((سحائب ناصعة البياض تسبح في محيط أزرق، تظلل خضرة تغطي سطح الأرض في استواء وامتداد، وأبقار ترعى تعكس أعينها طمأنينة راسخة، ولا علامة تدل على وطن من الأوطان، وفي أسفل طفل يمتطي جوادا خشبيا ويتطلع إلى الأفق عارضا جانب وجهه الأيسر وفي عينيه شبه بسمة غامضة. لمن اللوحة الكبيرة يا ترى؟…
وهاهو الطفل ينظر إلى الأفق ينطبق على الأرض. دائما ينطبق على الأرض من أي موقف ترصده، فيا له من سجن لانهائي. وما شأن هذا الجواد الخشبي ؟ ولم تمتلئ الأبقار بالطمأنينة .؟َ!)) ص(5).
بدأ نجيب محفوظ روايته الشحاذ بوصفه لأشياء وليس لأشخاص، وصفا للوحة تضمنت الكثير من المعاني. تلك اللوحة المعلقة في صالة الانتظار للعيادة الطبية التي قصدها بطل الرواية (عمر الحمزاوي)، والتي رسم عليها طفل يمتطي جوادا يتطلع إلى أفق بعيد بوجهه ابتسامة غير مكتملة وأفق ينطبق على الأرض، وسحائب بيضاء وأرض خضراء معشوشبة ترعى فوقها أبقار بكل طمأنينة.
وبوصف نجيب محفوظ لتلك اللوحة في استهلال الرواية نرحل عبر عالم مليء بألغاز ورموز لنستكشف أثناء قراءتنا للرواية الأبعاد التي حاول الكاتب تجسيدها من خلال ما تزخر به اللوحة من مظاهر تجمع بين الجامد من الطبيعة والمتحرك منها، وما يشير إلى كائنات حية رمز لها بالأبقار والطفل. فبطل الرواية جذبته اللوحة وجعل يمسح بعينيه ويتأمل صورة الطفل المرسوم عليها، والذي يتطلع إلى الأفق بشيء من الغموض، وكأن ابتسامته وملامحه تحملان سؤالا يغوص في دواخله ويتمنى أن يجد له إجابة.
هذا السؤال الذي كلف(عمر الحمزاوي) مسيرة تخبط وشقاء جعلته يفقد الكثير باحثا عن إجابة لسؤاله الأهم والأصعب ما معنى الحياة؟.
في هذا الإطار يبدأ تمرد البطل على الحياة القائمة بكل ما فيها.فعمر الحمزاوي شخصية لا تشعر بالانتماء، أو بجدوى الحياة رغم عمله بالمحاماة، وتكوينه لأسرة. إنه لا يجد هدفا لحياته وهو في حالة قلق و اضطراب.((كل شيء يتمزق ويموت))ص(8). وهذه الشخصية القلقة تعاني دائما من عدم التلاؤم بين ما تريده وما يمور به الواقع الخارجي. يبدأ متمردا ثوريا يحلم بعالم مثالي حيث العدل والحرية. يحطم القيود في حبه( لكامليا فؤاد) من مدرسة الراهبات التي شغفته حبا، ليغير اسمها إلى زينب.
كان مشاركا في الثورة إلى جانب رفيقيه (عثمان خليل) و(مصطفى المنياوي). و في أثناء جهادهم يقتلون إحدى الشخصيات المناهضة لهم ليسجن (عثمان خليل) ويهرب هو و(مصطفى المنياوي) ويحقق كل منهما النجاح في العمل والشهرة. الأول يعمل بالمحاماة ويحقق فيها مكانة مرموقة. والآخر يعمل في مجال الصحافة والفن الغير الجاد.
ولتمر السنون ويجد عمر نفسه فجأة يعاني من مرض غريب يلتهم كل الأشياء من حوله العمل، الزوجة، والأبناء، بل إنها قد تكون سبب التقزز منها ومن نفسه. لم يعد يفكر أو يشعر أو يتحرك، ماتت لديه الرغبة في العمل، وضاق بالدنيا والناس.
