يسرني في قراءتي هذه أن أنقل بعض ملاحظاتي من خلال أشراقات التأمل في مضامين وأشكال فنية رائعة المعلم تتبلور فيها مفاهيم ذات منحنى كبير وقد اســأل نفس السؤال الذي سأله الأستاذ الدكتور يوسف عز الدين لأحدى الأديبات والمنشور ضمن مقالٍ بأحد أعداد مجلة الهلال المصرية في أواخر ستينات القرن الماضي .. السؤال : ” هل تفضلين أن تكوني أديبـــة كبيــرة أو أنثى وأمّا” ؟ ” فضحكت وقالت: أريد أن أكون أديبــة كبيــرة قبل الزواج ، وأنثى بعــد الزواج ..!!
وتعقيبا” على هذه الأجابـة الجريئة ، قال الدكتور يوسف عز الدين : وكانت صادقـة كل الصدق ، فقـد أبرزت أنوثتهـا في صدق العاطفـة ورقـــــــة الأحساس ، وجمال الوجدان وأستجابة للطبيعة ..!!
كان تعليم المرأة فيما سبق من العصور من المحذورات ومن المحضور عليهــا بفتح البوابات المقفلـة ، إذ يجلب لعائلتها الخزي والعار ( كما كانوا يعتقدون ) فقد يجرها إلى بلاء أشد وأعتى .. وقد يكون خروجا” على التقاليد والعادات الموروثة وتمزيق جدارها والأنفتاح على عالم آخر تبحث فيه المرأة عن ضالتها في التحرر على طاولة العلم والأدب والثقافة ولما يهمها ويهم مجتمعهــا ، فكانت المرأة تُعامل على أنهــا ليست من البشر ، ولم تمر حضارة ٌ من الحضارات الغابرة والمتأخرة إلاّ ولاقت فيها أسوأ الحيــــاة ومرّ العشرة، إذ كان الرجل ينظر إلى زوجتـه على أنهــا خادمة وليس لها حق الأختيار حتى في ملبسها الذي تلبس، إلاّ أن اللوائح الأنسانية ، أخذت على عاتقها تغيير خصوصيتها وأعطتها هويتهــــا الذاتية فكريا” وأجتماعيا” وأخلاقيا” وسلوكا، طالما هي الجذر الحقيقي والمصب الدائم والنقي في الحياة … تتعلم وتُعلم وتُربي وتدرب وتنشيء الأجيال بأستعداد عالٍ وتطلع ومثابرة في صبر وثبات … فهي حسب تركيبها الفسيولوجي وتطلعاتها الأنسانيـــة، لم تكن قادرة على أن تفي في حقيقة ما تكتب، لأنهـا لم تستطع أن تواكب الخصوصية الأجتماعية والفكرية كما هو في الميادين الذكورية ؛ أنها تكتب من داخل القبو الذي به تعيش وتمارس فيه حياتها إن كانت في ســلب أو أيجاب وتقبل أو عدم تقبل الآخرين ، فقد تتخيل مضامين أجتماعية وأنسانية ، لكنها لم تستطع أن تكتب فيمايحدث في ساحات الحروب أنها تنطلق من البيت أو المدرســـة أو الدائرة التي تعمل بها ، لكنها لم تستطع أن تتوسع في خصوصية شــاملة في تحريك الأحداث ، إذ يتطلب سعة أطلاع والتعرف على محيط المجتمع وظروفه التاريخية والسياسية وحتى الجغرافية ، طالما تكون حدود المنطلقات الآنية منهــــا أو عميقة الجذر .. أسيرة العاطفة أو في الحب والكره ..
