف الملاك) التي تجمع ما بين داخل/ باسم وخارج /متهدل …والتي تشترك بالثنائيات الضدية مع الصورة التي تحملها قصيدة (صنوبر بهي) (كل ورقة / صورة محنطة بوسامتها/ لشهاب خر ذات يوم /في حومة الدجى).
واخيرا لا بد من الاشارة ،انه رغم ما تحمله مجموعة الشاعر نصير الشيخ من الوجع والألم والحزن، فانه لا ينفي أبداان القارئ يستطيع ان يلمس فيها بصيص من الامل والصبر يتمثل بالبيت التالي من قصيدة (حروف الملاك) (ساشتري شمسك /بانطفاء قناديلي على سياج بيتنا /واعمر قامتك /بانحناء عكاز احلامي /على شجر /لا يموت).
—
* كاتبة ومترجمة- بغداد
شجرمن محنة الوقت/شعر/نصير الشيخ- دار الينابيع/دمشق/سوريا- 2010ط1