هذا المرض المفاجئ هو منطلق تمرد البطل على الحياة القائمة بكل ما فيها، داخل مجتمع طغت فيه المتناقضات، ( ) وأزمته ومعضلته لها أبعاد استيقظ عليها أولها: فشله كشاعر منذ أكثر من عشرين سنة، منذ أن كان طالبا بالجامعة تلك هي أزمة عمر أكون أو لا أكون، هذه كانت رغبته الأولى ولم يعوضها كل النجاح الذي حققه في مجال المحاماة. ((الفشل اللعنة التي تدفن ولا تموت. ما أفظع ألا يستمع لغنائك أحد، ويموت حبك لسر الوجود. ويمسي الوجود بلا سر. وتبعت الحسرات يوما لتخرب كل شيء)).ص(99).
هكذا يتذكر أيام الشعر التي انقضت، وأيام الحب التي ولت وأيام الثورة التي انتهت، ولم يعد ثمة يقين يمكن التشبث به.( ) ليترك بعد ذلك عمر الشعر ويتخلى عن الفن الحقيقي الذي طالما حلم به ورفع راياته، فهذا الفن قد ولّى، مضى وانقضى وفن عصرنا هو التسلية والتهريج. ((قديما كان للفن معنى حتى أزاحه العلم من الطريق فأفقده كل معنى…))ص(21).
ليعدل عن المهجة الأولى وليتنكر لمبادئه ويعرض عن الفن مقدرا أنه عبت طفولة لا أكثر ولا أقل.( ) كما أن للتناقض الذي عرفه المجتمع المصري دوره في أزمة عمر. فالطبقة الجديدة التي انتمى إليها في حاضره تنازع الطبقة القديمة التي انتمى إليها في الماضي بفكره، وبين الفكر والواقع تدور رحى الصراع الأليم.
أزمة الذات المعاصرة المستوحشة في غياهب الاغتراب والوحدة داخل مجتمع هو مزيج بين تصورات ليبرالية ونزعات إنسانية ونظرة متشائمة لمجتمع اشتراكي تلوح ملامحه الأولى في الأفق الاجتماعي المصري، وهواجس جيل بأسره متوتر بين موجود آسر ومنشود نفور، أزمة مثقفي ما بعد الثورة في مصر الذين سقطوا في شباك مرحلة تاريخية مضطربة ولو أنها تحققت بدولة اشتراكية.( )
فعمر وعثمان ومصطفى ثلاثة ورابعهم الحلم، إخوة الجهاد القديم وثالوث الشعر والفن والجمال والثورة وتغيير العالم.”اندفعنا برعشة إلى أعماق المدينة الفاضلة. واختلت أوزان الشعر بتفجيرات مزلزلة واتفقنا على ألا قيمة البتة لأرواحنا. واقترحنا جاذبية نيوتن يدور حولها الأحياء والأموات في توازن خيالي لا أن يتطاير البعض ويتهاوى الآخرون”.ص(24).
كانوا نموذجا للقوة والوحدة من أجل تغيير مصر، فأطبق عليهم سبات كسبات أهل الكهف أو أشد إظلاما شتت عراهم، فاعترتهم الفرقة والانشقاق وغدوا كل في حال، أحدهما في السجن يعاني مرارة الأمل والآخر خارجه يجاري نشوة اليأس.( ) ليأتي الدور على عثمان خليل ليعمق جراح البطل، ويزيد من آلامه، ذلك الشبح الذي يطارد عمر أينما ذهب. ((وقريبا سيخرج الماضي من السجن ويضاعف عذاب الوجود.)) ص(23).
فتصبح ذكرى عثمان كابوسه الذي لا يفارقه أينما ذهب، لأنه الصفي الأوحد للمبادئ و لرفاق الدرب، ضحى بسنين الاغتراب في السجن من أجل صادق الوعد الذي قطعه على الرفاق. وحافظ عثمان خليل على طموحاته الاشتراكية، ومازال يؤمن بالمدينة الفاضلة حتى حبس ولم تضر السنوات العشرون التي ابتلعته في غياهب السجون بالطموح النبيل الذي نشأ عليه، فهو رمز للتمرد والشجاعة.
