تقديم
تعد رواية «رائحة الموت»(1) للروائية ليلى مهيدرة، منجزا سرديا ينم عن تجربة الكاتبة الإبداعية، حيث تكشف خلاله مدى التزامها بقضايا الإنسان الوجودية والوطنية والعربية. وقد صدرت الرواية عن مؤسسة الرحاب الحديثة بلبنان سنة 2018، وتقع في 158 صفحة من الحجم المتوسط، ويتوسط غلافها لوحة تشكيلية للفنان المغربي محمد سعود.
وسعت الكاتبة ضمن عملها السردي إلى عرض تجربة إنسانية تقوم على استعادة للذاكرة (فردية وجماعية)، عبر إلقاء الضوء على شخصية روائية (ذات أبعاد رمزية) تعيش في حيرة نفسية وقلق وجودي، ناتج عن صراع في سياق بحث عن الكينونة والمعنى، وداخل مضمار تؤثر فيه حركة الزمن وصيرورته، دون قدرة الشخصية على الانفصال عن الماضي الذي يشكل بالنسبة لها عبئا ثقيلا يحمل في طياته دلالة رمزية، مما يثير لدى القارئ/المتلقي أسئلة مشروعة يحاول أن يتبنى وجودها بناء على علاقته بالنص وبناء على المسافة التي تتأسس بينهما والتي تتجلى فيها الافتراضات والتصورات وذلك قصد خلق اتصال بينه وبين المتن السردي. ومن هذا المنطلق تسعى هذه الدراسة إلى مقاربة متن «رائحة الموت» وذلك من خلال تقديم قراءة في العتبات النصية، كما تقوم بكشف البنية الزمنية لهذا العمل السردي وكيفية اشتغال عناصرها.
أولا: قراءة في العتبات النصية
إننا إذ نؤمن بأن المتلقي شريك أساسي في بناء دلالة النص أو إنتاجها، على اعتبار أنه المعني بالاستقبال، فلا بد أن ننتبه إلى كل ما يحتك به -هذا المتلقي-من علامات نصية أو أيقونية تخص كل ما ورد محيطا بالكتاب، باعتبارها وسائط تؤدي وظيفتها التداولية، كما أنها تعتبر مدخلا مهما من المداخل التي تُشرع أبوابها للولوج إلى النص الأدبي. فهي ترتبط بالمتن بعلاقة جدلية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. وقد اهتم الناقد الفرنسي جيرار جنيت بهذه العتبات المحيطة بالكتاب، و«سبق في دراسته القيمة (عتبات) أن حدد جملة من الضوابط كأسماء المؤلفين، المقدمات، العناوين، الإهداءات، العناوين المتخللة، الحوارات، الاستجوابات، وغيرها باعتبارها عتبات لها سياقات توظيفية تاريخية ونصية، ووظائف تأليفية تختزل جانبا مركزيا من منطق الكتابة»(2). كما تأخذ العتبات وظيفتها المفسرة والمضيئة لجوانب قد تبدو غامضة في النص/المتن، وهناك من يراها تشكل نصا مستقلا له بنيته الخاصة ودلالات متعددة ووظائف.
وسنركز على بعض العتبات النصية في رواية “رائحة الموت”، والتي تتمثل في المؤشرات اللغوية باعتبارها أحد العتبات الكتابية التي تحيط بالمنجز قيد الدراسة وتهيمن عليه، وتستحق أن نحيطها بالدراسة كما لا بد أن نحذَرها كما قال جنيت.
1. العنوان
اختيار العنوان لا يخلو من قصدية كيفما كان جنس النص المطروح، حيث لا توجد هناك اعتباطية في الاختيار أبدا، فالنص – وخاصة الروائي – ينتمي للعنوان كما أن العنوان ينتمي إليه. النص ينتمي إلى العنوان: باعتباره واسما له، ومعيّنا وواصفا وموضحا، ومثبتا ومعلنا عنه. أما أن العنوان ينتمي إلى النص فسنأتي على ذكر ذلك بعد قراءة في البنية النصية لعنوان «رائحة الموت»، الذي يتركب من كلمتين، رائحة/ الموت.
تعد الرائحة شيئا غير مرئي لا يمكن الإمساك به، ولا رؤيته، فهي ما يدرك ويميز بحاسة الشم فقط دون أية وسائط طبيعية أخرى. وحاسة الشم هي أحد وسائل تواصل الإنسان مع عالمه الخارجي المحيط به، وأحد وظائف الجسم التي تلعب دور المستقبل للمؤثرات والتغيرات الصامتة واللامرئية. والرائحة حسب لسان العرب، هي «النسيم طيِّبًا أو نَتْنًا»(3)، ولا يمكن تمييز هذا الفرق إلا بحاسة الشم الحادة واليقظة.
أما الموت؛ فهو مصير حتمي، يقول تعالى: «كل نفس ذائقة الموت»(4)، وهو السكون، كما ورد في لسان العرب، «وكل ما سكن فقد مات»(5) ويشكل القطب الثاني المقابل للحياة، فهما معا يشكلان ثنائية تقابل، قد تفسر بثنائية أخرى تعادلها وهي: السكون والحركة. كما أن من تزول عنه الحياة أو يفقدها يسمى ميتا عاجزا عن الحركة والفعل لأن المحرك الدينامكي الذي يتمثل في الروح ينفصل عن الجسد وتتعطل وظائف أعضائه، ثم تبدأ مراحل التعفن والتلاشي والاضمحلال وهي التي تخص الجسد. وفي بداية هذه المراحل يطلق الجسد الميت (الجثة) رائحة كريهة ونتنة، تدل على التغيرات الجديدة، إذن؛ فالرائحة هي دال على مدلول وهو الموت الذي بدوره لا يدرك إلا من خلال رؤية الجسد قد استسلم للسكون نهائيا، ثم يأتي دور الرائحة كمؤشر يؤكد حدوث هذا الموت وتحققه الفعلي.
