💢 المسكوت عنه والمضمر برواية ” خيانة الأراجوز “:
سنحاول في هذه المقاربة استنطاق النص، كأثر فينومينولوجي لبيئة اجتماعية، أو لنقل إثنية، انبرى الكاتب لاستحضارها كرمزية سوسيو-ثقافية، لتجمع بشري متعايش منذ القدم بثنايا المجتمع العربي عموما، والمصري خصوصا، ونخص بالذكر ” الغجر ” ذلك المكون المواطناتي لمجتمعاتنا العربية، والذي يقترن غالبا بوصف قدحي، بعيد كل البعد عن كينونة أصحابه، يختلف المؤرخون في أصلهم ونسبهم، لكنهم يجمعون أنهم قدموا من الهند، ألفوا الترحال، وتعايشوا مع سكان المناطق التي يعيشون بها وهم قسمان : الرومن بأوروبا، والدومر في الشرق الاوسط، يعيشون في مجمعات مغلقة، يحترفون الرقص والغناء وقراءة الودع، والتسول وممارسة بعض الحرف اليدوية…لذلك قبل الخوض بمقاربة النص، كان لزاما التذكير بالفضاء العام الذي تدور في رحاه أحداث قصة ” خيانة الاراجوز” :
تدور أحداث النص، بأحدى قرى صعيد مصر، حيث التواجد التاريخي الفعلي لقبائل ” الحلب “، يستحضر ثلاث شخصيات رئيسية :
صابرين، هنادي، فرج. ثلاثي يؤثت مشاهد و حبكة القصة.
*صابرين الفتاة العانس( الأخت الكبرى) وهي بمثابة الأم والأب بعد وفاة ” العجوز “، نحيلة، طويلة، حادة الطباع، قاسية الأحاسيس، بأسفل ذقنها وشم ( ربما امتهنت الرقص في شبابها
” غازية “، لذلك فهي تستحلي مضغ التبغ، وهي عادة ارتبطت غالبا بالغوازي ( لصعوبة تقبل المجتمع تدخين المرأة )، وهي الآن مساعدة آراجوز ” ملاغاتية ” تضرب الطبل، وتشكل ثنائي في مسرح الدمى، تتحمل مسؤولية أختها، لذلك تستهل القصة بمشهد يسلط الضوء عليها، وهي تجر عربة العرض الخاص بالاراجوز، بغية دفن جثمان ( والدها العجوز) والذي يبدو أنه كان يعاني من مضاعفات سرطانية نتيجة تعرضه كبده للتشمع او الإتلاف ( ظهور بقع سوداء بالجثة )، وتتم عملية الدفن وقت الغروب، وبدون مشيعين سوى ابنتاه في مقبرة اسمها ” الصدقة “( وهذا مفاده نأي البنت عن كل المشاكل التي يمكن أن تصادفها من سكان القرية، وهم الغجر الرحل الذين ينكفؤون على أنفسهم اتقاء للمشاكل..).
*هنادي: يافعة، مراهقة، يصورها النص، كأنثى ذات أحاسيس مرهفة، تحزن بالبكاء و الشجن لفقدان أبيها، و تجد في حضن أختها صابرين الملجأ الآمن، والعزوة في الحياة، لكنها وبطبيعة المرحلة الحرجة التي تمر منها، تريد اكتشاف نفسها، وتجد ضالتها في أول رجل يصادفها ( عم فرج) ربما كمواساة لفقدان الأب او فقط كرجل يقاسمها بيت الزوجية.
* فرج : عجوز، سكير، غير مرتبط ، هو في حل من أية مسؤولية، ربما هو ” بتاع مراجيح ” في المولد ( صوره النص بأنه ينام قرب شجرة الجميز بالأرجوحة..)،وبما أنه غير غريب عن عوالم المولد، فقد قبل الحرفة الجديدة بكل همة ونشاط، بل منسجما و متجانسا مع أطفال المدرسة، يرقص ويغني لهم..ومنذ الوهلة لمشهد الاحتكاك المباشر مع الفتاتين، يظهر نزوعا نحو الفتاة المراهقةوجسمها البض..
