تعد الرواية جنسا أدبيا له وظيفة فنية وجمالية، يقدم عبره المبدعُ العالمَ وفق رؤيته التي يشكلها إبداعيا وحسب ما يمتاحه من الواقع الإنساني وقضاياه وما يطرأ على العالم من تحولات شتى تعالجها موضوعات النص الروائي وتستميل المتلقي للتفاعل معها لأنها تعبر عن الشواغل الذاتية والجماعية من خلال خطابها المؤثر في عاطفة المتلقي، هذا الخطاب الذي لا يخلو من التصريح بالألم الذي يلازم الذات في بحثها الدائم عن خلاص. ومن هذا المنطلق تتناول هذه القراءة ثنائية الألم والأمل في رواية «رجال العتمة» للأديبة حليمة الإسماعيلي، باعتبار الألم سمة أساسية في هذا المنجز الروائي. وتجدر الإشارة إلى أن رواية «رجال العتمة» صدرت عام 2017، وتقع في 234 صفحة.
1. الألم قِوام الحياة
يمكننا أن نقرأ رواية بمتعة الفرح، لكن هل يمكننا أن نقرأها بمتعة الألم؟
الألم سبيل إلى المتعة لدى المتلقي حين يستشرف من خلال النص أملا يحمي شعلة الحياة من الخمود. متعة السعادة لا تتحقق من دون جرعات ومساحات من الألم والمعاناة، والسرد الروائي الذي يشكل الألم مركزيته، لا يخلو من بث بقعة ضوء (فرح) وسط عتمة الحزن والألم المسيطر على العالم الروائي، هذا الضوء الضئيل والخافت هو ما يجعل المتلقي يؤسس أفق توقعه، ويستشرف فسحة أمل تبعث انفراجا في نفسه وضياء يقنعه بأن الشخصية السردية مقبلة بقوة (مهما الضيق) على الحياة، فكل ما يأتي بعد الضيق والألم يعد (بعد التجربة) ممتعا وساحرا لأنه ولد من رحم المعاناة، وهذا هو شأن الكتابة الأدبية أو كتابة الألم؛ جعل الألم أساس الأنا، كما يقول ميلان كونديرا، «أنا أتألم إذن أنا موجود»، وهو شأن التلقي أيضا، أي تلقي النص الإبداعي بالمتعة التي تأتي بعد انكشاف غمامة الألم. ولا يعرف المتعة من لم يتألم.
والحياة سمتها الأساسية “الألم”، يتولد عن صيرورة العالم وتحولاته السريعة، فيؤثر تأثيرا بليغا في الوجود الإنساني وسيرورته، ويؤثر في السعي النبيل للإنسان، نحو حقه من الحرية والكرامة والحفاظ على أمنه وضميره وحياته الشخصية، وكما يقول فريدريك نيتشه: «إن الألم قوام الحياة، ولا يعرف الحياة من لا يعرف الألم»(1)، وعلى أساس ذلك يعد الألم موضوعة أساسية في رواية “رجال العتمة”، هذه الرواية التي أضفت كاتبها على عنوانها سمة الحزن من خلال كلمة “العتمة”: عتمة الألم/الغموض/الانعزال. تقوم الروائية حليمة الإسماعيلي بتسريد شعور الألم واعتماده موضُوعا للكِتَابَة في شكل أدبي وفني يعكس ما هو ذاتي ونفسي ويجعل منه موضُوعا فنّيا وجماليا. ومن خلال الشخصية المحورية إيمان، تتجسد معاناة الألم، بفعل ما تحتفظ به ذاكرتها من حزن عميق يجذبها إلى الماضي، وهي ذاكرة مؤلمة ترتبط بأشخاص ينتمون إلى دائرة حياة إيمان؛ (والدها المتوفي) حيث تقول: «يؤلمني الأمر جدا حين أذكرك أبي، أذكر الأشياء التي لم أحدثك عنها، التي لم تبح لي بها، هل رحلت حقا؟»(2). وترتبط ذاكرتها بهجرة صديقها أحمد، ابن مدينتها “جرادة”، تقول عنه: «كانت تجمعنا مشاعر كثيرة، كان يجمعنا توهج الأحلام المشتركة وتشابك الأفكار»(3). بيد أن الزمن وظروف الحياة باعدت بينهما ومضى كل إلى غايته؛ انتقلت هي إلى مراكش، وهو هاجر إلى خارج الوطن.