هل يتطابق هذا التعريف مع ما ورد في أحداث رواية «رائحة الموت»، أم أن للعنوان بعدا تعريفيا آخر يركن إلى الانزياح، أو له علاقة تربطه بالبعد الإيحائي أكثر من البعد المرجعي؟
إن أحداث الرواية وسياقها يتطابقان من جهة مع العنوان ومع المعنى الذي طرحناه، بعلاقة حرفية وإيحائية، ولا نرى أن هناك تعسفا حين نقيد أنفسنا بمبدأ التأويل خلال قراءة النص، لأن نص هذه الرواية تحديدا قابل لهذا المبدأ بل يدعو إليه بشكل غير مباشر، أو لنقل يفرض التأويل نفسه على القارئ، لأن كل نص يخرج عن حدود المنطق العقلي لا يمكن أبدا استقباله إلا بهذا المبدأ. كما أن هذا العنوان وإن كان يتطابق مع ما قلنا أنفا، فهو بلا شك يحمل قراءة أخرى تتوافق مع المعنى المضمر الجاري مع نسق النص الذي يؤثث صورا لمظاهر رمزية انطلاقا من الأحداث والأماكن والشخصيات وحواراتها ومجموعة من العلامات التي تعبر عن مواقف لها صلة دلالية بالواقع من جوانبه وأبعاده التاريخية والاجتماعية والثقافية، والسوسيولوجية، فالنص خطاب لا يخلو من قصدية مضمرة تحاول الكاتبة ليلى مهيدرة من خلاله أن تلفت انتباه القارئ إلى إشكالية مشتركة لها مرجعيتها في الواقع العربي الواهن، لهذا فاسم الشخصية المحورية “العربي بلقايد”، يؤدي وظيفته الدلالية، فتتجلى صورة الإنسان العربي، حيث يقول السارد: «كم تمنى أن تتقبل شخصيته أن في الحياة بعض موت وفي الموت بعض حياة»(6). الإنسان العربي الذي أصبحت حياته سكونا كما الموت، كأنه تحول إلى “شاهد مقبرة يدل على مكان الموت، تقول شخصية النص: «لماذا يوهموننا أن الموت يأتي بعد أن تضع الحياة نقطة نهايتها، فهل الموت نقيض للحياة أم يتماهى معها؟ (…) أم الموت يرافقنا منذ أول صرخة لنا..»(7). إن الحياة هي القدرة على عيش الإنسان لحياته بالتفاعل معها إيجابيا رغم سلبياتها، وبالنظر إلى المتغيرات المحيطة به، ومحاولة التحرر من أعباء الماضي الثقيل بما يمثله من إخفاقات وانكسارات وأحيانا وصمة عار، وفي الغالب لا يكون هذا الماضي إلا مكبلا يمنع الإنسان في حاضره من الانطلاق نحو المستقبل، ذلك الحاضر الذي يصنعه الإنسان لنفسه لأنه جزء منه ومن اختياراته ومن حياته وجزء من قراراته، إنه الحاضر الذي أشارت إليه الرواية بأنه عاجز عن إنتاج مستقبل أفضل كشخصية العربي بلقايد العاجز عن الإنجاب بسبب فقدانه لعضوه التناسلي في سن طفولته في عملية ختان لم تكن إلا انتقاما طبقه الحجَّام كتصفية لحساب له أبعاد تاريخية، فهذه إشارة ترمز إلى العجز الذي تعيشه شخصية الرواية الميتة بحسب السياق الحكائي، لأنها غير قادرة على التفاعل مع واقعها ولأنها تعيش حاضرا صنعته من موتها، وغير قادرة إلا على استذكار وانتقاد تاريخ مضى وعصر انقضى، مما جعلها لا تعيش إلا في زمن الماضي، لأن أغلب أحداث الرواية استرجاع للماضي. وشخصية النص ميتة من حيث لا تدري لكونها عاجزة عن الإقدام على فعل يغير مسار حياتها الموسومة بموت القدرة، وموت الإدراك، وموت الشعور بالرموز الجمالية، وموت الإحساس بالتغيرات المحيطة بالحياة، وموت القيم المولدة لكرامة الإنسان، موت الحاضر وانبعاث الماضي من رفاته ليتحكم في واقعها… وظلت الشخصية بهذا الوضع واقفة مكانها تراقب في حالة من اليأس والاضطراب. غير مدركة للموت الذي تحمله ولا تريد أن تقرَّ به. ولعل الكاتبة وظفت رمزية الشجرة العجوز التي تتوسط بيت العربي بلقايد الذي ورثه عن جده القايد، وظفتها كرمز للقدرة على تحدي الموت، رغم أن الزمن أناخ بكلكله على كاهلها، فالشجرة مثقلة بعامل الزمن وبالمظالم التي شهدتها إبان فترة الظلم الذي كان يرمز إليه جد العربي، ورغم ذلك رفضت الاستسلام للموت المتربص بها، نقرأ: «شجرة رمادية في كل تفاصيلها، تنبت مع كل عود حكاية جديدة في مقاومة الموت المتربص بها، رافضة الاستسلام له مهما نخرها الرماد، تمارس تمددها ليلا كأفعى زاحفة..»(8). هكذا نلاحظ المقارنة بين شجرة تقاوم في صمود، والعربي العاجز الذي يمثل واقعا عربيا يحمل موتا تكاد رائحته تفوح في كل مكان.
كما يختار عنوان «رائحة الموت» لنفسه نقطة في مركز دائرة الرواية ودائرة التخييل؛ فهو نواة الحكاية، وهو جماع النص وبؤرة تتجه إليها جميع التفسيرات العقلية والمجازية وفق ما حدده النص تفصيلا أو ما أوحى إليه. ويقوم هذا العنوان بجملة من الوظائف من ضمنها الوظيفة الأساسية وهي الإسناد والوصل، لأنه من أهم العناصر التي يتحقق بها الربط المنطقي، وبحسب “جون كوهين” أن النثر سواء كان علميا أو أدبيا يتوفر دائما على عنوان، بخلاف الشعر الذي يقبل الاستغناء عنه و«إذا كانت القصيدة تستغني عن العنوان، فلأنها تفتقر إلى التركيبة التي يكون العنوان تعبيرا عنها»(9). إذن فهو يمثل عتبة تمكن القارئ من الولوج إلى عوالم النص خاصة عندما نجد حضوره وظيفيا ضمن البنية الحكائية لنص الرواية، وهذا يؤكد لنا ما سبق أن أشرنا إليه؛ أن العنوان ينتمي إلى النص وذلك لوروده بعبارتيه الثنائيتين ضمن نص الرواية. ومن هذه الصيغ النصية التي وردت فيها عبارتي العنوان، نذكر على سبيل المثال:
– «أنا هنا حتى أموت، وساعتها قرروا أن تدفنوني أو تتركوني أنشر رائحة الموت بالمكان»(10)
– «فقط ، هو القلق من رائحة الموت المنبعثة من كل تفاصيله اليومية، رائحة تربكه…»(11)
– « رائحة الموت التي تزكم أنفاسه أفقدته القدرة على المقاومة.»(12)
– « غربة موحشة وانقطاع أمان يكشف لي أكثر حين فاحت رائحة الموت من إحدى الغرف، كان هذا أول لقاء لي مع الموت»(13)
– «أنسحب من الفضاء الخارجي وأعود لغرفتي أتكوم بجسدي وقد امتلأ المكان برائحة الموت»(14)
– «كانت همهمات الأرواح المظلومة مسموعة بصوت أعلى هذه الليلة، ورائحة الموت تنبعث من كل ركن من أركان هذا ىالبيت..»(15)
بهذا الشكل وردت صيغة نص العنوان كما هي في عدة مقاطع دون تغيير في بنيتها التركيبية ولا حتى الدلالية، ثم وردت أيضا في مواضع أخرى من فقرات النص منفصلة، كمثل ذكر (الموت) منفصلا عن (الرائحة)، أو عبارة الانتحار الدالة على الموت، نقرأ مثلا:
– « فبعد الموت ليس هناك ما يهم»(16)
– « وأنا أحتاج أن أرى جسدي يبعد الموت»(17)
– « فكل ما حولك محاط بالموت»(18)
– « هواء مختلط برائحة مقززة»(19)
– « فمن يقدم على فعل الانتحار لا يكون عادة بكامل وعيه.. »(20)
– « فهو لم يكن يفكر في الانتحار ولا يملك الشجاعة لذلك»(21)
هناك مقاطع سردية كثيرة لا يسع المكان لذكرها كلِها، لهذا نكتفي بما ذكرنا لنرى من خلاله أن الصيغة النصية للعنوان تمثلت بشكل واضح سواء عبر السرد، أو عبر السياقات التيمية أو عبر الأبعاد الرمزية والدلالة التأويلية، وهذا الاستحضار لا يؤكد فقط سلطة العنوان على النص أو انتماؤهما لبعضهما، بل إنه ارتباط وثيق «بالسياق الحكائي العام المؤطر لنص الرواية»(22).
2. الإهداء
عادة يأتي الإهداء من المؤلف إلى قرائه أو إلى أصدقائه أو أشخاص معينين يحددهم بالاسم أو الصفة، أو إلى جهة ما؛ لأن الإهداء يترجم أحد المعاني لعلاقة حميمة أو وجدانية أو توثيق لميثاق تواصلي بين الكاتب والقارئ، أي ما بين المهدي إلى المهدى إليه أو إليهم.
للإهداء وظائف كثيرة، خاصة وأنه ينتمي بدوره إلى خانة العتبات. وبالنظر إلى صيغة إهداء رواية رائحة الموت، نجد أن الكاتبة كسرت النمط المألوف في صياغته، فهي تقول: «للموت الذي تفوح منا رائحته، حتى في اللحظات الأكثر حياة»(23). ويكشف هذا الإهداء أنه غير موجه إلى جهة ما أو شخص معين بل إلى ذلك الموت الذي قالت إنه تفوح منا رائحته رغم أننا أحياء. إن الإهداء باعتباره نصا يقدم جملة من الوظائف مثله مثل العنوان لا يخلو من قصدية خاصة في اختيار عباراته، ونحن أمام صيغة إهداء نرى أنه يرتبط بالعنوان أولا ثم بالنص ثانيا بعلاقة مباشرة، بل يشكل ترابطا يمنح للقارئ مدخلا آخر من المداخل التي تسمح له أن يصل إلى تفسير النص والتفاعل معه أدبيا وفكريا…
الكاتبة عبر هذا الإهداء تتحدث بصيغة الجمع المتكلم باستخدام ضمير “نحن”، وهذا يعطي للكلام بعدا هاما ومقصودا، فهو أحد فواتح الخطاب الضمني للرواية. لا شك أنه يهيئ المتلقي قبل أن يلج عالم القراءة في النص، كما أنه يتوافق مع السياق العام للرواية، ولا أراه يخرج عن الدائرة التي يؤثثها المعنى الذي تناولناه في تحليلنا للعنوان؛ إذ أن علاقته بالنص علاقة ترابط واتصال، فبهذه الصيغة التي ورد بها لا يمكن أبدا أن نعتبره من الزوائد الهامشية، بل إنه مفتاح مهم في فهم سياق نص “رائحة الموت” وهو احتفاء بالموت، باعتباره تيمة أساسية في النص، وباعتباره عنصرا يندمج في الحياة «حتى في اللحظات الأكثر حياة»؛ أي أن المعنى المواد هو الموت الرمزي.