المرأة الأديبة كتبت الرواية الشاملة في ( الحرب مثلا” من خلال سـماعها أو من خلال ما تجره من ويلاتها وكوارثها قد تظهر في قريتها أو مدينتها أو ريفهـــا … هناك قصص تحكي عمّـا خلفتــه الحروب ، كزواج الأخ من زوجة أخيـه بعد أن يتأكد من أسره أو أستشهاده ،لكنه يصطدم حينما يعود من أسـره والشهيد لم يكن شهيدا”، و من هنا تبدأ المأساة .. فمثلا” أعطت المرأة في الروايـــة صدقا” ينبع من عاطفتها ، لأنها تجيد هذا النوع من الكتابة لما تملكه من أحاسيس ومشاعر وآلام وأفراح ، على أنّ هناك أختلاف في الرؤية بينها وبين الرجل حيث أنهـا تخضع لمفهوم الذات ، أي أن هناك الذات في سياق الأدراك والذات في سياق التأمل والذات في سياق التفاعل ، فالمرأة حينمــا تكتب عن الحرب قد تنفعل بعض الشيء من مشاهد وصور مثيرة ومؤلمة ، أي أنّ هناك صيغ وتكهنات يحسن بها أن تولي بالغ الدقة والأهتمام في تسلسل زمني أو مكاني للأحداث وأن لا تعطي فرصة مؤاتية كي تقف على طبيعة لم تستطع أن ترتادها رغم تناول معظم الروايات التي أعطت نتائجها الجيدة للمرأة الروائية في موضوعاتها المتشعبة كحالات مرض رب العائلة والرذيلة والحب والجمال والمرأة المخدوعــــة أو الطلاق وعنف الرجال أو عنف النساء على حد سواء ، أو تأخذ موضوعات في الحزن والفرح والفاقة والعوز ؛ وقد أخذت موضوعات الحرب ، مأخذ الجد في الكتابة أما قصة قصيرة أو رواية ذات النفس الجريء ، وفي كتابات المرأة فأنها تنظر إلى الرجل كنموذج للخير
والشر ونوايا الوعظ والدين كما نجد أنها تميل في رؤية فلسفية وحياتيــــــة تتناول الأنسان العراقي في محاور العلم والأستقراء هذا فيما آل عليه من أنطباع في تقدم وتيرة التطور والعمق الذي تمتاز به المرأة في كتاباتهــــا عقب ما أفرزته الحروب من ويلاتها وموات البشر وحرق الأرض وهلاك الحيوان ، ففي رواية ( حب في زمن الحرب ) لأيناس البدران ورواية ( الليل والزمان ) لبديعة أمين وروايـة ( نصف للقذيفة ) لسمية الشيباني و( قيامة بغداد ) لعاليــــة طالب ، هذه الروايات لم تعطِ التعابير الكاملة لما كانت تقدمه الحرب من صور أمتلاء الأرض بويلاتهـا وكوارثها ..وقد أستطاعت المرأة أن تتحاور مع نفسها بذائقة جمالية غير محددة من خلال حصيلة أرث ثقافي بلغة سردية متمكنة ، إذ أنها جسدت ما تودُّ قوله من عمق طبيعتها العاطفية وفي الأمومة أيضا” بالكتابة في نصوص بلغة تتضمن أجواء شاعرية كثيفة ، طالما أصبحت اللغة الشعرية مظهرا” في الحداثة الروائيــة ، ويسرني أن أضع يدي بيد الشاعرة والروائية الست بلقيس خالد في روايتها ( كائنات البن ) إذ نقلت القارىء إلى أجواء محسوسة وبلغــة شعريــة مكثفة .. في ثورة في النفور والتلاقي تتبعها حركة شاملة ودائمية ، ويمكننا القول بأنّ لغتها تبرز منها مجموعة أتجاهات تختلف في واقعيتها ، منشغلة برمزيتها ، قد تستند إلى أتجاه حاد في العبيثة …
وفي تجربة الدكتورة أخلاص باقر النجار نجد تجسيدا” مبدعا” لواقعنا في روايتها الطويلة جدا” ( رسائل بأنامل القدر ) التي كأنها تحاكي رواية ( جيل القدر ) لمطاع صفدي ..فيشملها التحليل الحياتي والنفسي للأنسان محاولة تجسيم الحيـــــاة العادية والمترفة حتى المعقدة منها في القرى أو في المدن ، لكن الأحداث كانت فيها متسارعة وفي أحايين أخرى بطيئة الحركة مما تقف الرواية على مفترق طرق من حيث الصياغة والأسلوب ، إنّ ما بين رصاصة في الرأس وروايــة ( أنامل بأنامل القدر ) تطور واضح في أسلوب معتدل وإن كانت شخصياتها تتحكم أو تتحدث في مصيرها وبما يحيطها بغلاف أطلالة صادقة ومعبرة عن واقع طفح فيه كل شــيء بقدر .. فالرواية التسجيلية منبه آخر يعطي دفعا” أو زخما” لتلبية مطامح جديـــــدة معبأة بالحوارات الفكرية والأجتماعية أو حتى السياسية ..
وفي ســبر سطور لـ ( قصص أمرأة متحررة ) للكاتبة خلود بنـاي البصري وجدتُ نفسي لن أتخطى محاكاتها للحياة بنظرات مختلفة في قرار يبتعد عن الذاكرة القديمة ، ففيها الفرح والحزن ، كما نجد الناعية أو الناعبـــة في مجلس عزاء ونجد التأملات ونرقب الغيوم أو أنتظار شروق الشمس وأفول القمر وحينمـا يأتي فجر النهار تبرز قصص لمباريات وحكايات تجسد درجة الأنواء في مشتبه الأجواء والحرية لأمرأة قد تتحرر أو أنها تعود إلى حالتها الظرفية في ضيق قرابين العبودية ..