اذن باستقرائنا للاحداث، يتضح جليا الدور المحوري ل” صابرين “، فهي الأراجوز الحقيقي أو ( فرانكشتاين) الذي تخلق من الذكور أراجوزات وتزين وجوههم و تقولبهم في قولب ابداعية بمهنة شريفة تدخل البهجة والفرحة بقلوب الصغار والكبار. ( فالعجوز الاول ربما هو الآخر لم يكن ابا بيولوجيا لهما، فالكاتب وظف عبارة غاية في الايهام والقسوة ” التقطاه.. “. وهذا بحد ذاته يبرز الرسالة البليغة والمهمة النبيلة لصابرين، في انتشال التائهين و الضائعين من براثن التسول والانحراف الى عالم الفرح والجمال وكسب الرزق بعرق الجبين، بالإيثار النفسي والحرمان..
** استنتاجات : عنوان القصة ” خيانة الاراجوز” في نظري، غير موفق لكون الاراجوز الحقيقي هو صابرين، و سلوكها و طبيعتها لا تنم عن خيانة، بقدر ماتبرز القيم النبيلة والشريفة، لأنها تساعد أبناء قومها لكسب رزقهم حلال بالابتعاد عن الانحراف والسلوكات المشينة..وبالتالي تدعم وتشيع قيم التسامح وتغني رصيد الموروث الشعبي وتحفظه من الاندثار والانقراض.
– تفوق الكاتب وبمهارة واحترافية لجرنا لاشعوريا، للتعرف عن قرب عن عالم الغجر بسلبياته وايجابياته( عدم اندماجهم مع المجتمع، اعتمادهم على الرقص والغناء والترفيه، تشييع المتوفين بالليل و بعيدا عن الساكنة، الزواج المبكر للبناث ( هنادي / الفتاة الثانية التي ترتدي ثوبا ورديا ). خلق الاحتفالية في نفوس الاطفال وكذا المعلمين الشباب، محاربة التسول ..)
– النص، ورغم ملاحظاتنا، يستحق الاثناء و الفوز، لأنه يظهر احترافية و جدية وتركيز للكاتب الذي قام بمجهود بحثي انتربولوجي و جمالي ليخرج لنا نصا ماتعا وبسلط الضوء على ظاهرة تستحق الدراسة والبحث.
—-
💢النص :
خيانة الأراجوز
تجر في عناء العربة الخشبية بألوانها المزركشة بصور البهلوانات والثعابين وحلقات النار، يقابلها غروب ينفض هُبابه على قفار الأنحاء، تجرجر خطاها بين خصاص المقابر على الجانبين مجهدةً تستلب ما بقي في جسدها من صمود تقاوم به خوار قواها، وما استبد بجسدها من هزال وضمور، استوت إلى باب المقبرة؛ مقبرة الصدقة، تتوقف، تتنفس الصعداء، تمسح بكم جلبابها الأسود جبينها المعرق، تجز بين أضراسها مضغة التبغ بين فكيها في إصرار من يقتنص رمقا من الحياة ليمتزج ريقها الناشف بنكهة التبغ اللاذعة؛ يستقبلها التُّرَبِيُّ بوجه صلب عابس ، يواسيها مقتضبا بصوت أجش (شِدي حيلك)، يفتح قفل باب المقبرة مزمجرا بسلاسله، فيهرب فزِعا خفاشٌ أوى إلى سقف المقبرة مترنحا بجناحيه الأسودين ، تحمل جثة أبيها على ذراعيها فتنهمر من أختها الصغيرة الدموع ، تتماسك أن تهوِي بالجثمان، فتنتصب في تحد وصلابة بجسدها الطويل وتطفر الدموع من عينيها فتمتزج الدموع بخضرة وشم داكن على ذقنها المدبب، يوارَى الثرى، تلقي النظرة الأخيرة علي وجهه الهرم، ولم تفارق تجاعيده أصباغ وألوان تعتقت بين شقوق وتقاسيم الوجه العجوز، وما أفلحت يداها أن تمحو ما امتزج بوجهه من ألوان وما بذلته من عناء تغسيله حتى وارته كفنا أبيض ناصعا يلثم جسده الهزيل المرقط بالسواد.