4. الديباجة
تأتي ديباجة هذا الكتاب مجردة من عنوان يحدد لها اطار التصنيف، لهذا فيمكن أن نقول أنها إشارة أو تنبيه أو لنسميها ما شيئنا مادامت أنها غير معنونة. وهي نص مواز يقع في الصفحة السادسة، يشير إلى أن «الرواية من نسج الواقع وأي تشابه قد يكون مقصودا، فالأحداث حقيقية، قد يختلف المكان، قد يتغير الزمان، ولكنها قد تكون قصة شخص نعرفه ومن يدري لعلك المقصود»(24). هذه الديباجة تضع المتلقي أمام نفسه قبل أن يقرأ الرواية، لهذا فهي واحدة من الوسائط الأكثر دلالة وعمقا من الناحية الإيحائية، بحيث تمارس وظيفة مهمة في استقطاب القارئ أولا، ثم إغراؤه بممارسة فعل القراءة في النص. إنها عتبة لا تقل أهمية عن الإهداء الذي يضع المتلقي أمام إشكالية لا يتم فهمها ولا استيعابها إلا خلال الانتهاء من القراءة والتفاعل مع النص فكريا وحسيا.
تخاطب هذه الديباجة المتلقي بلغة صريحة وحريصة على زعزعة يقينه بأن الرواية ما هي إلا أحداث خيالية كأية رواية أخرى متخيلة، فالخطاب في الأخير موجه إلى المتلقي دون وسيط، بحيث أنه بمجرد أن يقرأ الديباجة يصبح متورطا في مسؤولية استيعاب النص وفهمه والتفاعل معه، لأن النص هنا بحسب هذا الخطاب المتضمن في الديباجة يصبح رسالة موجهة، والرسالة تقتضي القراءة أولا وتقتضي الاستيعاب والإدراك، فهي مسؤولية القارئ هنا، كي يبحث عن علاقته بهذا النص الروائي الذي ورطته الكاتبة فيه انطلاقا من عقد تواصلي ورد ضمنيا في نص الديباجة.
5. التصدير
يقصد بالتصدير ذلك الاقتباس الذي يتصدر الكتاب ويأتي ما بين العنوان والمتن النصي، ويأخذ موقعه كعتبة أخرى لها وظائف لا تقل عما سلف ذكره. والتصدير يلجأ إليه الكاتب ليضيف إلى نصه ما يدعمه من النصوص على مستوى الدلالة، و«تتعدد وتتشعب العلاقات التي ينسجها التصدير مع النص وعنوانه بما لا يسهم بحصرها لما تفتحه من إمكانات لا نهائية للقراءة… تلك خصيصة التصدير الذي هو دائما إشارة صامتة يبقى تأويلها من مهام القارئ»(25).
جعلت الكاتبة في روايتها «رائحة الموت»، بيننا وبين النص وسيطا يتمثل في اقتباسين على شكل تصدير؛ الأول منسوب للإمام علي بن أبي طالب يقول: «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا»(26)، والمقولة الأخرى منسوبة إلى بيير غابي (أو بيار رابحي) يقول فيها: «لا أدري إن كانت هناك حياة بعد الموت لكن أتساءل هل هناك حياة قبلها»(27). عند علي بن أبي طالب، الموت مرحلة الوعي والانتباه، وهو الفاصل بين عالمين عالم بلا إدراك حقيقي لماهية الوجود وقيمة اللحظة في الحياة، وعالم حقيقي يدرك فيه الكائن كل حقائق الوجود والطبيعة وما كان غيبا عنه في عالمه السابق. فالإمام علي ينطلق من المرجعية الإيمانية بالغيب يعتبر الموت فاصلا بين الغفلة والاستيقاظ أو الانتباه، وهذا لا يخرج عن إطار الخطاب القرآني، فقد قال تعالى: «فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد»(28). إن مرحلة الحياة هي مرحلة حركة وعمل هي فرصة للعمل سواء من أجل تعمير الأرض وإحيائها، أو من أجل ما بعد الموت حيث لا عمل إنما جزاء «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»(29). أما بيير غابي فهو يتساءل عن مرحلة ما قبل الموت، هل يمكن تسميتها حياة؟ لأن أمر الحياة بعد الموت لا يشكل بالنسبة له أمرا مقلقا لأنه أمر ميتافيزيقي، لكن، في المقابل، تشكل له مرحلة ما قبله قلقا، ربما يرجع السبب إلى رغبته في أن يرى الأرض تنعم بالحياة، لأنه ينظر إلى أن الإنسان رغم كل التطور التكنولوجي صار جسدا بلا روح، خاصة وأن غابي له موقف معين من الحداثة بشكلها المعاصر. وبالتالي تهمه حياة الإنسان في مرحلة قبل الموت، التي هي الأجدر أن يُعمل فيها لصالح الأرض والإنسانية وتحقيق الكرامة والسلامة الإنسانية…
إن دخول هذان الصوتان لينضما إلى العتبات المحيطة بالنص، يجعلنا نتساءل هل هذه العملية تأتي في صالح النص أم أنها زيادات هامشية لا تضيف شيئا؟
نرى أن هذه العملية لا تخلو من قصدية كذلك؛ فهي مختارة عن سبق إصرار وترصد، ربما لأن الكاتبة ترى فيها ترابطا يخدم نص الرواية، أو ترى أن هاتين المقولتان مناسبتان لتأدية عملية التوجيه لمسار خطى القارئ أثناء تلقيه للنص الأدبي، وهي تُهيئ مناخا إيحائيا مناسبا يسمح باستيعاب النص ومضمراته أو تأويله بما يتناسب مع السياق الحكائي والسياق العام للنص.
إذا كانت الرواية تطرح فكرة أن الإنسان يحمل في حياته بعضا من الموت فهذا يحيلنا على أن التصدير قد يلتقي مع هذه الفكرة في نقطة تشكل المحور الرئيس وهو أن الحياة لا تسمى حياة إلا بالحركة والفعل والعمل والعزيمة والقدرة على تحقيق القيم الإنسانية المطلوبة، الحياة التي لا يُدرك قيمتها إلا من أشرف على الموت أو خاض تجربة تؤدي إليه.
6. العناوين الفرعية
إذا كان العنوان الرئيس الذي يوضع على غلاف الكتاب لا يخلو اختياره من قصدية بناء على وظائفه وعلاقته بالنص، كما سبق لنا أن ذكرنا، فإن العناوين الفرعية التي تجزِّء النصَ في رواية رائحة الموت إلى وحدات ونصوص، بدورها، لا يخلو وضعها واختيارها من قصدية؛ فهي تعين الجزء من الكل، وتصنف كل فصل من الرواية على حِدَة، محددة إطاره الجغرافي في فضاء النص العام. ثم إنَّ هذا التقسيم الذي اعتمدته الكاتبة يخدم الرواية من جانبين: الأول في صالح القارئ بحيث يساعده في التدرج في عملية التلقي؛ فالعناوين تنظيم ينم عن قدرة الكاتبة في توجيه القارئ أثناء عملية القراءة. والجانب الآخر في صالح الرواية؛ إذ يظل القارئ مرتبطا بالنص فيما يشبه الاستشراف وتوقع الأحداث القادمة، مما يساهم في صياغة الأثر الداخلي، وهذا هو الرهان الذي تراهن عليه الكتابة الأدبية، سواء تعلق الأمر بما قلنا أو تعلق بالأسلوب التعبيري أو البناء الجمالي للنص.
