الشعر ضرورة أونطولوجية،وغليان روحي نرى في مرآته التباسات الوجود،وإكراهات الحياة وانجراحاتها.ولذلك لا نستطيع الفكاك منه،حتى و لو كنا لا نعرف بوجوده السريِّ في دواخلنا،ولا ندرك مدى قيمته في إطعام نفوسنا شحنة عالية من القوة الروحية تجعلنا نمارس الحياة؛ بغبطة وشهوة ؛في لهيب الإحباطات،وشراسة بعض كائناتها.
فهو أشبه بفانوس ديوجين في ظهيرة العمى،وعماء البصيرة ،يقينا سقطات الفكر والوجدان قبل عثرات الألسنة والأقدام ،ومن ثمة ننحاز إليه ،وندمنه كما ندمن تنفس الهواء الأنقى،لكونه الخطوة التي تجعل ممارسة العيش أحلى وأندى، وتجعلنا لا نرضَى لأنفسنا أن تجلس على كراسي السياسة بزهو العُتاة،وشبق الطواويس،ولا نحبِّذُ لها أن تدخل في متاهة يتحرك فيها المكر بملايين الأقنعة الماسخة.تكفينا الإحباطات والانجراحات التي ملأنا بها هذا الواقع السياسي العربي الذي تحكمه اللاعقلانية، ويرعَى فيه الذُّلُّ المُتأَنِّقُ تحت مظلة الجبروت.فما يجري فيه اليوم هو أبشع من الفظاعة التي عبَّر عنها الشاعر العربي الراحل عبد الله البردوني بقوله:
فَظِيعٌ أَمْرُ مَا يَجْرِي
وَاَفْظَعُ مِنْهُ أَنْ تَدْرِي
وعبرت عنه الشاعرة عائشة الخضر لونا أبلغ تعبير وأفجعه حين قالت في هذا الديوان:
في وطني
يشرد الحبر ذاهلا
لتُكتَب الملاحم بالدماء.
أما مشهده الثقافي فهو مشهد الأمل الدامي،ومشهد الروح التي تنهض من تحت الأنقاض لترتيب فوضى هذا الوجود الشبيه بالتشظي (=الْكَاوْسْ chaos).فنحن لا يَردُّنا من بيداء اليأس،ويُضيءُ أرواحَنا في ظلام العيش سوى الشعر،فهو المِلح الذي لا يفسد إذا فسدت كل الأشياء التي راهنَّا عليها،وهو نبتةُ الوجود حين يستشري العدم.
وأكيد أن هذا الشعر الذي كتبته الشاعرة عائشة لونا بمداد روحها سينقل لك نبض هذا كله،وعطره وضوءه،وسيجعل مخيلتك ترتاض في رياض استعاراته العالية النضج،وتشرب من مائه الشبم ما شاء عطشها،وتراقص بديع صوره بعشق جنوني لا يُملُّ ولا يفتُر.فهو مَكنَز من مكانز الشعرية العربية المعاصرة المنسوجة بالنثر،تأخذ بلبك الشعري بلاغةُ التكثيف في بنية تعبيره،وقوةُ التضفير في مشاهد صوره ولوحاته،حتى لتحسبنَّك قد دخلت في مجرة جمالية يتمازج فيها الشعر مع السرد على خيط نور يفتله إيقاع سريٌّ:
وأنا أحمل الليل على كاهلي
أراه،وأستثقله..ولا يراني
كوَّمتُه بزاوية موقد فحمي
وأشعلته قطعة..قطعة
وبددت تلك العتمة بوهجه
…منذ ذلك الحلم
…عندما قطفت تلك النجمة
وأنا أستمع إلى كورال المؤذنين
يمسحون العتمة…بفرشاة نور.
فأنت هنا تقرأ وتشاهد شريطا سينمائيا ،محبوك الإخراج،اكتملت عناصره الفنية والجمالية ،من حيث السرد والحبكة،والتصوير والتأثير والإدهاش، لا تحملك مشاهده إلا إلى حضارة عربية موغلة في البهاء،
فالشعر بالنسبة للشاعرة عائشة الخضر لونا سؤال عن عينٍ، سكَن في نظرتها بحرُ الوجود ،وعن جسدٍ لم يتملَّ المشهد من سطحه،وإنما مما وراءه،ومما وراء الأشياء التي فقدت فيها الجرأة حقوقها.فهو حفرٌ فيما لا تعرفه ال(أنا) وال(نحن) و(الآخر)،وفيما يتناءى عن الذاكرة،بمعنى أنه فتحٌ لأفق غير مرئي من قبل، يستطيع فيه المتلقي أن يتغلب بسهولة على إحساسه بالخطإ أكثر مما يتغلب على آلامه وانجراحاته في الوجود.