التقطاه عجوزا صعلوكا يقتسمان في شهيقه أبوةً، ومن نحول جسده ظلا هزيلا تتواريان في أذياله، والآن مات.
حتى إذا أتي الليل على العربة وحيدتان، في ليل عتوم؛ فاحتضنتها اختها الصغرى وتشبثت بها كعلقة تؤوب إلى رحمها في التصاق وهين، على فراشهما الخشن بأرضية العربة، فتضمها في حضنها تغمرها بأنفاسها الحارة تواسي بردها وخوفها،
لاذا في صمت عبوس. ينتظران صباحا تأنسان فيه بالصخب والثرثرة من طفولة تقبل مع الشمس.
العربة رابضة كجسد خائف في كتمان خلف المدرسة الابتدائية؛ العربة مسرح، وغرفة نوم، وكهف آمن يلوذون به، وقاطرة تنقلهم بين المواسم وموالد الأولياء والقديسين.
يتسلل إلى قبو ليلهما سعال يجلجل ومفردات من رجل يهذي، ويتغنى بصوت أجش يضطرب بين صرير الليل،
أشرق الصوت فتبللت حجارة الشجن في صدريهما، تبتسم الصغرى بسمة تفتت لها ركام الحزن الجاسئ بوجهها الطفولي الوديع، وتبادلا النظرات وغادرا العربة في نشوة وارتباك.
يلتقيانه أسفل شجرة الجميز يقذف في عبث زجاجة مكتنزة بعدما أفرغ آخر قطراتها في أحشائه.
يستفيق على خبر موت الأب، تمخر ذراعاه عباب أحزانهما، يربت بكفيه عليهما، تنظر إليه بعينين دامعتين تستفز فيه أجوبةً ووعودا فيصرف عينيه هاربا في أفق الليل المظلم.
عاد الآن خالي الجيب من قروش أنفقها في مقاهي المدينة وحاناتها الوضيعة؛ جائعا، معدما، فرغت زجاجته من عقارها، عائدا إلى شجرة الجِمِّيز والأرجوحة.
اقتسما فيما بينهما أبوة الرجل العجوز، وتساورها نفسها أن يقتسما رجولة فرج هل يستويان!
وانعقدت الصفقة سريعا
انساق خلف صحن الطعام على كفها
تصنعه، تشيد في وجهه عالم من الضحك والعبث، تُشوه وجها سكنت طلَّته في أعماقها وداعبت مرارا أنوثتها الكتومة، يلكزها بصوته النحاسي كَفى لقد خربتِ وجهي.
فتبتسم في شدة ونظرة توجيه ويفر من مبسمها رضا ونشوة سالت من سعادة تكبحها في كبرياء، تتسمر الصغيرة مدهوشة ترى في خِفتِّه مصدرا للبهجة فتقترب منهما
: -شكلك صار يضحك يا عم فرج.
: -البركة في صابرين أختك. ويميل على يدها يقبلها فتصفعه على فمه
: -احترم نفسك.
فيرتسم الغضب على وجه الفتاة من قسوة اختها على الرجل وتربت على كتفه فيمد يده على خدها يداعبها بنظرة ذكورية نهمة تتفحص زوايا وجهها وجسدها فتقبض (صابرين) على يده وتبعدها عن الصغيرة؛ التي تلمح في صوتها لهفة وارتياح الى (فرج) ومزاحه الثقيل.
قبيل الصبح تأهبوا، بات فرج العاطل فأصبح فرج الأراجوز المهرج.
فتسابق التلاميذ على صوت طرق الطبلة الضخمة الجوفاء وصوته المستعار يطلق النِكات والحوارات اللاهية بينه وبين الدمية الباسمة في يده؛ فانخرط الصبية والصبايا في ضحك مجلجل في داخل العربة على صفيها؛ من التواءات وجهه الفكاهية والرقص بمؤخرته في وجوه الصغار وضج الضحك مما عزى بعض المعلمين الشبان القدوم لاستكشاف مصدر الضحك وتلك الجلبة والزحام، يغمز للصغيرة بعينين تلطخ جفنيهما حمرة وزرقة وصفرة مبعثرة؛ فترتعد ضاحكة بجسدها اللين ويحمر خداها وتفتر عن شفتيها المضمومتين كحبة فراولة ناضجة بسمةٌ؛ فتتألق أسنانها وفمها الحلو الدقيق،
تشتهي الفتاة أن ترتدي الفستان الوردي المعلق على الجدار كشريكة في صنع سعادة؛ فتكفها وتزجرها بأنه مخصص فقط للمولد.