حين نصنف العناوين الفرعية في نص رائحة الموت نجد أن هناك عناوين تحمل اسم “مسودات”، وعناوين أخرى تلتصق بها أرقام. عناوين المسودات هي كالتالي:
المسودة الأولى – مسودة ما بعد الانتحار – مسودة الاعتراف – مسودة الذاكرة – مسودة الانشطار – مسودة الموت المتعدد – مسودة الريبة – مسودة الإغراء – مسودة ما بعد التشريح.
أما العناوين المرقمة فهي كالاتي: 1 – بلقايد الميلاد النجس – 2- عرس الفقد – 3- مدينة جاحدة – 4- حائط مبكى – 5- تلك الفاجرة – 6- أشباح الليل – 7- جلاس البيت الكبير – 8- كتابة محرمة – 9- رقصة أخيرة.
سنلاحظ أن عدد المسودات يعادل عدد العناوين الأخرى المرقمة. كما سنلاحظ أنها جاءت مرتبة ترتيبا تناوبيا؛ بمعنى أن بعد كل جزء يحمل اسم “مسودة” يأتي جزء بعنوان مرقم، حيث افتتحت النص بعنوان “المسودة الأولى” ثم عنوان “بلقايد الميلاد النجس”، وهكذا…. هذه المسودات التي تعتبر بحسب أحداث الرواية نصا تكتبه شخصية الرواية الذي يسمى العربي بلقايد وهو توظيف للميتا سرد والذي ساهم في بناء المتن؛ ابتدأ بلقايد روايته بجعل شخصيتها تقدم على الانتحار، ثم وضعها في إطار وسياق يحفه الموت، مما أدى بها إلى أن تعيش انفصاما وانشطارا بين عالمين فلا هي تنتمي للأحياء ولا هي تنتمي للأموات؛ متورطة في حيرة الموت/الحياة، والنص بهذا الشكل يطرح جدلية الموت والحياة، وتلازمهما.
في المقابل الأجزاء التي وردت عناوينها مرقمة فهي التي يحكي فيها السارد عن بلقايد وعن معاناته واضطراباته النفسية وإحساسه بالقهر والاستياء من حاضره بسبب تاريخ جده ونظرته للحياة، وذكريات من طفولته ومن حياته الماضية وعن عجزه، وعن مدينته التي يصفها بأنها غجرية تتزين للغرباء الذين يتوافدون عليها ليكتشفوا تاريخها العريق ومظاهر التراث المحلي.
إن التماهي الذي وقع بين “الميتا سر” (المسودات) والسرد أعطى لنا نصا روائيا تكتب فيه الشخصية عن ذاتها، وهذا ما ستبينه أحداث الرواية في نهاياتها.
من خلال هذا الفصل حاولنا أن نقارب بقدر الإمكان بعض العتبات، باعتبارها مدخلا لفهم متن «رائحة الموت»، إذ نرى أن توظيفها يعد من العناصر التي لا يمكن أن تنفصل أبدا عن مضمون العمل الروائي، ولو حتى على سبيل التوافق والإيحاء. إذن فهي تُهيء المتلقي وتعدُّه إيحائيا للخوض في عملية القراءة والاحتكاك بالنص، والإنصات لنبضه، كما نخلص إلى أن الموت في الرواية له بعد رمزي ودلالي.
ثانيا: البنية الزمنية
يعتبر الزمن في النص السردي عنصرا أساسيا، ومكونا هاما للبنية النصية في القصة أو الرواية، باعتبارهما أكثر الفنون التصاقا بالزمن. غير أن هناك فرق بين الزمن الواقعي الموضوعي الذي يتقدم في خط مباشر ومنطقي، من الماضي إلى الحاضر نحو المستقبل، وبين الزمن الروائي، لأن الزمن في الرواية قد يعرف التواءات وتعرجات، أو يتسع ويتقلص بحسب السياق، أو يحدث فجوات… فهو غير مقيد بالتطابق مع الزمن الواقعي، وإن كان الروائي مطالبا بخلق الإحساس بالمدة الزمنية الروائية، لأن ذلك الإحساس يجعل المتلقي يعتقد أو يتوهم أن ما يعرضه الروائي هو الواقع الحقيقي.
في هذا الفصل سنركز على الترتيب الزمني الذي يتجلى في الاسترجاع والاستباق، ثم الإيقاع الزمني الذي ساهم في البنية الزمنية لرواية «رائحة الموت».
1. الترتيب الزمني
إذا كان للنص زمن يتحكم في سيره ونسق ترتيب أحداث قصته، على اعتبار أن المتواليات السردية تسير في اتجاه نهايتها وفق ما حدده الكاتب، فإن هذا التتابع لهذه المتواليات قد يتأثر فيبتعد «كثيرا أو قليلا عن المجرى الخطي للسرد»(30). وهذا ما أسماه جيرار جنيت بالمفارقة الزمنية، أي «دراسة الترتيب الزمني لحكاية ما مقارنة نظام ترتيب الأحداث أو المقاطع الزمنية في الخطاب السردي، بنظام تتابع هذه الأحداث أو المقاطع الزمنية نفسها في القصة»(31)، فهو نوع من الخروج عن الترتيب الطبيعي للزمن في النص السردي، سواء بعودة الأحداث إلى الوراء، (وهذا ما يصطلح عليه بالاسترجاع) أو استباقها إلى الأمام ومحاولة استقراء المستقبل وهذا ما يصطلح عليه بالاستباق أو الاستشراف.
1.1 الاسترجاع
الاسترجاع هو العودة بالأحداث إلى الوراء، أي أنه مخالفة السرد تقوم على عودة الراوي إلى حدث سابق، وله تسميات أخرى مثل الارتداد. «أما وظيفته فهي غالبا تفسيرية: تسليط الضوء على ما فات أو غَمض من حياة الشخصية في الماضي»(32) وهو أنواع: استرجاع تام، واسترجاع جزئي، واسترجاع داخلي وآخر خارجي، واسترجاع مختلط. وسنركز على ثلاثة أنواع، نرى أنها قد وظفت في هذا النص الروائي:
أ- الاسترجاع الداخلي: وهو لا يخرج عن الخط الزمني للحكاية داخل الرواية، إذ هو استعادة أحداث وقعت ضمن زمن الحكاية، أي بعد بدايتها ولا تتجاوز هذا المحيط، أو كما سماها جنيت: مِثليَّة القصة؛ أي «تلك التي تتناول خط العمل نفسه الذي تتناوله الحكاية الأولى»(33). ونذكر من النص أمثلة:
– «وهو الذي حرم طعم النوم في الليلة الماضية لمجرد أنه اعتاد على ضجيج شخصيته التي أصيبت بالخرس أمس..».(34)، “بلقايد” هنا يجوب المدينة تحت شمس النهار، فشعر بالتعب بسبب حرمانه من النوم في الليلة الماضية لانشغاله بشأن شخصية روايته التي يكتبها.. فهو استرجاع داخلي ورد بعد ابتداء حكاية بلقايد وبعد انطلاق سرد الرواية.
– «تردد صدى الجملة حين تذكر أنه نفس السؤال الذي طلبت منه شخصيته أن يجيب عليه».(35) وهذا، حين تساءل بلقايد داخل الغرفة التي كان ممددا فيها: أهو ميت أم حي؟ تذكر أنه نفس السؤال الذي طرحته شخصية روايته في محاورة معها كي يجيب عليه. فهذا استرجاع داخلي أيضا.
– «أيعقل أن أكون أنا من أسلمت نفسي لربطة العنق تلك وبكل طواعية وأنا منتش بما قد يقوله الناس عني؟».(36) في هذا المقطع، يكتشف بلقايد أنه هو من شنق نفسه بربطة العنق، كما كتب في بداية سرده لروايته التي نقرأها في المسودات، لكنه في البداية كان يتحدث عن شخصية أخرى وليس نفسه، أما هنا، فقد اكتشف أنه المنتحر. وهذا استرجاع داخلي يرتبط بما سبق ذكره في هذا النص.
نجد تقنيات الاسترجاع الداخلي في مقاطع كثيرة غير أننا نكتفي بما ذكرنا كأمثلة، لننتقل إلى النوع الثاني وهو الاسترجاع الخارجي.
