الإبداع يولد من رحم المعاناة، فكلما قمنا بالتعمق في قراءة الأدب الإفربقي تقفز إلى أذهاننا هذه المقولة، نعم إن هذه الشعوب التي عانت من ويلات الاستعمار هي الأكثر قدرة على إنتاج كم أدبي متنوع يصور وينقل هذه المآسي بشفافية عالية، ودرجة مفرطة في الصدق مما جعل الأدب الإفريقي يتميز بحضور لافت بخصوصيته الإبداعية لما يحفل به من تراث غني ومتعدد بلغات محلية مختلفة تم حصرها في عشر مجموعات أساسية تضم كل مجموعة منها عدداً كبيراً من اللهجات، مع ملاحظة مهمة ان معظم اللغات الإفريقية غير مكتوبة، باستثناء اللغة السواحلية التي تعتبر اللغة الوحيدة من لغات البانتو التي دوّن بها تاريخ الأفارقة الناطقين بها قبل الاستعمار الغربي للقارة، ويعتبر شعبان روبرت Shaaban Robert من تانجانيقا من أعظم كتاب السواحيلية في القرن العشرين ولقد قام بالجمع بين عناصر الثقافة الإسلامية والغربية، وقد عمد المستعمر الأوربي على تشجيع استخدام هذه اللغات المحلية كوسيلة لخلق التفرقة بين القبائل، وقام بمحاربة اللغة العربية خاصة، وسعى إلى فرض لغته وثقافته في المناطق المستعمرة، كل هذه العناصر مجتمعة شكلت سمات لهذا الأدب من أبرزها مشاعر الغبن والقهر والظلم وسمات أخرى مغايرة مثل الحس العالي بالكرامة والرغبة الطاغية في الحرية والتحرر واثبات الذات والهوية، ومن هذه النقطة يمكن القول ان الأدب الإفريقي منذ بداياته كان يوثق لتاريخ القارة ككل بداية من القصص الشعبية في إفريقية إلى جانب الشعر والأساطير والخرافة مروراً بالمسرح الذي عمل على تقديم مسرحيات صغيرة تروى الحكايات الشعبية، وتجسد التقاليد الإفريقية كما تقوم بدور المعارضة وتوجيه النقد لأنظمة الحكم الوطنية مثل مسرحية «مأساة الملك كريستوف» لسيزير (1964) و«الرئيس» لمكسيم دبيكا (1970) و«السكرتير الخاص» لجان بليا (1973). وايضا الإشارة لأهمية الأمثال عند الأفارقة وكيف تعتبر من فنون اتقان الحديث، فيقول شعب إيبو «إن الأمثال إدام الكلام، فهي زيت النخيل الذي تؤكل به الكلمات»
كل المراحل التي مرت بها القارة الإفريقية حاضرة يقوة من خلال الأداب بمختلف أنواعها، ولقد اتجهت فيما بعد الى التأسيس لفكرة المناداة بالحرية والعدالة والمساواة الى جانب فتح الباب على مصراعيه ليرى العالم الجانب المشرق من ثقافات وعادات هذه الشعوب المختلفة والجمال الذي يكمن في نفوس هؤلاء الناس الذين قدر لهم ان يصدر المستعمر صورة قاتمة وسلبية عنهم .
إفريقيا ومن بعد التحرر في منتصف إلى أواخر الخمسينيات وحتى عام 1975، ومع حدوث تغييرات مفاجئة وجذرية في أنظمة القارة حيث انتقلت من حكومات الفترات الاستعمارية إلى كونها دولاً مستقلة الانتقال الذي رافقه الكثير من العنف والاضطرابات السياسية مستغرقاً زمناً طويلاً من النضال والجراحات ومع ذلك لم ينضب معينها الأدبي، على العكس فحياة الإفريقي زاخرة بالكثير من مشاكل الآن وأحلام الغد وتداعيات الأمس مما جعل الأدباء والمفكرين في حالة نشاط دائم.
