1- العنونة الفنية
تعرف العنونة الفنية بأنها العنونة التي لا تقدم دلالتها مباشرة أو على نحو واضح وصريح إلى المتلقي بل تعتمد على الإيحاء بالمعنى عبر صياغته الفنية المبتكرة أو دخوله في علاقات تناصية مع نصوص أو عنوانات أخرى، أو عن طريق الجمع بين الاثنين معا ، أي بين السمتين المجازية والتناصية. فـلم يعد العنوان بريئاً بل شرع يمنح قارئة قاعدة للتأويل بعد أن كان يضع بين يديه المعنى جاهزاً. إنه يعمل على خلق استجابة القارئ نحوه كما يفعل نصه الكبير. بالقارئ عبر التأثير فيه وإيقاعه في فخه. ووفق هذا المعنى ينفتح العنوان الفني على جملة من الاحتمالات فهو ذو دلالات ( وعلامات إيحائية شديدة التنوع والثـــراء، مثله مثل النص، بل هو نص موازٍ… وإذا كان النص نظاماً دلالياً وليس معاني مبلغة، فإن العنوان كذلك نظام دلالي رامز له بنيته السطحية ومستواه العميق مثل النص تماماً) من حيث أهميته الدلالية والجمالية والتأثيرية.
والعنوان الفني يمكن أن يمتلك بذلك القدرة على الترميز والإشارة بدلاً من التصريح والإحالة المباشرة فـ( الجذر اللغوي للفظة- العنوان – يشير إلى إفادته معنى الأثر والتلميح والإشارة. وهناك من جعله ضمن حديثه عن فن التلميح. وفي هذا ما يوضح الارتباط الوثيق بين العنوان, الإشارة والفن الذي لا يراد منه التعبير المباشر للمعنى المراد، وإنما يراد منه التلويح لذلك المعنى في صياغة فنية تتصل بالإبداع وتبتعد عن المباشرة في طريقة نقل المعنى إلى القارئ) فيبقى المعنى مستتراً وراء العنوان وطبقاته المجازية أو التناصية.
إن اختيار العنوان الفني للأعمال الأدبية الإبداعية كالشعر والقصص مثلاً أمر بديهي جداً، فهو ينسجم مع طبيعة بنيتها الجمالية، إلا أن الأمر قد يبدو مثيراً للقارئ إذا ما وجد مثل هذه العنوانات على أغلفة الكتب النقدية التي هي اقرب إلى العلم والفكر منها إلى الفن، ومع ذلك نرى أنه ليس من حقنا أن نحظر على الناقد اختيار ما يراه مناسباً لما في وجدانه من مشاعر وأحاسيس، وصياغته في عبارة هي إلى الفن اقرب منها إلى الموضوعية، ما دام يمتلك الإحساس الفني والموهبة التي ترفده بمثل هذا العطاء، وإلا فإنه ليس من المعقول أن يكون هذا العنوان عبثاً أو لعباً ليس وراءه أي مغزى أو معنى يسوغ أو يفسر صياغته الفنية، لأننا نظن أن الإحساس الفني الذي يمتلكه الكاتب وعمق تجربته مع الموضوع وشغفه به عوامل أملت عليه مثل هذا العنوان، أو على الأقل جعلته يختار عنواناً فيه من الفن أكثر مما فيه من الموضوعية، حتى لو كان ملتقطاً من صلب الدراسة نفسها ، أو بعيداً عنها من مراجع نصية أخرى يتناص معها، فـ( من الإشارات التي يحملها العنوان أيضا وتكون موضع إنصات القارئ.. لإنتاج الدلالة الأدبية: تناص العنوان، الذي يحيل إلى عنوانات لنصوص سابقة أو معاصرة أو يحيل إلى مقاطع من نصوص تتموضع في الطبقات الكتابية للنص الجديد). وتمثل العلاقات التناصية أحد المكونات الأساسية لأدبية النص أو فنيـــته، فهي تؤدي وظيفتين الأولى جمالية والأخرى معرفية. مما يجعل النص المعارض لنص سابق عليه نصاً مزدوج القيمة. فاللغة التي تستعملها العنونة الفنية هي لغة أدبية، ومن ثم لا يمكن النظر إليها بوصفها لغة تواصل مباشر إخباري، بل لغة ذات وظيفة إغرائية دلالية تجذب المتلقي للبحث عما وراء تركيبها الفني من دلالات خفية منفتحة على احتمالات تأويلية كثيرة.
ولو طبقنا هذا الشيء على اعمال الدكتور عبد الكريم راضي جعفر لوجدنا الكثير من هذه العناوين الفنية التي يستخدمها كوسيلة اغراء لجذب القارئ وسأعرض بعض هذه النماذج :
ففي كتابه الذي بعنوان بــــ ( زهرة البرتقال ) فهذا العنوان لا يقدم دلالة واضحة ومباشرة للكتاب وما يحتويه بل استخدمه من الناحية الفنية اذ اراد الشاعر عبد الكريم راضي جعفر التلميح والاشارة الى معنى اخر . وهذا العنوان فيه شيء من الفن اكثر من الموضوعية .