ب- الاسترجاع الخارجي: وهو ذكر وقائع ماضية وقعت خارج محيط النص السردي، فهو استدعاء من السارد كي ينير القارئ بمعلومات تساعده على فهم الأحداث ومتابعتها، «لأن وظيفتها الوحيدة هي إكمال الحكاية الأولى عن طريق تنوير القارئ بخصوص هذه السابقة أو تلك»(37)، أي أن هذا النوع يعالج أحداثا تنظمُّ إلى سلسلة السرد مع كونها قد ابتدأت قبل نقطة البداية المفترضة للحكاية التي يتضمنها النص الروائي. وإننا نجد أن «رائحة الموت» اعتمدت على الاسترجاع الخارجي بشكل كبير لأن أغلب الأحداث التي وردت كانت ذكريات يتذكرها العربي بلقايد أو يقوم بهذه المهمة الراوي الذي يحكي عن تاريخ جده الموسوم بالعار، وذكريات بلقايد مع والدته وصديقه، وأيضا ما يصرح به بلقايد من شعور بالاستياء اتجاه مجتمع ينظر إليه كأنه المسؤول عن تاريخ جده القايد، وكأن ذنبه الوحيد أنه ولد وكبر في بيت جده بعد مقتل والده. هذه الأحداث كلها جاءت إلى نص الرواية عبر تقنية الاسترجاع بنوعها الخارجي، وهي التي ساعدت القارئ كما قلنا على فهم نفسية بلقايد وظروفه الاجتماعية وسبب إقدامه على الانتحار.
ويمكن أن نشير إلى مثالين من النص تتضح فيهما تقنية الاسترجاع الخارجي:
– «فهو لا يزال يذكر نظرات نساء الحي اللواتي يتهامسن عنه كلما لمحنه يخترق الزقاق الضيق في اتجاه البيت الكبير حتى إنه لم ينس أبدا حين كان عائدا قبل سنين عدة، حيث كانت إحدى الجارات تمر قرب البيت، فإذا بها تلتقي بصديقة لها على بعد متر من عتبة بيتهم فتجذب إحداهما الأخرى وهما ترددان تعويذة تحميهما من لعنة جده وكأنما قد لمحتا عفريتا حتى إنهما لم ينتبها إليه فاصطدم بهما ليزدادا رعبا». (38)
– «يتذكر كل تلك التفاصيل كما يتذكر صديقه الوحيد الذي شهد فترات مراهقته وهما يتسكعان بالبحر المهجور».(39)
هذان المثالان يضيفان للقارئ إضاءات عن الشخصية المحورية، وهي تعالج أحداثا تنظمُّ إلى السرد.
ج-الاسترجاع المختلط: هذا النوع من الاسترجاع يمتد من خارج الحكاية إلى داخلها، أي أنه استرجاع لحدث بدأ قبل بداية الحكاية ودام بقاؤه واستمر ليصبح جزءا منها، فيكون جزؤه الخارجي قبل بداية الحكاية وجزء منه داخلها ومكملا لما ابتدأ، وزمنه يكون قبل نقطة بداية الرواية وينتهي ضمن زمن الرواية، وسماها جنيت بالفئة المختلطة وهي التي «تحدَّد بخاصية من خاصيات السعة، ما دامت هذه الفئة تقوم على استرجاعات خارجية تمتد حتى تنضم إلى منطلق الحكاية الأولى وتتعداه»(40)، ومن الأمثلة:
– الانتماء القسري لجده لأمه وليس لوالده المختار؛ فهو لم يكن له اختيار في كون المجتمع ينسبه لجده القايد، رغم أنه يرى أن هذا الانتساب لم يكن إلا عبئا ثقيلا ورَّثه ظلما عظيما، فهذا الاسترجاع مختلط لأن استراتيجية جعله يحمل اسم جده، كانت فكرة جده بحكم أنه لم ينجب إلا ابنة واحدة وهي زينب والدة العربي، فجده كان يرى فيه خلفا لاسمه. وهذه وقائع كانت خارج إطار زمن النص، ثم امتدت إليه لأن العربي مازال في حاضره يحمل تبعات ذلك الاسم برفض الناس له -كما أشار السارد- فإنه بهذا الشكل تكون سلطة القايد استمرت حتى بعد موته: «وإنما لأن سلطة القايد استمرت حتى بعد موته برفض الناس له».(41)
– واقعة الختان التي ذكرها السارد؛ حيث أن الحجّام حين أراد ختان العربي بلقايد انزلق مقصه ليحرم الطفل من ذكورته، أو كما ورد في الرواية – حسب ما تداوله الناس- أن الحجام تعمّد الأمر كشكل من أشكال الانتقام من جبروت جده. هذه الواقعة استدعاها الراوي من خارج محيط زمن النص إذ أنها تعود إلى صباه، لتصبح ضمن النص بحكم أن ما حدث ترتب على بنائه واقع العربي وحاضره الذي هو محور الرواية وضمن إطارها الزمني، فقد حرمته هذه الحادثة من الزواج، أما الأبوة، فهي بالنسبة له أمر مستحيل(42).
والملاحظ في رواية رائحة الموت أن أغلب الأحداث التي استرجعتها شخصية النص أو تتذكرها، حتى وإن كان وقوعها خارج حدود زمن حكاية الرواية إلا أنها تمتد إلى حدودها بشكل واضح من خلال ما ترتب عليها من تأثير في حاضر الشخصية، نقرأ مثلا هذه القرينة الدالة على ما ذكرنا: «يغمض بلقايد عينيه لتفادي الإحساس الذي يتسلل إليه كلما تذكر ما حصل معه».(43)
والقرينة الثانية وهي على شكل مونولوج قاله العربي وهو يستحضر الماضي وعرس والديه الذي كان قد أشرف عليه جده القايد، يقول فيه:
«ماذا يمكن أن ينتج عن عرس تزكيه القوى الاستعمارية ومجمع الخونة والانتهازيين، إلا عبدا خنوعا مثلي، تركيبة حددت مصيري حتى قبل ولادتي، توليفة سقتني الخزي والذل، لا يمكن أن أكون إلا تركيبة غريبة للخيانة، صنفا جديدا، عاجزا على رفع أصبعه لتغيير ذاته..».(44)
فالماضي بالنسبة للعربي ممتد في حاضره ومؤثر فيه، فهو جزء منه، لهذا فالاسترجاع بنوعه المختلط يغلب أيضا على الرواية. هكذا لنجد أن شخصية الرواية لم تنفصل كلية عن الماضي بل ظلت تعيشه في حاضرها كما سبقت الإشارة في دراستنا للعتبات.
2.1 الاستباق
تعرف هذه التقنية أيضا باسم الاستشراف، وهي شكل من أشكال التوقع، واستشراف المستقبل، أي «مخالفة لسير زمن السرد تقوم على تجاوز حاضر الحكاية وذكر حدثٍ لم يحن وقته بعد».(45) وهي نوع ثاني من المفارقة الزمنية التي تتجه نحو الأمام، بعكس الاسترجاع الذي يعود إلى الخلف، فيستبق السارد الحدث الرئيس في السرد بحدث أو أحداث أخرى يتوقعها أو يتنبؤها أو يمهد لها بالإشارة إلى أنها ستأتي في السرد. إذن، هو قفز من الحاضر إلى المستقبل داخل زمن الحكاية، وينقسم الاستباق إلى قسمين: الاستباق التمهيدي، والاستباق الإعلاني.
أ-الاستباق التمهيدي: حيث يتطلع السارد أو شخصيات النص إلى الأمام، إما بتوقع ما سيقع أو احتماله أو التنبؤ به… وهو تطلع قد يكون مؤكدا أو غير مؤكد؛ إذ « أن الكاتب، وهو يستعمل هذا النمط من الاستشرافات، يبقى حرا إلى حد ما في الوفاء، أو عدم الوفاء، لما هيئ له الشيء الذي يؤدي، في الحالة الأخيرة، إلى ما يسميه جنيت بالتميهدات الخادعة».(46) سنذكر بعض الأمثلة من النص:
– « أنا بلقايد وسأظل بلقايد ما دمت لا أملك القدرة على تغيير ذلك، مرارا تخيلتني أحاول وأفشل، فتغيير الاسم في حالتي مرتبط بتغيير المكان..».(47) فهو تخيل فقط أنه يحاول ويفشل لكنه لم يحاول، ثم إن تغيير الاسم الذي يراه وصمة عار رهين بتغيير المكان، وهو لم يقم بذلك كما ود في الرواية؛ إذن فهذا استباق تمهيدي.