كما نجد أن هناك ذاكرة ألم ترتبط بالمكان، وهي (جرادة) التي تعد فضاء مؤلما يؤثر في نفسية إيمان بما عاشته هناك من وجع، لهذا تصف هذه المدينة بـ«المدينة المعتمة»(4)، أو «جرادة المفجوعة»(5). وتقول: «هكذا هي جرادة مدينة تقتل أبناءها ثم تبكي عليهم في جنازة من الجحيم الأسود ونعيق الغربان»(6). هي صورة قاتمة، موجعة إلى درجة سيطرتها على واقع وذاكرة وخيال الشخصية.
إن هذه الذاكرة المحملة بالألم، ألم الفقد، وألم الفراق، وألم المعاناة، أدخلت الشخصية في حالة اغتراب، وفقدان شهية الحياة، بحيث لم يعد للأشياء معنى، تقول: «ما الذي يجعل المناسبات الآن باردة؟ ما الذي يجعل اللهفة تموت في قلوبنا، ما الذي يجعل الفرح يكيد لنا حتى في مثل هذه المناسبات فنتفقد خساراتنا أكثر من أن نتفقد أحلامنا؟»(7). إنه ما يماثل الإحساس بالضياع في حاضر يؤثر فيه الماضي بشتى صوره الأليمة.
ومن تجليات الذاكرة المحملة بالألم، نجد في رسالة أحمد إلى إيمان ما يعزز ذلك، حين يتحدث عن اعتقاله، بسبب الاحتجاج على وضع مدينتهم جرادة: «كيف لي أن أنسى تلك الزنزانة التي لم أكن أميّز فيها ليلي من نهاري؟»(8). كما أن مدينة جرادة في تصوره فضاء يرتبط بذاكرة الألم (اعتقالات، وفاة والده..)، بحيث يصفها في رسالة أخرى لإيمان: «قهرتني جرادة منذ ولادتي بها والحزن ينز من قلبي لفرط نكباتها وفجائعها (..) وصلت بعدها إلى استنتاج راسخ أن مدينتي مدينة للدفن وليست للعيش بقيت فكرتي هذه تحاصرني حتى بعد إغلاق المناجم وحين أصبحت مقبرة لجثمان والدي أيقنت أن استنتاجي كان حقيقة»(9). إن هذا الوضع وهذه الحالة تحول الشخصية إلى كائن «عاجز عن المجابهة. تبدو له الأمور وكأن هناك باستمرار انعداما في التكافؤ بين قوته وقوة الظواهر التي يتعامل معها. وبالتالي فهو معظم الأحيان يجد نفسه في وضعية المغلوب على أمره. يفتقد الطابع الاقتحامي في السلوك، (…) وبذلك يفقد موقفه العام من الحياة»(10). ولهذا فشخصية إيمان ظلت تعيش بذاكرة مؤلمة كإسفنجة امتصت أوجاع الحياة الصعبة، لا ترى من خلالها إلا حزنها الأليم، ذاكرة تصور لها كوابيسَ، أبطالُها أناس تعرفهم غابوا عن حياتها. أدخلتها هذه الحالة في اكتئاب طويل، تعالجه بعقاقير ضد القلق والاكتئاب، إلى أن تعرفت على زياد (رسام فلسطيني/دكتوراه في علم النفس)، فحاولت أن تهتدي «إلى لباس بلا ذاكرة»(11). أو إلى سبيل آخر ينفصل عمّا اختزنته ذاكرتها من أوجاع، حاولت أن تعرف سبيلا يفتح شهيتها للحياة، وتمنح ذاتها عنفوانها، وزياد نور انتشلها من عتمتها: «كدت أقول له: أنت نور، أضاءني، قبل أن يحيطني بكليته»(12).