ليبقى وجها للإصرار والثبات على الموقف الفكري برغم الهزات والخيانات. ولتطارده الذكرى، ويؤنبه الضمير إزاء الخيانة العظمى التي ارتكبها بحق رفيق الدرب. ((يوم لم يعترف رغم الأهوال لم يعترف))ص(18).
تلك هي المأساة على وجهها السافر، وليس مستنقع المواد الذهنية أو هذا الجسد الشحمي الذي آلت إليه زينب ليس إلا تعميقا فنيا لللحظة الحاضرة اللزجة التي يحياها عمر في موكب الطبقة الجديدة بقلب خافق للماضي، الذي يخفق بآلام موجعة غير مرئية منذ أن اكتسحت وجوده الاجتماعي كافة الملذات( )، “وقريبا سيخرج الماضي من السجن فيضاعف عذاب الوجود”.ص(23).
ليبقى السؤال كيف الهرب من عذابي الماضي والحاضر؟. ومن هذا السؤال تندلع إشكالية البطل ومكانة انتمائه.وقيمته في الحياة. تلك الشخصية التي تضعها قيمها وقيم وجودها أمام مشاكل لا حصر لها ولا حل ولا تستطيع من جهة ثانية نقلها إلى مستوى الوعي الكامل.( )
هو بطل متردد بين عالمي الذات والواقع، يعيش تمزقا في عالم فظ. إذ يحمل البطل قيما أصيلة يفشل في تثبيتها في عالم منحط يطبعه التشيؤ والاستلاب والتبادل الكمي لذلك يصبح بحثه منحطا بدوره، لا جدوى منه.( ) والبحث عن سر الوجود هو الترجمة الأمينة لمرحلة الوصول إلى الدرجة ((القصوى)) من العذاب( )، وإن لاح في البداية على شكل مرض غريب خاله البطل مرضا عضويا يعالج بحبة بعد الأكل أو ملعقة قبل النوم. فإذا بالمسألة أخطر مما يتوقع (لا أريد أن أفكر أو أشعر أو أتحرك كل شيء يتمزق و يموت).ص(8).
هذا المرض الغريب في حقيقة الأمر ليس سوى رغبة باطنة في داخل البطل، رغبة في معرفة سر الوجود، وهذه الأخيرة لا يمكن أن تكون رغبة ميتافيزيقية نابعة من ذات البطل، إنما أوقدتها نيران الوسيط في نفس عمر عن طريق الإيحاء.( )
تصور أن تكسب القضية اليوم فتملك الأرض ثم تستولي عليها الحكومة غدا؟. فيرد عليه بهذه العبارة: المهم أن نكسب القضية، ألسنا نعيش حياتنا ونعلم أن الله سيأخذها؟.ص(45،46).
هنا يحدث التحول المأساوي في حياة عمر، ليجد أن كل ما بناه و امتلكه من شهرة وثراء متخم إنما هو سعي خاسر. ولقد أدرك فجأة كما يقتحم عبت الوجود أي إنسان عند أحد منعطفات الطريق كما يقول “كامي” أنه كسب العالم كله وخسر نفسه. وطارده الإدراك المفاجئ حتى أصبح عليلا بغير علّة واضحة، أمام الآخرين على الأقل.( )
صفعة أخرى يتلقاها البطل جعلته يعاود التفكير في ذاته ومراجعتها. ما الجدوى من وجودي؟ ما معنى أن أكون؟ أين الحقيقة؟ كيف السبيل إلى اليقين؟.
لتبدأ رحلة البطل في اكتشاف ذاته والوصول إلى اليقين والبحث عن النشوة، في ملذات الجنس ولذائذه بناء على نصائح المتأنق( ) (مصطفى المنياوي)، متحررا من شواغل العمل والقيود الأسرية الضاغطة الملزمة زاهدا في متاع الغرور. ((الفقه لا يهم والحكم لصالح موكلي لا يهم وإضافة مئات جديدة لحسابي لا يهم ونعمة البيت السعيد لا تهم…))ص(51).