– « أتراني كنت سأكون مكانه لو لم أستعجل الموت؟».(48)
– «لو كنت مكانه ماذا تراني سأختار؟ كل شيء إلا أن أموت بين أشباح البهو كجدي..».(49)
– «أنا هنا أنتظر العيون التي عادة ما تعتلي المكان لتتلصص على الجيران في نشوة، وأن تستكمل حكايتهم ببعض وشاية وكثير من التخيل؛ وإن كنت هنا منذ ساعات فالوقت لم يعد يهم الآن، فقط هي رغبة مني في التعرف عمن سيكتشف جسدي المعلق».(50)
– «أولا أبدأ بتحريك أصابعي واحدا واحدا، ثم يدي، فأزيل الإزار عني، لكن ماذا لو فعلت وفشلت؟ كل الاحتمالات واردة..».(51)
هناك مقاطع كثيرة تزخر بها رواية رائحة الموت كلها وظفت فيها هذه التقنية، وهذا راجع إلى أن الشخصية المحورية عاجزة عن الفعل فهي تتخيل فقط وتتوقع ما سيحدث لكنها لا تقوم بفعل المبادرة إلى العمل والتغيير.
ب-الاستباق الإعلاني: تقنية تخبر بوضوح عن سلسلة الأحداث التي سيعرفها السرد عبر السياق، وهو عكس التمهيدي لأنه موسوم باليقينية، ووظيفته «الإعلان عندما يخبر صراحة عن سلسلة الأحداث التي سيشهدها السرد في وقت لاحق».(52)
لا يخفى علينا أن الاستباق الإعلاني في رواية رائحة الموت يبتدئ مع أول سطر نقرأه في هذا النص، يقول السارد: «ماذا تراها ستقول عني الجرائد غدا؟ ما الذي سيثير انتباههم أكثر؟ لون بشرتي الذي يحيلني إلى تلك القرية..».(53) فالسارد هنا يقدم لنا الحدث الرئيس والواقعة المركزية التي منها تبتدئ الحكاية، وهي إقدام الشخصية على الانتحار فكونها تتساءل ماذا ستقوله الجرائد عندما سيكتشفون انتحارها، وما الذي سيثيرهم ويشد انتباههم فيه أكثر، هو فضول معرفي منبعث من الشخصية المقبلة على الانتحار، كما أن هذا الاستباق يشوق القارئ إلى ما سيحدث..
ومثله؛ قول الشخصية: «سأنتحر…».(54)
ومن الأمثلة الأخرى:
– «ثلاثة رجال وامرأة، هذه الأخيرة التي لم تكن تشتغل في جمع النفايات فيما أعتقد، فما لمحتها إلا وهي تحمل حزمة على ظهرها، حتى لكأنك تخالها تحمل رضيعا كما خيل لي أول الأمر..»(55) فهذا استباق إعلاني لأن توقعه كان صحيحا فهي لم تكن تعمل في النفايات بل في التسول كما أخبرته بذلك المرأة التي اختطفته.
– «قدري أن تكون حكايتي رهينة هذه الغرفة الباردة، أقاوم الغليان الداخلي».(56)
– كما جاء الاستباق الإعلاني على لسان إحدى الشخصيات: «علينا أن نؤمن بقضاء الله، فالحالة لا تبشر بالخير، يقول الطبيب إنه أصيب بكسر في جمجمته والنزيف طال جزءا من دماغه واحتمال نجاته ضعيف جدا، لقد أكد أن المسألة كلها مسألة وقت، ساعات، لذا علينا تقبل الأمر ولا راد لقضاء الله».(57)
إن هذا النوع من الاستباق لا نجده بكثرة في هذه الرواية، مقارنة مع التميهدي، لعل ذلك راجع إلى اعتماد الكاتبة على ذكاء القارئ ومساهمته في التخييل والتوقع، وهي طريقة فنية حديثة.
ونعتبر أيضا أن بعض عناوين الفصول تتضمن هذا الاستباق الإعلاني، منها مثلا: «مسودة ما بعد الانتحار»،(58) «مسودة الاعتراف»،(59) «مسودة ما بعد التشريح»،(60) فدور «الإعلان هو خلق حالة انتظار في ذهن القارئ، هذا الانتظار الذي قد يحسم فيه بسرعة في حالة الإعلانات ذات المدى القصير».(61)
كما نجد هذه الوظيفة في الحلم الذي يتكرر في منام العربي بلقايد، وهو شكل من الاستباق أو الاستشراف لما بعده وإن كان رمزيا، بحيث أن جده يظهر له في حلمه «ببذلة عسكرية فرنسية وهو يتعمد أن يطأ ما بين فخديه، حتى يفقد وعيه»،(62) وهو رمز مهم يشير إلى تأثير الماضي على مستقبله، فهو استشراف وقع فعلا، فالعربي كما قلنا لم يتخلص من الماضي الذي يحمل أعباءه.
2. الإيقاع الزمني
يعرف الإيقاع الزمني في رواية «رائحة الموت» وتيرة تأخذ أحيانا شكلا سريعا يساهم في بناء الأحداث وتسارع السرد وتقدمه نحو الأمام، وأحيانا أخرى شكلا بطيئا يتوقف معه السرد، وهذا راجع إلى أنه تم توظيف تقنيتين حكائيتين تتمثل الأولى في تسريع السرد وتشمل تقنية الخلاصة والحذف، والثانية في إبطائه، وتشمل تقنيتي المشهد والوقفة.
1.2 تسريع السرد
تقنية يتم من خلالها إغفال وترك فترات من زمن الأحداث، بها يتم ذكر فترات زمنية طويلة في مساحة نصية ضيقة، وذلك على حسب أهميتها ومدى خدمتها للحدث العام والسياق السردي عامة، وتعتمد هذه التقنية على حركتي الحذف والخلاصة:
أ- الحذف: أو الإسقاط يلعب «دورا حاسما في اقتصاد السرد وتسريع وتيرته، فهو من حيث التعريف تقنية زمنية تقتضي بإسقاط فترة، طويلة أو قصيرة، من زمن القصة وعدم التطرق لما جرى فيها من وقائع وأحداث»(63). مثل ما جاء في الرواية:
– «مستعد لطمس ملامح عاش طيلة الثلاثين سنة الماضية ليرسمها على حيطان الأزمنة..».(64)
– «غفوت ولا أدري كم استغرق الأمر حتى صحوت».(65)
– «فقد عاش سنوات عمره يراقبها من على سطح سقيفته».(66)
وقد وظفت هذه التقنية بأنواعها الثلاثة داخل الرواية: الحذف الصريح أو المعلن، والحذف الضمني وقد ذكرت مثالا عنهما، وأيضا الحذف الافتراضي وهو يتمثل في تلك الفراغات المتروكة قبل بعض فصول الرواية، كذا الفراغ الذي يأتي مباشرة بعد انتهاء الفصل مع الصفحة التي لم تمتلئ. هذه الفراغات ربما تؤدي وظيفة تجعل للمتلقي/القارئ مجالا للتفكير في الأحداث السابقة فهي تشكل بياضا يفصل ما بين المسودات التي تمثل كما قلنا سابقا رواية الشخصية المحورية (الميتا سرد)، وبين السرد الرئيسي.