ومن خلال هذا المقال سألقي الضوء على نموذج من شاعرات إفريقيا بعرض جزءا من إنتاجها الأدبي الذي يتجلى فيه الكثير مما تم ذكره في هذا المقال إضافة إلى لمحات مهمة من سيرتها الذاتية:
– كوليكا بوتوما من جنوب إفريقيا وهي شاعرة ومخرجة مسرحية ومؤدية
– لديها مجموعة شعرية بعنوان “فقدان ذاكرة جماعي”صدرت في العام 2017 وأحدثت ضجة كبيرة وأثرث على المشهد الأدبي في جنوب أفريقيا وحظيت بشهرة واسعة جداً .
– المجموعة نفسها أصبحت مقرراً دراسياً في الجامعات في جنوب أفريقيا وفي أوروبا، وحصلت أيضاً على جائزة “جلين لوستشي” للشعر الأفريقي في ٢٠١٨، وتُرجمت إلى لغات عالمية كثيرة.
– تستلهم كوليكا بوتوما في شعرها التقاليد الشفهية في جنوب أفريقيا وتركز على إيصال شعرها عن طريق الأداء أمام الجمهور أو من خلال الفيديو والإعلام الاجتماعي، حيث تتميز بطريقة خاصة بالإلقاء وبأداء الشعر تستند إلى تقاليد وتجارب عريقة في هذا المجال في جنوب أفريقيا مع بعض التأثيرات من ما يدعى بشعراء السلام (Slam) في أمريكا وهم الشعراء الذين يتنافسون في أدائهم وإلقائهم للشعر أمام الجمهور.
– تتعاون بوتوما مع فنان الفيديو جاريد كلينهاس والمصورة أنديساوا مكوسي لتقدير أداءات وتمثيلات بصرية لقصائدها من خلال مواقع مشاركة الفيديوهات، ما يولد تأثيرات فورية وتفاعلية تحوّل الشعر من مونولوج إلى حوار تفاعلي.
– اعتبرت كوليكا بوتوما صوت النسوة المهمشات في جنوب أفريقيا وضحايا العنف والإجرام والسيطرة الذكورية والسلطوية والإتجار بأجساد النساء وتحويلهن إلى سلع، الصوت الكاشف والمضيء والفاضح لكل الممارسات التي أدت إلى تهميش النساء والتضييق على حرية الجسد الإنساني.
****
هذه البلاد تدفننا قبل أن نولد .
١٩٩٤: قصيدة حب
أريد شخصاً ينظرُ إليَّ
كما ينظرُ البيضُ إلى مانديلا.
ويتمسّك بذكراي
كما يتمسّكُ البيض بميراث مانديلا.
أريد عاشقاً يبني جزيرة روبن في فنائي الخلفي
يقنعني أن لديّ حديقةً وهواء عذباً،
وقوس قزح حرية.
أريد عاشقاً من نوع أعضاء “لجنة الحقيقة والمصالحة”.
لا تعرفُ الحبّ
إلا إذا أُحببت كمانديلا.
لا تعرف الخيانة
إلا إذا أُحببت كمانديلا
لا تعرف أكل الخراء
إلا إذا أُحببت كمانديلا
لا تعرف ثقب المؤخرة
إلا إذا أُحببت مثله.
إن أحد الرواسب الكثيرة للعبودية:
هو أن تُحبَّ كمانديلا.
متعة سوداء
تعرّضْنا للضرب من أجل ذنوب بعضنا البعض
صفعتْنا مقاطعُ الكلمات وكلمة الله
قبل أن يعني الظلام
وقت العودة إلى المنزل.
كانت فرشةُ جدتي تعرف جميع
أخوتي
وأبناء عمي
وأطفال الجيران
وأنفاسَ الصباح بالاسم.
فرشةٌ وحيدة
مفروشة على الأرض
كانت تكفينا جميعاً.
كنا نضع الأيراما على قطع خبزٍ
تُلَفُّ على شكل سجق
نأكلها مع شاي الروبيوس الأحمر
دون أن نسأل عن الجبنة
وكنا نشبع.