اما في جانب القصائد الشعرية فقد استخدم الدكتور عبد الكريم راضي جعفر العديد من العناوين الفنية فيها وسأعرض بعض الامثلة :
في قصيدة بعنوان ( تقاسيم على زند مستوحش فلسطيني )
الليلة
قالت النجمة لصاحبتها :
من هنا مر حامل المسك
مر متعبا
مر كالضحى
مر وامحى .
اذ اعتمد الشاعر في هذا العنوان الى الايحاء بالمعنى ولم يشير بصورة مباشرة ولم يذكر كلمة فلسطين في القصيدة على الاطلاق بل استخدمها فنياً . فبقى المعنى مستتر وراء العنوان واستخدمها الشاعر بلغة اغرائية تجذب المتلقي للبحث عما وراء تركيبها الفني من دلالات خفية منفتحة على احتمالات تأويلية كثيرة.
وقصيدة اخرى بعنوان ( ورقة عيد أولى )
مترعون بالندى حين تنسال في
اطباقنا شهقة الضحى , ورف عيد نبي سعيد
انا من ايام الحناء والرطب الجني
ومن لبن الجنة .
لم يكن العنوان دال في مضمون القصيدة فالعنوان ايضا اغرائياً ذا دلالة فنية لم يكن للعنوان وجود في متن القصيدة اطلاقا والقارئ للقصيدة لا يراها تتناسب مع العنوان .
وعنوان قصيدة اخر هو ( إزدهار )
مثقلة بالصلاة
ومترعة بالصوم
والنافلة
انت
يا من ترقبين
فقد وظف الشاعر للعنوان عبارة فنية وهي ( ازدهار ) ليكسب القصيدة لمسة اغرائية وفنية تجذب المتلقي وتعطي للقصيدة رونقاً جميلاً على الرغم من عدم وجود شيء في القصيدة يدعو للازدهار ومن القصائد الاخرى التي كانت عناوينها فنية هي ( اغنية في شهر سبايكر ) و ( قل للعراق الفتى الوسيم ) و ( يقول المغني ) و ( بصرة العين والملح ) و ( للوسيم العراق ) .
2- العنونة التناصية
يعد التناص من المصطلحات النقدية الشائكة التي دار حولها جدل كبير ، وكذلك حول البذور الأولى التي نشأ منها ، حتى استقرت ملامحه الأولى عند الناقدة الفرنسية ( جوليا كرستيفا ) التي عرفته على أنه ( ترحال للنصوص وتداخل نصي ، ففي فضاء معين تتقاطع وتتنافى ملفوظات عديدة مقتطعة من نصوص أخرى )
ولقد تعددت المعاني اللغویة لمفردة التناص ، وتشعبت طرقه نظرا لما تتحلى به هذه المفردة من دلالات وإشارات شتى إلا إن الدكتور ذكر لنا في احدى كتبه ان اصحاب المعاجم ذكروا لنا معنيين لمفردة ( تناص ) احدهما حسي والاخر معنوي اما الحسي منهما فقد اقتصر على اربع معان هي ( التحريك , الرفع , الاظهار , الازدحام ) اما الاخر منهما وهو المعنوي فقد اقتصر على اربع معان ايضا هي ( التعيين , الاستقصاء , المناقشة , والانتهاء والغاية , والرفع والاسناد.
وترد کلمة التناص في لسان العرب بمعني الاتصال يقال هذه الفلاة تناص أرض کذا وتواصيها أي يتصل بها . وتفيد الانقباض والإزدحام کما يورد صاحب تاج العروس ( انتص الرجل) انقبض وتناصي القوم ( ازدحموا) وهذا المعني الأخير يقترب من المفهوم التناص بصيغته الحديثة فتداخل النصوص قريب جداً من ازدحامها في نص ما في الواقع في هذا المفهوم نلاحظ إحتواء مادة( التناص) علي ( المفاعلة) بين الطرف وأطراف آخر تقابله يتقاطع معها ويتمايز او تتمايز هي في بعض الأحيان.
كما أن التناص يضاعف القيمة الفنية للعنوان ويمنحه فرصة للانفتاح على دلالات جديدة متعددة ، لأن النص فضلا عن نظامه اللغوي والإشاري ينفتح بفضل منتجه ( القارئ) على فضاءات خارج نصية تحيل إلى معان عدة وتستقطب فوق هذا شبكة معقدة من النصوص التي سكنت في نص المبـدع وذاكـرة القارئ ، ففي ظل التفاعل التناصي تغدو للعنوان قابلية مذهلة على الانزلاق من معنى إلى آخر، وبناء على ذلك تعمل آلية التناص في العمق من اشتغالات العنوان ، لكونها شرطا لإقامة النصية ، أو لأن النصية لا تفي بوعودها إلا عن طريق التناص حيث أولى إرهاصات السديم الدلالي الذي لا ينجلي من اللحظة الأولى بل بعد الفحص الدقيق في أصل العنوان وارتباطاته المعنوية ، والسؤال عن أية نصوص تداخل معها ؛ لأن العنوان بوصفه نصا ذا حجم مميز عندما يرتبط بالنصوص الأخرى وعبر ترابطاته اللغوية يحقق لنفسه كتابة مغايرة حتما عن النصوص الأخرى فيدمجها في أصله ويضغطها بين ثنايا ألفاظه بطريقة قد لا تراها العين المجردة .