إن حب إيمان لزياد جعلها تخرج إلى نور الحياة، وتنتقل من ألم الذاكرة إلى ألم مكابدة لواعج الحب، هذا الألم العاطفي الذي ينبعث في القلب حين ينبض للمحبوب، وألم الحب يرتبط بالطرف الآخر وبمستوى علاقته. وعلاقة زياد بإيمان كانت شبه غائمة، لأنه يلف نفسه ببعض الغموض، لهذا تشعر إيمان بأن زياد واحد من رجال العتمة، خاصة وأنه لم يحك لها في البداية عن كل تفاصيل حياته، لهذا فحين يغيب يتركها في عذاب مؤلم، وتتأرجح مشاعرها ما بين اليقين والشك، تقول: «نقرات الوقت في غيابك أسمعها رتيبة كل ليلة على جسد الكون المسجى في عتمته، وروحي لا تستوعب الإنصات، تتلبسني غربة الأشياء تأكل قلبي كصمت الأسرار وأنت كعادتك تتركني وحدي قبالة قلبي المثقل بالهم، وفي فمي صرخة بحجم الصدى»(13). تتألم إيمان من أجل حب لا تعلم كيف انجذبت نحوه، وهي تقول في رسالة إليه عبر الفيسبوك: «أنا ابنة المصادفة التي جعلتني في طريقك أنا ابنة الحاجة واليتم القديم الذي لم يقاوم غوايتك أنا ابنة العتمة التي لم تصدق ومضة نور وضعتها في دربي (..) أنا التي لا حقيقة لي إلا أنت»(14).
إنه حب منحها معنى الحياة، تعيش متعته وتتألم من قسوته، بسبب غموض زياد واختفائه المتكرر، تسبب لها في توترات وإحساس جارف بالألم وقلق جعلها تارة تشك في حبه لها أو تصف زياد بالشخص اللامبالي والقاسي، وتارة تلعن زمن لقائهما، خاصة بعد سفره إلى فلسطين/غزة وانقطاع أخباره مدة طويلة، تلك المدة كانت قاسية، وكفيلة أن تعيش فيها حالة من الألم والحزن والقلق والشك في أن يكون زياد نسيها أو استشهد بسبب أحداث غزة، لكنه عندما عاد إلى التواصل معها، واطمئنانها عليه، سرعان ما تسبب في تحطيم قلبها من جديد بعد اعترافه لها أنه متزوج وأب لطفل. اعتراف أشرع أمامها بابا آخر يفضي إلى الوجع، وجع خيبة أمل سببها رجل احتل وجدانها ثم كسر مشاعر قلبها.
كما نجد أن أخبار غزة التي كانت تحت القصف، تسبب لها وجعا آخر، تقول: «صباح الوجع يا غزة، صباح النبض الذي يرجف تحت وقع الحرب التي فغرت فاها بشراهة (…) صباح الوجع يا بلادا لا ينام فيها حتى الشهداء»(15). وهذا الوجع الجماعي رغم أنه يتجسد ذاتيا في النص من خلال إيمان وزياد، لكنه يكشف مستوى انشغال المغاربة بهمّ القضية الفلسطينية، وبمستوى متابعتهم لكل حدث جديد بقلوب يعتصرها الألم.
2. الأمل ورغبة الحياة
في عتمة هذا الألم تنبثق بعض نجوم الأمل وقليل من الفرح الذي يبعث في نفوس الشخصيات الرغبة في الحياة. كل شخصية في الرواية توجهت إلى حيث تجد ذاتها، فإن كان أحمد اختار الكتابة ليشعر أنه حي وأن عقله لم يشل بعد، وأن قلبه لم يتوقف بعد، فلأنه يبحث عما يبدد عنه حزنه وألمه المستمر. أما إيمان فقد علمها زياد كيف تحب الحياة، وتنفصل عن ألم الماضي، وتعشق الفن والجمال، حتى تعبر عن حياتها بالسعادة، وتجد نفسها التي تبحث عنها، شجعها بذلك على الإبداع في الرسم، وساعدها حب زياد أن تعيش الحب والحياة والفن وتستمتع بالجمال عبر الفضاءات والأمكنة خاصة بالصويرة: «كنا مبهورين بالجمال الذي يطل من كل زاوية كما لو أن هذه المدينة لوحة كبيرة من لونين الأبيض والأزرق»(16).
إن الأمل يتجلى في قدرة الشخصية إيمان على الحلم، والتخيل، فحين يشتد الألم يصبح الحلم فضاء آخر للحياة والتعبير عن الصراع النفسي: «هكذا دوما أحلم وأنا جالسة أتخيل أشخاصا أحدثهم أو أواصل حديثا لم أكمله في الواقع مع أحدهم»(17).