فالبطل منذور للخيبة والضجر، ويخيّل إلينا عند الاستماع إليه أنه يقر بعبثية الرغبة الميتافيزيقية. غير أنه لم يتخلّ عن جميع الرغبات، بل تخلى عن تلك التي أثبتت التجربة أنها مخيبة لآماله، فلقد تخلى عن الرغبات السهلة وعن الأشخاص
الذين يمنحون أنفسهم دون أدنى مقاومة، وما يجذبه الآن هو خطر. ولقد لاحظ “دوني دو رجمون” في كتابه الحب والغرب حتمية الشغف الرومنسي هذه: ((يجب إعادة إنشاء العقبات لإتاحة المجال للرغبة من جديد ولإثارتها حتى تبلغ حجم الشغف الواعي والكثيف والبالغ الأهمية)).( )
((الحقيقة أن عملك جاوز بك أبعد غايات النجاح. وأن زوجك تعبدك. فلم تعد أمامك غاية تتطلع إليها.
عمر وهو يبتسم ساخرا
-هل اسأل الله فشلا في العمل وخيانة في الزوجية.؟
– لو استجاب لك لمنحك حب الحياة من جديد)). ص(56،54).
ليسلك بذلك عمر (الحمزاوي) طريق الجنس كخطوة أولى للشفاء من مرضه، وأزمع على النهوض بأن يشفي نفسه بنفسه دون حاجة إلى طبيب معالج (( من الآن فصاعدا أنت الطبيب. فأنت حر. والفعل الصادر عن الحرية نوع من الخلق).ص(23) .
ودواؤه في مباهج الجنس ولذائذه داخل الملاهي الليلية، ليكتوي بين أحضان (مرجريت)، سواء و هي شبح في جوف الليل اللئيم أم هي جسد نيراني متقد بالرغبة.( )
لتصالح مرجريت في ذات الحمزاوي متناقضاتها ويجد في حبها منفذا. ((كلما رأيتك ازدادت شهوتي وكلما ازدادت شهوتي زاد لهيبي.)). ليحس بمعنى الحياة من جديد وتتعلق حياته بأغنية داعرة. ويعيش معها أولى مغامراته العاطفية حين انطلق بها في خلاء حول الهرم. (( ما أكثف الظلمة حولنا. تكاثفي حتى ينسانا العالم وليختف كل شيء عن العين الضجرة. آن للقلب وحده أن يرى. أن يرى النشوة كنجم متوهج. وهاهي تدب في الأعماق كضياء الفجر. فلعل نفسك أعرضت عن كل شيء ظمأ للحب. حبا في الحب. توقا لنشوة الخلق الأولى اللائذة بسر أسرار الحياة.))ص(64).
ليحظى من خلال ذلك البطل بنشوة روحية Extase تنسيه ألمه وهذه الأخيرة هي دوما ثمرة وساطة أنثوية، إذ يمكن للمرأة أن تصبح وسيط سلام وسكينة بعد أن كانت وسيط الرغبة والقلق والغرور.( )
ليعود عمر ويكمل مغامراته الليلية مع امرأة أخرى وهي (وردة)، في محاولته للظفر بالنشوة المنشودة، التي بدورها تركته برحيل (مرجريت) عنه فجأة، فيحاول بذلك عمر البحث عن بديل لها في سائر بنات الهوى داخل الحانات، ليلتقي بوردة المفعمة بنظارة الجنس التي تتضح بها شفتاها الممتلئتان الملونتان والنظرة السائلة من عينيها فينبض وجدانه بشوق غريب غير محدود، وأن يجد وإن خانته النشوة بديلا في لذعة الجنس السحرية. ولكن الأمر لم يدم طويلا ليدرك بعد ذلك بطلان النشوة الجنسية: ((نشوة الحب لا تدوم ونشوة الجنس أقصر من أن يكون لها أثر.)) ص(114).