فالعنوان المتناص عند الدكتور عبد الكريم راضي جعفر هو عنوان واضح وبارز ؛ لأن دلالته تصل إلينا مباشرة بسبب طابعه الحقيقي الواضح ، يمكن فهم ايحاءاته بسهولة لأنه غير مراوغ و يطابق نصوصه تماما ولا يحتاج إلى تأويل وحفر في طبقاته قصد قراءة تلويحاته الدلالية ، وفهم تلميحاته البلاغية .
لذلك سأعرض العناوين المتناصة في شعر الدكتور عبد الكريم راضي جعفر فأبدأ في كتابة ( يقول المغني ) وأول العناوين هي قصيدة بعنوان ( الزلزلة ) فهو تناص قرأني من سورة ( الزلزلة ) بقوله تعالى : (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا ) . سورة الزلزلة الاية 1 – 2 اذ يورد الشاعر نص السورة كاملا في القصيدة من دون ان يتلاعب بالفكرة او بالألفاظ : اذ يقول
سيد النور و ( لكن ) فيكون
قلت لي : اذا زلزلت الارض زلزالها
واخرجت الارض اثقالها ….
قلت لي
لهم القارعة
وقصيدة اخرى بعنوان ( حجر من سجيل )
وطن ابيض
يتنفس صبحا وشذا
من زيتون الارض
وطني حجر من سجيل
يرجم اصحاب الفيل
فالتناص القرآني واضح من سورة ( الفيل ) ولكن مما يلاحظ في القصيدة ان الشاعر لم يستخدم نص السورة كاملا بل استخدم الفكرة والمعنى لا الالفاظ نفسها عكس ما رأيناه في المثال السابق الذي استخدم فيه الالفاظ نفسها كما هي في السورة .
وعنوان اخر ايضا بـــ ( الفاتحة ) اذ يقول فيها :
قبل ان تقرأ الفاتحة
يعزفون ( النشيد )
موطني .. موطني
الشاعر هنا اخذ فقط اسم السورة ( الفاتحة ) ووضعها في عنوان هذه القصيدة ولم يأخذ لفظة اخرى من السورة دلالة على الفتح والافتتاح بالنشيد الوطني كالفاتحة لانها ام الكتاب واول من يفتتح بها الكتاب الكريم فهم يعرفون النشيد قبل ان يقروا الفاتحة في بداية الامر .
وعناوين اخرى ورد فيها التناص ايضا مثل ( ( حكاية نوح العراقي ) متناص مع قصة نبي الله نوح ( عليه وعلنا نبينا افضل الصلاة واتم التسليم ) وعنوان اخر بـــــ ( المئذنة ) متناص من قصة الصحابي بلال الحبشي عندما كان يأذن من مئذنة المسجد في زمن الرسول محمد ( صلى الله عليه واله وسلم ) وكذلك القصيدة التي بعنوان ( نزوح عبلة ) متناصة مع معلقة عنترة بن شداد وقصته مع معشوقة عبلة في قوله :
هل غادر الشعراء من متردم ******* أم هل عرفت الدار بعد توهم
يا دار عبلة بالجواء تكلمي ******* و عمي صباحاً دار عبلة و اسلمي
وعناوين اخرى ايضا في كتابه ( زهرة البرتقال ) مثل ( زهراء ) فيها تناص مع قصة السيدة الزهراء( عليها السلام ) ام ابيها ) وعنوان اخر بـــ ( قل للمليحة ) تناص مع الاغنية القديمة ( قل للمليحة ) التي غناها الكثير من الفنانين امثال ( ناظم الغزالي ) و ( صباح فخري ) للشاعر ربيعة بن عمر التميمي المعروف بمسكين الدارمي التي مطلعها :
قُلْ للمَليحَةِ في الخِمارِ الأسودِ **** ماذا فَعَلتِ بِزاهِدٍ مُتَعبِّدِ
قَد كان شَمَّرَ للصـــلاةِ إزارَهُ **** حَتى قَعَدتِ لَه بِبابِ المَسجدِ
رُدِّي عَلَيهِ صَلاتَهُ وصـــيامَهُ **** لا تَقتُليهِ بِحَـــقِّ دِيــنِ مُحَــمَّدِ
وكذلك قصيدة اخرى بعنوان ( مطر ) المتناصة مع قصيدة الشاعر بدر شاكر السياب ( انشودة المطر ) ( كتبها الشاعر عبد الكريم راضي جعفر بمناسبة الذكرى الثالثة على وفاة الشاعر بدر شاكر السياب ) كذلك قصيدة بعنوان ( ليل البنفسج او إخوة يوسف ) متناصة مع قصة نبي الله يوسف علية السلام واخوته .