ولإبراز جدلية الأمل والألم فقد جاء في كلام الشخصية (إيمان) إلى زياد: «هكذا أهديتني قطعة حلم نصفها أمل ونصفها الآخر ألم»(18). بما يعني أن الحياة بلا أمل لا معنى لها، بل هي نهاية حتمية تنتهي فيها كل قيم الحياة، والأمل بقعة ضوء في العتمة، تحتاج من الإنسان أن يرى نور إيمانه في قلبه، حتى لو كانت عيناه لا ترى حوله إلا الظلام، وخير مثال هو “نجيب” الشخصية التي تمثل رجلا آخر من رجال العتمة؛ فرغم أنه كفيف استطاع أن يبني ذاته «بالعلم الذي أنار في روحه أضواء العالم، والشعر الذي أوقد في قلبه الجرأة ليعشق»(19)، ثم ليتزوج الفتاة التي أحبها وأحبته.
ومن تجليات الأمل في الرواية كذلك؛ تلك الرسالة التي ختمت بها الروائية روايتها، رسالة أحمد إلى إيمان يخبرها أنه بعد ساعة سيكون بمطار مراكش. وهذه النهاية أزعم أنها بداية لتجربة حب أخرى عند إيمان، بعدما أنهكتها تجربة حب زياد، كبقعة ضوء برزت ثم خبت. ولا يمكن اعتبار حب أحمد جديدا لأنه كان متخفيا في علاقة تعتبر فوق الصداقة لم تكشف مشاعرها إلا مسافات البعد، وكما جاء في الرواية «الحب قنديل في جوف العتمة»(20) يختار الوقت الذي يبلِّغ فيه نوره، ولكل شخص عتمته التي يسعى إلى أن يضيئها. والذات المتألمة هي التي تدرك حقيقة الأمل.
أعتقد أن النهاية تستشرف مسارا آخر في حياة إيمان، وتستشرف بقعة ضوء جديدة، بعدما خبت بقعة الضوء التي شكلها زياد، وترك المجال لسلطة العتمة تستبد من جديد بحياتها. وحب أحمد قنديل أمل متجدد، لأن الحياة من غير أمل لا تعد حياة ذات معنى.
خاتمة
من خلال ما سبق، نخلص إلى أن الألم أسهم بصورة عميقة في إنتاج نص رواية «رجال العتمة»، لأن جوهره الألم بكل تجلياته ودلالاته وأبعاده النفسية، كما أن هذه الموضوعة تبنت من خلالها الروائية رؤيتها للعالم وتحولاته الاجتماعية والقيمية والسياسية، واستطاعت روايتها أن تجمع بين ثنائية الألم والأمل، والفرح والحزن، الخوف والاطمئنان، وثنائية الماضي والحاضر، وثنائية العتمة والنور، وثنائية القبح والجمال، الشك واليقين، الصمت والكلام، الموت والحياة… وهي ثنائيات ضدية تشكل عالم الرواية وتبني متخيلها السردي وتبث فاعليتها في جسد النص، فوجود النقيض دائما ما يحدث تفاعلا يبرز من خلاله الصراع الداخلي والخارجي وهو ما يؤسس نصا شهيا، كتبته الأديبة حليمة الإسماعيلي بوعي حقيقي، وبفلسفة وفكر متقد، وبلغة شعرية رشيقة وماتعة تسعى إلى كشف حجب الذات عند الشخصيات وتعتمد على الاستعارة والمجاز والرمز وهو ما يحدث إشباعا ذوقيا لدى الملتقي ويمتعه ويمنحه فسحة لبناء تصوراته وإيحاءاته عبر تمثل شعرية الألم كسمة أساسية للخطاب الأدبي في هذه الرواية.
الهامش:
1. عز الدين المعتصم: الخطاب السردي بين فعل الإبداع ولذة التلقي مقاربة في التجربة الإبداعية للقاص محمد الشايب، الراصد الوطني للنشر والقراءة، طنجة، 2022، ص: 17
2. حليمة الإسماعيلي: رواية رجال العتمة، ص: 10
3. رجال العتمة، ص: 13
4. نفسه، ص: 7
5. نفسه، ص: 8
6. نفسه، ص: 10
7. نفسه، ص: 18
8. نفسه، ص: 31
9. نفسه، ص: 141
10. نفسه، ص: 45
11. نفسه، ص: 60
12. نفسه، ص: 62
13. نفسه، ص: 116
14. نفسه، ص: 190
15. نفسه، ص: 194
16. نفسه، ص: 149
17. نفسه، ص: 198
18. نفسه، ص: 205
19. نفسه، ص: 208
20. نفسه، ص: 208