بعد صلاة العشاء جمع أحميدة عربته وصفى حساباته مع عبد الله واتفقا على كمية السلعة التي سيحجزها له غدا. حمل حقيبة صغيرة من البلاستيك، وضعت له فاطمة فيها طعام الغذاء . ملأها ببعض الخضر التي اقتناها للبيت في منتصف النهار. أمعاؤه لا تتحمل طعاما لا يعرف من طبخه؟ وكم بقي من الوقت؟ يفضل أن يبقى صائما على أن يتناول طعام السوق. أخبرته فاطمة مرة بأن أشهر المطاعم في المدينة القديمة، تقدم طعاما للسياح الأجانب تقتنيه أحيانا من ساحة جامع الفنا دون علمهم. يحب الطعام الذي تطبخه زوجته. ويعتقد بأنه على بساطته من أجود الأطعمة في العالم، فهي تنوع وتبدع في صنع الوجبات بأقل كلفة ممكنة. يرى أن زوجته ـ رغم ما يعانيانه من فقرـ امرأة عندما يكون مزاجها رائقا قد لا تشبه بقية النساء. فكر في ذلك، وهو يشعر بالجوع، وبدأ يتخيل نوع الطعام الذي سيجده في البيت. سيفتح الباب، وتطبع قبلة على خده الأيسر، وتأخذ الحقيبة من يده، وتطلب من سعيد أن يتركه يذهب إلى الحمام ليغتسل، ويرتاح قبل أن يجلس في حضنه، ويأخذ منه الهاتف ليلعب به. تضع الطعام فوق المائدة، وتجلس بجواره تطلب منه أن يأكل، وتحكي له كيف قضت يومها، وتشكو من شغب سعيد.
وهو في الطريق عاد نفس السؤال الذي يهرب منه، يَطِنُّ في رأسه ويوجعه كل يوم:
ـ إلى متى ستستمر في العمل كبائع متجول، تظل واقفا في الشمس؟ هذا العمل يخضع لمزاج رجال السلطة ومن فوقهم. في بعض الأحيان تتعرض العربة والسلعة لخطر الحجز، ويتوقف العمل يوما أو يومين. لحسن الحظ أن الرمان إذا بات لا يفسد. عبد الله أقسم بأنه مجرد وسيط في العشرين درهما التي يأخذها فوق ثمن السلعة، ويقدمها رشوة لمن يهمه الأمر، ومستعد للتخلي عن هذه الوساطة إذا طلبت منه ذلك.
الشتاء قادم. كيف سيعمل تحت زخات المطر. العربة تحتاج إلى سقف وصاحبها إلى مظلة. والبرد ماذا يفعل معه؟ الوقوف في الشارع يزيد من الإحساس بالبرد حتى ولو التحف غطاء صوفيا. وإذا تعرض للمرض من سيعوضه؟ وكيف يصرف على البيت؟
تضرع إلى الله أن يحفظه من المرض حتى لا يركب الجنون فاطمة، وتنزل إلى السوق، وتأخذ مكانه.
عباس بائع الموز. المسكين صدمته سيارة قبل أسبوع، كسرت رجله لا زال يرقد في بيته. أب لثلاثة أطفال. ( ربنا خلقتنا. لا حنين لا كريم ). زاره بالأمس رفقة بعض الباعة للاطمئنان على صحته. عندما رآهم، كاد يطير من الفرح، أحس بأنه ليس وحيدا. جمعوا له خمسمائة درهم بشق الأنفس. حالُهُ يشفي الأعداء.
فكر مرة أخرى في فاطمة وسعيد. غدا سيكبر سعيد، وتأخذه فاطمة إلى المدرسة ، وتطلب منك في المساء مصاريف زائدة. ثمن التسجيل والأدوات المدرسية والوزرة، وكتب المقررات، والحقيبة التي ستكسر ظهره. وتشكو الحظ العاثر، وكيف تفخر عليها جارتها عائشة زوجة حارس الدراجات التي ستقسم على زوجها بألا يدرس ابنها إلا في مدرسة خاصة، وستؤدي بالمقابل أجرا يفوق خمسمائة درهم شهريا.
تساءل بمرارة:
ـ هل يفكر من هم فوق رؤوسنا في هذه المعاناة، ويبحثون لنا عن حل؟ نحن أيضا لنا حق في هذا الوطن، لكننا معتقلون ومنسيون في هذه الأزقة بالقرب من بيوت الله التي يؤدي فيها المسلمون الصلاة خمس مرات في اليوم! لا رأفة ولا رحمة، لا عمل مستقر، لا قانون شغل، لا تقاعد ولا ضمان صحي أو اجتماعي. نحن في غابة حكم علينا الناس الذين يعيشون فوق بأن نتحول إلى حمير بأعين مغمضة، تدور حول الطواحين بشكل آلي، والسلطة تراقبنا عن بعد ، وتمنعنا من إزالة العصابات عن العيون .
تذكر دروس استقلال الصين، والثورة البولشفية، وحركات التحرر الوطني، وأستاذ الفلسفة، وأحلام الشباب عندما كان طالبا في الثانوي، تساءل بحسرة يملؤها اليأس قبل أن يصعد السلالم:
ـ لا أنبياء جدد يلوحون في الأفق، ولا رفاق حمر أو صفر ينزلون إلى السوق، فمن يوقف يا ربي هذا العالم على رجليه!؟
مراكش 22 أكتوبر 2019