فنحن لا نأنف من الوجود إلا إذا كان وجودا تحت مظلة الجبروت.ووجودنا حاليا هو في وضعية مُقرفة وكئيبة،مُرعبةٍ ودامسة،مُقلقة ومُفزعة في الآن ذاته، يتموقع في فوهات البراكين ،ولا يساعدنا على فهمه وإنقاذه إلا مثل هذا الشعر ،فبواسطته،وعن طريقه نكتشف أن البهيميَّة الإنسانية القديمة، بل جملةَ الأزمات الأصيلة، وكوابحَ الماضي، ما تزال تتربَّص بنا، وتهددنا بتقويض كينونتا ككائنات حسَّاسةٍ،متهَوِّسةٍ بأعالي الطمأنينة الخلاقة:
حين يرنُّ اسمك
تتلاصق الغيمات بدفء
تتجمع الأسماك مهرولة
ويذوب خد الثلج باشتهاء،
حين يرن اسمك
تتطاول أعناق النعمان.
فالفرح بالطمأنينة هو فرح بالزمن في انسياله المبهج كالضوء ،المعشب بالحضور المطمئن:
أيها الحاضر دوما
سلاما لغدك،وأمسك،وضحاك
ولكن قطرة السلام هاته ما يلبث اللهب أن يبتلعها كوحش لا يفرحه إلا الغياب:
منذ كنا قطرة وَجدٍ
عُجنتْ بعبقِ صلصالٍ
وأنت تحترف الغياب.
ولا يجعلنا نحترف الغياب إلا هذا الوجود المكفهرُّ الذي لا تشرق فيه شمس مَحبة، ولا تنبت فيه زهرةُ بسمة،فالدم يلبس الخرائط:
كمنجات تسبح في مياه زرقاء
وهديل حمامات
يعرش على المآذن
وذاك الأقحوان
أصبح لونه أحمر
وفجأة
أقفزلأرتطم بك
وبالكاد نسمع:سقطت هنا قذيفة.
هكذا تُصور الشاعرة الواقع المفروض علينا في هذا الزمن بريشة فجائعية،فنخال أننا داخل كهف مضاء بالكوابيس،لا نتنفس فيه غير الدم.أليست هذه هي بلاغة الشعر العليا؟ فنحن لا نقرأ الشعرَ لنُحسَّ بالمتعةِ التي تُشبهُ ذوبانَ الذاتِ في بحرِ النِّرفانا،بل نقرأه لنرى العالمَ في جوانيتنا يَحلُم بما نحلمُ به،ويرقص له وكأنه يصلي صلاةَ عِشقٍ لانهائي.وفِعلُ (رأى)هنا يقطع الحبل السري الذي يربطه بالمعجم ،ويلتصق بحبل سُري آخر ممتدٍّ من سرة الرؤيا المستدرِجة رُؤى كل الرائين ،مرورا بالرائي الأول جلجامش إلى آخر راءٍ في التوّ واللحظة،حيث عوالمُ الحلم ،وعوالم المجهول تشفُّ وتكشف عن جزءٍ من ماهيتها في هذا الديوان ،وتضفي عليه ظلالا تفوق ما يعتبرهُ النقد ظلالَ المعنى.
إن الشعر حقا هو الذي يحقق لنا هذه الرؤية..رؤية العالم في دواخلنا يحلم بحلمنا،وحلمُنا ما هو إلا امرأة عاشقةٌ صاعقةُ الجمال،تقتبس منها الطبيعة فتنتَها،وتتوحد معها،فإذا العالم حلمٌ تحلم به كل أنثى ،كما يحلم به كل شاعر افترست الرؤية عينيه.
ونكاد نجزم بأن المتلقي حين يعانق هذا المتن الشعري للشاعرة عائشة سينسلخ عن ذاته، ،لكونه سيعتبرها داخلةً إلى حقلٍ من التأملات الجمالية والفنية والفكرية والروحية والإيقاعية، يستوجب الإصغاءَ بما فوق الحواسِّ لإدراك أسرار مغانيه ومجاليه ، وبذلك ستظهر له فيه صاحبته متعددة،ومؤسسة لمعرفة جديدة نقيضةٍ للمعارف القائمة على حقائق نهائية ،تكفُل له معانقة الوجود والتمتع به، وتُشعره بأنه بالشعر وفيه يحيا.
ونعتقد فنيّاً وجماليا أن هذا الديوان قد حقق هذا الشعور بروح عالية ،وجعلنا نتعرف على ذاتنا ،ونتأملها بفلسفة الرضا ، لا بفلسفة الرفض والانسحاب منها. فكل شعر حبَّب لك رفضَ ذاتك ،فانسحبْ منه ،واعلمْ أنه ليس سوى من قبيل”فن اللفظ” الدارج والمبذول ،الشبيهِ بقناع السراب،لا من قبيل”فن المعنى” المأمول الذي يسقي استقامتك الروحية،ويصقل إنسانيتك،ويضعك في مدار القيم الكونية التي لا تتقنع بالوهم المقنَّع بالعقل المتنور.