وكما أن وردة ومرجريت وغيرهما من عشرات الأفخاذ والنهود التي دفن في تشنجاتها الألم الممض، قد تطلبت منه أن يهجر ((البيت)) بكل ما يمثله من قيم، وأن يهجر ((المجتمع الرسمي)) بكل ما يرمز إليه من مثل، ليفشل بذلك طريق الجنس في هديه إلى مبتغاه.( )
ليصاب عمر الحمزاوي بخيبة تجعله يضطر على ما يبدو إلى التسليم بالأمر، فالبطل المحروم من الرغبة يعرّض نفسه للسقوط في هاوية الحاضر كحفار الآبار الذي ينقطع حبله، فكيف الخلاص من هذا المصير المرعب؟.
إنه لا يستطيع إنكار فشل رغبته، لكنه يستطيع قصر نتائجه على الغرض الذي صار يملكه، ولا تثبت الخيبة عبثية كل الرغبات الميتافيزيقية، بل عبثية تلك الرغبة الخاصة التي تسببت بالخيبة، ويقر البطل بأنه قد خدع، فالغرض لم يملك إطلاقا تلك القيمة المسارية (intiatique) التي كان يحمّله إيّاها، غير أنه ينقل هذه القيمة إلى مكان آخر، إلى غرض آخر، ومن خلال رغبة جديدة. وهكذا يعبر البطل الوجود من رغبة إلى أخرى كما يعبر المرء ساقية بالقفز على الأحجار الزّلقة. ( )
فبعد فشل طريق الجنس يختار البطل العزلة والانطواء كحل وكهروب مما يعانيه، والتوحد هو الداء والنشوة التي يتطلع إليها، لتكون الصحراء ملجأه اليتيم عندما انطلق ذات فجر، وحده، إلى الطريق الصحراوي. ثم أوقف السيارة في جانب من الطريق المقفر وغادرها إلى ظلمة شاملة (ظلمة غريبة كثيفة بلا ضوء إنسانيّ واحد واختفت من حوله الأرض والفراغ وظلّ (مفقودا) تماما في السّواد. ورفع عينيه إلى آلاف النجوم والهواء الجاف يهبّ منعشا موحّدا بين أجزاء الكون ((وبعدد رمال الصحراء التي أخفاها الظلام انكتمت همسات أجيال وأجيال من الآلام والآمال والأسئلة الضائعة).ص(119)
وابتهل إلى الصمت أن ينطق وتضرّع إلى حبة الرمل أن تطلق قواها الكاملة وأن تحرره من قضبان عجزه المرهق.
وفجأة وهو يطيل النظر في الأفق ((رقّ الظلام وانبثت فيه شفافية وتكوّن خط في بطء شديد ومضى ينضح بلون وضيء عجيب))ص(119). ورقص القلب الجريح واجتاحت حناياه الفرحة ((وشملته سعادة غامرة جنونية واندفنت الشكوك والمخاوف والمتاعب وأظلّه يقين عجيب ذو ثقل يقطر منه السلام والطمأنينة. وملأته ثقة لا عهد له بها وعدته بتحقيق أي شيء يريد)).ص(120). عندئذ يصبح هو (الإله) الذي يستطيع أن يحصل على ما يريد، ولكنه في نفس اللحظة لا يريد شيئا (( ارتفع فوق أي رغبة وترامت الدنيا تحت قدميه حفنة من تراب. لا شيء. لا أسأل صحة ولا سلاما ولا أمانا ولا جاها ولا عمرا. ولتأتي النهاية في هذه اللحظة فهي أمنية من الأماني))ص(120).( ) فلم يعد تمت يقينا يمكن أن يتشبث به البطل في عالم فقد ثوابته وأصبح من الصعب عليه تشخيصه فما سمات هذا العالم المشخّص؟.
هو عالم هجره الله وهذا الأخير من الإجراءات الثلاثة التي نظّر لها جورج لوكاتش في كتابه (نظرية الرواية)( ) و هي:
– مفهوم هجر الله للعالم.
– مفهوم غربة الإنسان في بيته.
– مفهوم المقابلة الجذرية بين الإنسان والعالم وبين الفرد والمجتمع.
