– الى العم الشاعر العراقي الكبير المرحوم سعدي يوسف (رحمه الله)
بدور… بائعة التمر البصري، دكناء كحبة بن. كانت كالعشرين شتاءً.. أيهذا الجمال، يدوخ! حزن في عينيها البليلتين، كانكسار الغروب بعصائره المعتقه. حزنها جحيم سحيق، صفيق..، حزن يسير بمساء خلف أطراف عميقة السماء. كل شيء بين يديها يسكب في طيوب، يطاله رفات السفر، حليكة، والسفر مداه الذهول، يتمادى بنان شحذ في الجسد الراقص تيهه.!
بدور… كانت كالفراشة تطير بانبهار في الساحات، تتلظى، تنش الفرح الميت والتليف، تثري مسخ عنفوان من الزوال، والطوية تدبره، تسرج وتسرح فرط الدلال علينا من قلادات البلايا، تمس، تتلوى، تفتح المزاليج المغلقة حزنها، برقراق دمع حزين، بوخصة نظر، بلكزة قوية، تذرذر مخمل اللحن نخيلا.
أيتها العطر المرفه، رخاء الوهج، وأغنية الحسن العفيف. يا صاح، بدور مليكة مثقلة النشيد المدلل..، باب القرية العتيق، يتهافت كقصيدة تنشي هدير رخاوة جريان نهر، تغفوها تمايل أغصان الشجر لشاطئه، ترهفها نشوة العصافير والهوى، حيث رائحة حقول القرية تتحلب منها العاطفة، تعلم ذاك القلب يشيل البحر إلى القادمين، الخوافي، وسلال التمر أشيع من لمس القبلة، قطفا، في شرهة متحفزة أبدا للوثوب…، بدور، منسرحة كصفحة النهر، تتقفى أحزانها التي لا تمحي، كأنما إنسراح يمطل فيها من الرمز والأستعارات والتشابيه لحزنها الأيهم.
بدور، غريبة في هذه المدينة المؤجلة، غريبة خلف هذا المقهى الطيني، تجيء، بعيدة تراها للحياة، تحفر من قابلها خطاها، لها ذاكرة شاسعة وأبخرة، من خلال النوافذ الخشبية والصفائح الوحلة تراها، ترنو إلى أشراقة السكون، تكتمل في شباك من خيوط الشمس كالسراب، كأزهار الشرفات تنتظر، وعيناها كحقول ترزح تحت برد الخريف مساءً. بدور، صمتها متسع كالأعماق، كضوء الهمزة في أخر الضوء، كالأزقة الحجرية المتكسرة، تتأمل بهدوء كالطيور في البراري الشاسعة، ترقب في الدروب كالمقابر التائهة، تتجه من دمها إلى صمت في عينيها… ولا أحد يمنحها العزاء.!
بدور، فيها قمر البستان وضياء المطر، تلتقيني قليلا كالناس، بالصبح كالتمر، تزارعني صفتي بأتساع الليل وضيق الدروب، تزارعني ابتسامتي الخريفية حيث تشاء، تنهمر علي كألعاب الطيور شفافة وميضة، وبعد كل لقاء تلقيني التحية بصمت، ولا تبدل من الضياء، تبادلني أنتزاعاتي، وتسالكني الظلال كالضوء والسكون، تتقاسمني في حجرتها تلك، فسحتها الظلماء من الوهم والوحشة…
بدور ليل من الصفاء، تتمتمني في تتابع رتيب للمحبة، لم تقبض عليها الظلمة والبرودة بعد، تنهض بابتسامة كعيد تمور القرية، تعبر بعيدة من لون الريش الباهت في المغيب، إنها كسراج.. تحب الصمت ولمس التين والتفاح… بدور تجلس كعادتها قبل وداعي، خلف المقهى الطيني، ليس كالنوافذ الفارغة، تودعني وفيها ملمس الشمس والبرتقال، تترقرق دمعتها بتلويحة كمدار يتعثر، وبعينيها أقوام مهاجرون، يعبرون البحر ومن أنفاسها يهرولون، وبعد كل وداع تقلع قبلتها الصباحية في سلال البستان.. تعبر كل الصباحات بصمت دافيء كاحضان الأم، تعبر وفي دالها الشوارع والبيوت، مما يجعل الليل والقمر والصمت كالتمر في السلال، إليها يتدافعون…،
آواه… يا بدور، فالتمر البصري أرخى عذقه مالحا دونك.!