ب- الخلاصة: أو التلخيص وهي سرد أحداث وقعت في عدة أيام أو شهور أو سنوات، سردها في صفحات قليلة، ودون تفاصيل، فهي «تقنية زمنية عندما تكون وحدة من زمن القصة تقابل وحدة أصغر من زمن الكتابة تلخص لنا فيها الرواية مرحلة طويلة من الحياة المعروضة»(67). وهذا نلاحظه في بعض أحداث رواية «رائحة الموت» التي تحكي خلاصات عن تاريخ جد العربي أو عن معاناة أمه زينب أو خلاصة موجزة عن والده أو أصله البرتغالي، أو عن صديقه، أو عن أستاذه في مادة التاريخ… فأغلب هذه الاسترجاعات جاءت على شكل خلاصات منها ما كان متفرقا بين فصول الرواية. فالكاتبة تعود إلى ماضي الشخصيات لتمد القارئ بالمعرفة الكاملة لبناء الحدث، وإن كنا سنرى أن بين هذه التقنية (الخلاصة) وبين (الاسترجاع) صلة ما، إلا أننا سنلاحظ أن التباين الذي بينهما يتجلى في أن الخلاصة تستدرج الماضي وتتخذ «أحداثه موضوعا مهيئا للعرض الموجز والسرد السريع».(68)
2.2 تبطيء السرد
تبطيء السرد أو تعطيله: تقنية مضادة للتقنية السابقة التي يُعتمد فيها على التسريع، فهذه تقوم بإيقاف اتساع السرد، وحركته إلى الأمام، ويكون ذلك عن طريق تقنيتين: المشهد أو الوقفة.
أ- المشهد: «ويقوم المشهد أساسا على الحوار المعبر عنه لغويا»(69). يتوقف السرد ويتنازل السارد عن مهمته الكلامية إلى الشخصيات، تعبر بلسانها عن طريق الحوار أو عن طريق الحديث النفسي. والحوار من شأنه أن يوضح جوانب كثيرة من تفكير الشخصيات ومواقفها، ومستواها المعرفي الاجتماعي والثقافي وغيرها.. وقد وظفت الكاتبة ليلى مهيدرة في روايتها مشاهد حوارية منها على سبيل الذكر حوار العربي مع أمه زينب، وهو حوار قام العربي بتذكره فيسترجع معه مآسيها ومآسيه، أو يناجي روحها في بعض المشاهد. هناك كذلك حوار الأم التي سقط ابنها من سطح البيت وإن كان الحوار في المشهد ضئيلا مقارنة مع الوصف الغالب… هناك مشاهد حوارية أخرى، لكن أكبرها والذي احتل مساحة من صفحات الرواية، هو ما كان بين الشخصية الميتا سردية في مسودات العربي والشخصية المنشطرة؛ إذ أنه أخذ فصلا كاملا، فهو حوار أدى إلى تباين الفارق بين الشخصية الأولى والثانية، وإن كان في الأصل أن الشخصية تحاور نفسها لكن في النص بدت شخصيتان مختلفتان في الرؤية.(70)
ب- الوقفة: وهي ما يعرف بالوقفة الوصفية، فتتعطل حركة الزمن في الرواية، أو ما يسمى بالسيرورة الزمنية، حتى ينتهي الوصف من مهمته التي هي وظيفة أساسية أيضا بحيث يضيء السارد ما سيأتي من أحداث عبر تقنية التصوير التي يعتمدها أسلوبه اللغوي. و«تشترك الوقفة الوصفية مع المشهد في الاشتغال على حساب الزمن الذي تستغرقه الأحداث..»(71). وقد تنوعت المشاهد الوصفية في “رواية رائحة الموت”، نذكر منها مثلا:
– «كل شيء محدد هنا بالغرفة، حيطانها الداكنة والسماء المقننة بحدود النافذة حتى الماء محدد داحل قدر. والأكسجين أيضا…».(72) وهنا يصف الطفل الفضاء الذي اختطف إليه..
– «الشال المكوم فوق الرأس بشكل يكاد يبتلع وشما أخضر قاتما خُط على جبينها ليتم امتداده على ذقنها. أسنان بنية اللون يطل من بينها سن مذهبة وإن اعتلاه بعض السواد في جوانبه كأنه بعض صدأ، عينان جاحظتان وأنف مقعر…».(73) يصف الطفل أمنا الغولة كما أطلق على تلك المرأة التي اختطفته…
– «كانت صاحبة الحائك ذات حوافر الماعز واقفة تنظر إليه، كانت ملامحها واضحة رغم الظلام، جمال آسر، عينان حجليتان يحيطهما سواد الكحل ليجعلهما أكثر إثارة، لم تنبس بكلمة ولا حتى بابتسامة..».(74) هذا الوصف الذي يتداخل فيه المتخيل الشعبي، وهو يجمع بين المرعب والمرغوب فيه (ما يثير الخوف وما يبرز الجمال) وتمثل ذلك في شخصية صاحبة الحائك التي تجمع بين المتناقضين.
تستعين الروائية بالوصف في مقاطع كثيرة حتى تقرب الصورة إلى ذهن القارئ كمثل وصفها للأمكنة ولحواري المدينة القديمة لارتباطها بذاكرة الشخصية، وتلك الحوانيت المتراصة التي تبيع بضائعها للسياح، لما لها من ارتباط رمزي بتاريخ المدينة وبثقافتها. وكذلك تصف رقصة “كناوة” ذات الأصول الإفريقية والأبعاد الرمزية والدلالية التي ترتبط بتاريخ العبيد، وهي رقصة معروفة لها طقوس خاصة. مثل هذه الأشياء تعتمد الروائية تقنية الوقفة الوصفية كي تضيئها للقارئ. كما تتجلى عناية الكاتبة بالفضاء العام لمدينة الصويرة بشتى مكوناته وخصائصه.
3. الماضي: الزمن الميت
أشرنا فيما سبق إلى أن الروائية لم تُخضع الزمن الروائي للتتابع المنطقي، لأنها تلاعبت بزمن الحكاية في مسار السرد الحاضر، ثم ترْجع بالزمن إلى الماضي، وبين العودة إلى حاضر الشخصية والرجوع إلى ماضيها نرى أن الشخصية ضائعة بين زمنين أو منشطرة بينهما، لأنهما يشكلان تمازجا برز بشكل تصادمي، أدى بها إلى الإقدام على الانتحار، أي اختيار الموت على الحياة، تعبيرا منها على رفضها للحاضر وتعبيرا منها عن عجزها أمام المحيط والمتغيرات الطارئة فيه، ولأن الأمل في المستقبل صار مستحيلا في ذهن الشخصية، وصارت كل الأحداث تنتسب إلى الماضي، لأنها بنيت عليه وأسست على نتائجه، وحتى حين يعود بنا السرد إلى الحاضر فهو ليرصد انشغال العربي بروايته، وأيضا لما أراد أن يكتبها كتب عن شخصية تحكي عن ماضيها كذلك، وعن طفولتها، وهذا يدل على أن الطفولة هي المرحلة الزمنية الوحيدة التي لا يمكن للإنسان أن ينفصل عنها مهما بلغ من العمر، فهي تسكنه بنعيمها أو بجحيمها، لأنها الجزء الذي تأسست عليه شخصيته، ودفعته إلى الحاضر ليرى النتائج بعينه. ورفضه للحاضر يعيده دائما إلى ذلك الجزء، فإن كان عاش طفولة جميلة فستكون أحسن ذكرياته واسترجاعها فيه نوع من الحنين (النوستالوجيا)، وإن كانت غير ذلك، فمن الصعب نسيانها لأنها تشكل مرحلة الجحيم بالنسبة له. طفولة العربي كانت مغتصبة أثرت فيها بيئته الأسرية وظروفه التي جعلت منه حفيد الظالم ووريث فترة التجبر، ومجتمعه أثر فيها بدوره، حيث ينظر إليه بعين المسؤول عن إخفاقات الماضي، لهذا فشخصيته لم تستطع التخلص من عبء الماضي، ولا حاول أن يبادر إلى تغيير ذاته لينطلق نحو المستقبل، وحتى الانتحار لم يعش تجربته إلا من خلال تجربة شخصية روايته المفترضة، وهو ما يمثل حالة من رفض المواجهة، رفض الواقع الحاضر، رفض الاعتراف بالموت المحيط به، فاستسلم لما يشبه انعدام الزمن الطبيعي بالنسبة له (انعداما تاما)، لأنه لم يعد يعرف إلا الماضي، ولا يشعر إلا به، لهذا لم يدرك أنه انتحر في سن الثلاثين. وعاش عشرين سنة فاقدا خلالها الإحساس بالزمن لأنه داخل قوقعة الماضي، الذي لا يسمع فيها إلا صوت الزمن الميت، وهذا الفعل هو في حد ذاته ترجمة للموت، من حيث صفة الجمود والسكون، وعدم الشعور بحركة الزمن الطبيعي الذي يسيل ويستمر، ويظل الزمن النفسي بطيئا أو متوقفا، ينتظر يقظة أو هزة عنيفة. وهنا أشير إلى أن القرآن اهتم بالإشارة إلى الزمن من المنظور النفسي أو الشعوري، فأطره بسؤال موجه إلى أهل النار «قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين»(75) فأُتبع مباشرة بجواب منهم «قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادّين»(76). ثم قصة أهل الكهف، الذين بعثوا من نومهم الطويل، فتساءل أحدهم وأجاب الآخرون: «قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم»، ثم (وقد غلب عليهم الظن بعد ذلك) يُرجعون الأمر لغيب الله، «قالوا ربكم أعلم بما لبثتم»(77). إن غرضنا من ذكر هذه الإشارة هو أن الزمن النفسي يوقف أو يبطئ الزمن الفيزيائي في حدود المحيط النفسي، لهذا فمن كان في غفلة وانتبه بعدها لا يدري تماما كم وقتا مضى عليه، وقد يبدو له يسيرا جدا، في المقابل فقد يكون قضى زمنا طويلا بالمقياس الزمن الخارجي، إنه كالحلم مثلا، فالحالم لا يجري في عالمه الزمن فهو حين يستيقظ يحسب نفسه كان يحلم الليل كله، مع أن زمن الاستغراق في الحلم بالمقياس الزمن الفيزيائي لا يعدو أن يكون دقائق معدودات. وما كان يعيشه العربي بلقايد هو زمن سيكولوجي نفسي جعله لا ينتبه إلى الزمن الخارجي الذي يرصد في الرواية وضع ما بعد الانتحار معتقدا أنه شخص آخر، إلى أن اصطدم من حيث لم يتوقع بالتصريح بالدفن، لهذا فالرواية تشير إلى أن الشخصية المنتحرة كانت في الثلاثين، بينما العربي بلقايد كان في الخمسين، أي أنه قضى عشرين سنة ميت الإحساس والشعور، غافلا عن الزمن الخارجي وعن المحيط، غفلته كما قلنا رهينة ماضيه المهيمن على كل شيء فيه، كأن زمنه توقف في الماضي الصفر.