فالبطل عمر الحمزاوي يذكر الله في الرواية مرتين: في المرة الأولى يسأل مسيو يازبك (هل تؤمن بالله؟) فأجاب الرجل بدهشة: “طبعا يا له من تحقيق طريف”.ص(92)، وفي المرة الثانية يطرح السؤال ذاته تقريبا على وردة “فتنهد آسفا ثم سألها والله ما موقفكي منه؟ حدجته بنظرة ارتياب حادة، فقال يتوسل: أجيبي من فضلك يا وردة – أؤمن به بيقين؟ – طبعا – من أين جاء اليقين؟ – إنه موجود وكفى. أتفكرين فيه كثيرا.؟
ضحكت كالمرغمة وقالت: عند كل حاجة أو شدة.
وفي ما عدا ذلك.؟ص(118،119).
إنّ الله بالنسبة إلى عمر لم يعد يقينا بل غدا سؤالا، والسؤال تولّد عن سؤال تعلق بالحياة والموت.
فالحياة قد فقدت معناها (خير من اللؤم أن تحدثني عن معنى الحياة. سأدق الجدار الأصمّ في كل موضع حتى يرن صوت أجوف بالكنز المدفون.)
وربما خلاصة الجواب عند عمر الحمزاوي إذا كانت الحياة تنتهي بالموت فلا معنى لوجود الله وما عليه إلاّ الرحيل “إننا نعيش حياتنا ونعلم أن الله سيأخذها”ص(47). فبهجر الله للعالم يزول التطابق بين الروح والعمل الأدبي، فقد أجابت وردة عن سؤال عمر المتعلق بالإيمان قائلة: “ألا ترى أنك تحب تعذيب الآخرين”ص(118). لا شك أنه تعذيب الرّوح وغربتها في عالم زال فيه اليقين وغابت عنه الطمأنينة، لم يعد عمر يشعر بلذة الحب وما يبعثه في الروح من طمأنينة “لكنهما ذكراني بصديق قديم اسمه الحب”ص(28). وزالت كل القيّم، فالشعر قد مات والعمل السياسي لم يعد له معنى، العمل فقد قيمته… لم يعد فيه رغبة على الإطلاق.
ليصمّم على مقاطعة عالم الدنيا والناس والتوجه إلى القفر المجهول حيث لا زالت الأشياء أبكارا والعوالم أطفالا. فتسربت إليه الطمأنينة، هذا الركن تراءى له طريقا جديدا إلى النشوة المستعصية لعله يقوده إلى النجاة. وكأنبياء العهد القديم حين كان يظهر لهم ملاك الرب في مكان يجعلون منه أرضا مقدسة يقيمون عليها المذبح، كذلك فعل عمر الحمزاوي، حين عاد إلى هذه البقعة النائية من الصحراء، بغير سيارة ولا جاه، وأقام عليها كوخه الأسطوري، لقد أحس يقينا بلا جدل ولا منطق، هكذا قال – أن أنفاس المجهول وهمسات السّر تدعوه، أفلا يستحق أن ينبذ كل شيء. هكذا استطرد من أجل هذا النداء الخفي.( )
هذا هو الطريق الآخر الذي سلكه البطل طريق الزهد والهروب والقلق منتقما من نفسه، لتؤكد دلالة اغترابه وانسحابه من مسؤوليات الواقع. ولكن العزلة لم تهيئ للبطل البلسم الشافي، ليستفحل الحلم بصاحبه، “وماذا يعني هذا الحلم إلا أنني لم أبرأ بعد من نداء الحياة؟”ص(160)، ولم تستطع تجربة الزهد والعزلة في الناس والأشياء أن تكشف عن جدوى الحياة، ليفقد بذلك البطل التوازن ويضيق بخلوته الصحراوية واستعصى عليه التشوف إلى اليقين لأن أنياب الواقع المدبدبة لازالت تنهش لحمه وروحه. وإن تبدّت على شكل كوابيس ورؤى (تبدّت زينب برأس وردة ووردة برأس زينب ولبس عثمان صلعة مصطفى ونظر مصطفى إلي بعيني عثمان. وإذا بسمير يثب إلى الأرض متّخذا من رأس عثمان رأسا له ثم يحبوا نحوي”ص(163).