كنت أنا وأبناء عمي
نجلس حول إناء كبير من الفاصولياء المحلاة
كل بملعقته
وكان ماء السكر يكمل الوجبة
كنا نعيش في المنزل
ولم ينقصنا أي شيء.
لكن أليس من سخريات القدر،
أنهم حين يسألون عن الطفولة السوداء
فإن كل ما يهمهم هو الألم،
كما لو أن أوقات المتعة لا قيمة لها.
أكتبُ قصائد حبٍّ أيضاً،
لكن كلّ ما تريدونه هو أن تروا فمي
يتمزّق مفتوحاً من الاحتجاج،
كما لو أنه جرحٌ
يعبّر عن فرحه
بالصديد والغرغرينا.
كل ثلاث ساعات
قبل أن نُولد تدفننا هذه البلاد
تنادينا بأسماء أوراق نعْينا
قبل أن تُنادينا بأسمائنا.
تدفع النساء
إلى العيش في توتّر وعصبية،
إلى رفع حراستهنّ إلى الدرجة القصوى.
ثمة أجهزة أمنية تحرس نظاماً منهاراً
ثمة نظام منهار يمتلك قوة مفرطة
تُترجم إلى سلطة ببنادق
لقتل الأزواج.
مكالماتٌ هاتفية
تقدم تفاصيل
ومعلومات عن مفقودين
لا يتابعها أحد.
مرآبات فيها أطفال رضّع
يجب أن يكونوا في المدارس.
سيارات تحتوي على أدلة،
أدلة من دون سلطة
تستخدمها للمقاضاة.
مكاتب بريد بأسلحة،
مراكز تسوّق بخاطفين،
مراحيض بأشلاء،
أشلاء ليس عليها تاريخ انتهاء الصلاحية.
نوادي بتجار مخدرات،
أزقة ليس فيها إضاءة كافية،
وحتى إذا كانت الأضواء كلها منارة لن تشعر بالأمان.
تستقلُّ سيارات الأوبر مذعوراً
وتركب سيارات التاكسي بجنون ارتياب
تمشي حاملاً مسدس الصعق الكهربائي
وضمن مجموعة في وضح النهار
في أمكنة تظن أن الأمر لن يحدث فيها.
قبورٌ دُفنت فيها فتيات
في ريعان الصبا،
بوحشية رهيبة
من المروع جداً الحديث عن ذلك،
أو توثيقه أو العثور عليهنّ،
أو تحديد منطقة خطر
ذلك أن مناطق الخطر
تتنكر كمناطق أمان
وتعجّ مناطق الأمان بالقتلة،
قتلة هم رجالٌ مكتملون للزواج.
مدارس يعمل فيها مشتهو أطفال
مشتهو أطفال يحملون شهادات
للعمل مع الأطفال
قاعات محاضرات بمتحرشين
محطات بحيوانات مفترسة
مواقع بناء برجال كبار في السن بما يكفي كي يفهموا “كلا!”
كنائس برجال يستخدمون صلواتك
من أجل الأمان لإركاعك على ركبتيك
وذراعاك مرفوعتان.
(كل ثلاث ساعات لا يصل أحدنا إلى البيت)
هذه البلاد تشنقُ كرامتنا في منتصف الطريق
تلوّح بأجسادنا كدروس يجب تعلمها،
كلحظات يجب أن تعلمنا شيئاً ما
كمقياسات، واختبارات، وتجارب.
لستُ هنا كي أعلمكم
كيف تستأصلون حنجرة أمي وهي مدفونة
كي تعوضوها عن عذابها وحزنها بمنح وسياسات تم إصلاحها،
يتجمع عليها الغبار حتى قبل أن تُنسخ.
هذه البلاد تدفننا قبل أن نولد،
تنادينا بأوراق نعينا
قبل أن تنادينا بأسمائنا.
———–
من المجموعة الشعرية (فقدان ذاكرة جماعي) ترجمة أسامة إسبر