خاتمة
قمنا في هذه الدراسة بمقاربة بعض العتبات النصية التي نرى أنها تتصل بالمتن الروائي «رائحة الموت»، بداية من العنوان الذي نجد حضوره وظيفيا ضمن البنية الحكائية لنص الرواية، وارتباطه الدلالي بالعتبات النصية الأخرى المحيطة بالكتاب (الإهداء/الديباجة/التصدير /العناوين الفرعية)، وقما بمقاربتها فتأكد لنا أن لها ارتباط وثيق بالسياق الحكائي العام المؤطر لمثن الرواية، من خلال ما تم توظيفه من تيمة الموت. كما تبين أن هذه العتبات النصية تعتبر مدخلا لفهم متن «رائحة الموت»، إذ نرى أن توظيفها يعد من العناصر التي لا يمكن أن تنفصل أبدا عن مضمون العمل الروائي، ولو حتى على سبيل التوافق والإيحاء. وأنها تُهيء المتلقي وتعدُّه إيحائيا للخوض في عملية القراءة والاحتكاك بالنص. ثم كشفنا عن كيفية اشتغال عناصر البنية الزمنية، من خلال ترتيب الزمن وإيقاعه. فرأينا أن الزمن في هذا العمل يشكل بنية أساسية ومتعددة العناصر، ولم يخضع للتتابع المنطقي، لأن الكاتبة تلاعبت بزمن الحكاية في مسار السرد الحاضر، ثم ترْجع بالزمن إلى الماضي، مما يحيل على أن الشخصية ضائعة بين زمنين أو منشطرة بينهما، بما يشكلانه من تمازج برز بشكل تصادمي، أدى بالشخصية إلى اختيار الموت على الحياة، كتعبير عن الرفض والعجز، رفض الحاضر والعجز أمام المستقبل، والارتباط الدائم بالماضي.
الهوامش والإحالات
1- ليلى مهيدرة: رائحة الموت، مؤسسة الرحاب الحديثة، بيروت-لبنان، ط.1، 2018.
2- عبد الفتاح الحجمري: عتبات النص؛ البنية والدلالة، منشورات الرابطة، الدار البيضاء، ط.1، 1996. ص: 16 و17.
3- ابن منظور: لسان العرب، دار صادر، بيروت، المجلد الثاني، ص: 457
4- سورة آل عمران، الآية: 185
5- ابن منظور: لسان العرب، دار صادر، بيروت، المجلد الثاني، ص: 92
6- رائحة الموت، ص: 144
7- نفسه، ص: 47
8- نفسه، ص: 134
9- جون كوهين: بنية اللغة الشعرية. ترجمة محمد الوالي ومحمد العمري، دار توبقال للنشر، المغرب، ط.1، 1986. ص: 161
10- رائحة الموت، ص:26
11- نفسه، ص:46
12- نفسه، ص: 53
13- نفسه، ص: 59
14- نفسه، ص: 103
15- نفسه، ص: 152
16- نفسه، ص: 10
17- نفسه، ص: 11
18- نفسه، ص: 157
19- نفسه، ص: 40
20- نفسه، ص: 30
21- نفسه، ص: 87
22- عبد الفتاح الحجمري: عتبات النص؛ البنية والدلالة، السابق 1996. ص: 20.
23- رائحة الموت، ص:5
24- نفسه، ص:6
25- سهام السامرائي: العتبات النصية في (رواية الأجيال) العربية، دار غيداء- عمان، ط.1، 2016، ص:107
26- رائحة الموت، ص: 7
27- نفسه، ص: 7
28- سورة ق، الآية: 22
29- سورة التوبة، الآية: 105
30- حسن بحراوي: بنية الشكل الروائي، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط.1، 1990، ص: 119
31- جيرار جنيت: خطاب الحكاية، بحث في المنهج. ترجمة: محمد معتصم/عبد الجليل الأزدى/عمر حلى، المجلس الأعلى للثقافة، ط.1، 1997، ص: 47
32- لطيف زيتوني: معجم مصطلحات نقد الرواية، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، ط.1، 2002، ص:18
33- جيرار جنيت: خطاب الحكاية، السابق، ص: 62
34- رائحة الموت، ص: 140
35- نفسه، ص: 155
36- نفسه، ص: 155.
37- جيرار جنيت: خطاب الحكاية، السابق، ص: 61
38- رائحة الموت، ص: 14
39- نفسه، ص:65
40- جيرار جنيت: خطاب الحكاية، السابق، ص: 70
41- رائحة الموت، ص:16
42- نفسه، ص: 139
43- نفسه، ص: 20
44- نفسه، ص: 35
45- لطيف زيتوني: معجم مصطلحات نقد الرواية، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، ط.1، 2002، ص: 15
46- حسن بحراوي: بنية الشكل الروائي، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط.1، 1990، ص: 136
47- رائجة الموت، ص: 14
48- نفسه، ص: 109
49- نفسه، ص: 120
50- نفسه، ص: 25
51- نفسه، ص: 104
52- حسن بحراوي: بنية الشكل الروائي، السابق، ص: 137
53- رائجة الموت، ص: 9
54- نفسه، ص: 11
55- نفسه، ص: 58
56- نفسه، ص: 71
57- نفسه، ص: 93
58- نفسه، ص: 25
59- نفسه، ص: 37
60- نفسه، ص: 129
61- حسن بحراوي: بنية الشكل الروائي، السابق، ص: 137
62- رائحة الموت، ص: 17
63- حسن بحراوي: بنية الشكل الروائي، السابق، ص: 156
64- رائحة الموت، ص: 156
65- نفسه، ص: 41
66- نفسه، ص: 128
67- حسن بحراوي: بنية الشكل الروائي، السابق، ص: 145
68- نفسه، ص: 148
69- نفسه، ص: 166
70- أنظر “رائحة الموت”، من الصفحة: 71 إلى الصفحة: 83
71- حسن بحراوي: بنية الشكل الروائي، السابق، ص: 175
72- رائحة الموت، ص: 40
73- نفسه، ص: 41
74- نفسه، ص: 150
75- سورة المؤمنون، الآية: 112
76- نفسه، الآية: 113
77- سورة الكهف، الآية: 19