فرغم هجر عمر للواقع والبيت والأصدقاء إلا أن ذكراهم تطارده، هكذا الأمر في مأساة عمر، إنه ظلّ غائبا عن معنى الطريق يجوس مختلف الطرق بعين تقليدية (ألا تلمح الطريق الوحيد الصحيح الأقرب إليه من كافة التعاريج والمنعطفات والدهاليز المظلمة..) سواء كانت ظلمة الجنس في أعماق الصحراء والعش الذهبي، أم ظلمة الوجد في طرف الصحراء والكوخ الأسطوري. ليكتشف فجأة كما غابت الرؤيا عن عينيه فجأة كذلك، أن وحدة الوجود وإرادة الحياة هي ((المعنى)) الذي يبحث عنه، ومعه البشرية بأسرها في موكب تاريخها الحافل، حينئذ يصبح ((كل شيء له معنى)) و((لا شيء في الوجود عبث)) كما همس عمر، والمطاردون لأزمته إلى ذروتها يتعقبون عثمان خليل المختبئ في هذا الركن القصي ويصيبونه- هو لا عثمان بعيار ناري ولكن ليس لشيء نهاية كما ، يغمغم متذكرا بيتا من الشعر يتردد في وعيه بوضوح عجيب (( إن تكن تريدني حقا فلم هجرتني؟)). هو ليس سؤالا بقدر ما هو جواب. فما ظنّه أنيابا تنهش لحمه طيلة الرحلة الدامية: من زينب والمستنقع الذهني إلى مصطفى اللب والفشار إلى بثينة ومزجها الشعر بالعلم وأخيرا بالثورة في زواجها من عثمان خليل إلى سمير كثلة اللحم الطرية والجنين الرابض في بطن بثينة، هذه الدنيا كلها من الشر والآلام والتناقضات اللانهائية، التي زعم لنفسه أنه هجرها إلى أحضان السر في طرق الصحراء، هو في الحقيقة ما يستحق البقاء من أجله.
وكأن الحقيقة ليست في النفور من الدنيا وهجر الواقع، والبيت الأخير الذي ردده عمر في آخر الرواية خير دليل على ذلك (إن كنت تريدني حقا فلم هجرتني؟). فالحياة التي هجرت عمر في وقت من الأوقات لا تستطيع فراقه أيضا، وهذه الحياة التي نقصد بقولنا هي الأسرة بالدرجة الأولى ثم الأصدقاء، فكل شخص من هؤلاء يحضى بقدر من الحب ويحتل مكانة خاصة في قلبه، ابتداء من زينب وانتهاء إلى سمير. وهربه من خلال تجربة الزهد التي عايشها داخل كوخه الصغير في محاولة منه الاختلاء بنفسه وتحرره من القيود الأسرية، لم يكن سوى معاقبة لذاته على أخطاء الماضي التي ارتكبها. ليبقى أسيرا لعذابي الماضي والحاضر وتطارده ذكرى الأحباب على شكل كوابيس وأحلام تسهد خلوته (تبدت زينب برأس وردة ووردة برأس زينب ولبس عثمان صلعة مصطفى ونظر مصطفى إلي بعيني عثمان. وإذا بسمير يثب إلى الأرض متخذا من رأس عثمان رأسا له ثم يحب نحوي)ص(163). لتنتهي الرواية بضياع البطل (عمر الحمزاوي) في الحياة وفنائه في المعنى، وولوجه لحالة أشبه ما يكون بالهلوسة تركته في حالة هذيان وفقدان للوعي لتكون هذه نتيجة البحث الطويل للبطل في سبيل الظفر بالنشوة واليقين ومعرفة جدوى الحياة، لينتهي به الأمر مرددا ذلك البيت الشعري الذي هو جواب بقدر ما هو سؤال.
لائحة المصادر والمراجع:
عدل الهواري تقديم هادي اسماعيلي: مجلة عود الند العدد 1153/2010 .
عبد الجليل بن محمد الأزدي:المسدس والكتاب.
نقلا عن فيصل دراج: نظرية الرواية و الرواية العربية،.
غالي شكري: المنتمي.
جورج لوكاتش: نظرية الرواية.
رنييه جبرار: الكذبة الرومنسية الحقيقة الروائية.