تنتبه في يقظة تمزجها لامبالاة لغمزاته لأختها ونظراته المشوبة بالنداء والرغبة وحميمية الرجال التي تقرأها في عيونه،
هل كبرت الى هذا الحد؟!، تتأمل أختها تكتشف ما لم تنتبه إليه من قبل، أثمر جسدها وتراقص نهداها في مرح على جسدها البض كلما ضحكت من قلبها على حركاته وشقلباته.
وتسربت في نفسها ثقة في إخلاص تفاهته فمنحته قبولا لاستكمال حياتهما به، دمية تلهو في أعين الناس وظل رجل هشٍّ يتقيهما حرَّ وغَى الأيام وطمع العابرين.
بعيون تخشى مواجهتها وتتبعثر نظراتها ما بين التراب، وألسنة النجوم المرتعشة، ووجهها المتجهم.
أنا طالب القرب…
تنفرج بسمة رقص أسفلها وشمُها الداكن وبلل الدمع هدبها فرحا لم تقوَ على كبحه أو دفعه من قعر عيونها العميق.
: -في هنادي أختك!
وتصادمت عيناهما يقتلعان في عنَتٍ ما وقر في نفسيهما من ظلٍ باهتٍ لحبٍّ قديم،
فسطع كبرياؤها سريعا وتماسكت الأحرف بين شفتيها اللتين فترت فيهما البسمة.
: -لن أجد خيرا منك ائتمنه على لحم أختي وأولا وآخرا أنت واحدٌ منا.
تغسل جسد أختها البكر تمسح بكفيها أعضائها الرخوة مشبعة بنضارة الصبا، تعجن قطعة الحلاوة بين كفيها بماء الورد، تقتطف ما نبت بها من أهداب توارت في أغصان جسدها الرخو، تحل الفستان الوردي من معلقته بعينيها أن لا مانع الليلة من ارتدائه.
يضرب صوت موسيقى طبول، ودق صاجات تصدر من بعيد لمولد قرية مجاورة طالما انتظروه فأهملوه ذات الليلة.
تناديه بعد أن تم عقد القران:
: -أسلمك أمانة وأعلم أنك ستحافظ عليها.
: -في عيوني.
وتسللت في صمت الليل صرخة خافتة تبعها ضحك ومزاح، فضحكت ملء ما بمحاجر عينيها من دموع،
وشرعت في انسحاب مهزوم ضمته أستار ليل داعبت ظلماته الضحكات والفرح، والوجع الصامت في الأضلاع.
هامت وحيدة تجر ذاتها كقافلة خاوية، ليس لديها ما تجرجره خلف جسدها، تود لو حلقت بكلتا ذراعيها تعانق السحاب، تستطيب على لسانها مضغة التبغ فتعتصر لذعتها وتنتشي بما يفعله عصيره في وجدانها، تنساق خلف قرع الطبول ونفخ الأبواق والمزامير، تزور المولد كأول مرة تزوره، تشاهد ما تجاهده الراقصات من إغراء، ساحر يحول العجوز الى صبية، فتاة ترتدي فستانا ورديا أمام عربة خشبية قديمة يجلس على عتبتها عجوز. يتسولان ببضاعة رخيصة مزجاة،
انجذبت بوجهها النحيل وانفلق كطاقة من نور تلألأ في عينيها، وأوت إليهما في ألفة حميمة. عرفاها، لقياها لقاء الأليف العائد، التقطاها في سعة ورحب، كفَّت عنهما أن يتسولا، وشرعت في صنع أراجوز جديد.
يشري الضحكات.
مضغة التبغ: طريقة لتدخين التبغ (الدخان) مباشرة بالمضغ في الفم وشائعة في بعض قرى صعيد مصر.