تطرقت في مقالي الأخير الموسوم (من أساليب البعث الخبيثة (صورة وتعليق)) إلى تصاعد موجة النكات العنصرية والطائفية ضد مكونات شعبنا. فذكرت ما نصه: “ومن وسائلهم الخبيثة على سبيل المثال لا الحصر، هذه الموجة المستمرة من النكات البذيئة ضد مكونات شعبنا. فأهل الموصل بخلاء، والأكراد والدليم أغبياء، وأهل الجنوب “شروك ومعدان” جهلاء وسذج ومغفلين يمكن الضحك عليهم، ولا يفيدون لأي شيء!! وأهل الناصرية أصحاب الشجرة الخبيثة، وهكذا يواصلون الحط من أبناء شعبنا بحجة النكات، وهي بالتأكيد ليست بريئة، بل وراءها أغراض ومقاصد سياسية تسقيطية دنيئة للحط من قدر شعبنا وتدمير ثقته بنفسه. وهذه هي نظرة البعثيين إلى شعبنا، فمن أبقيتم إذنْ؟”
وقد علق عشرات القراء الكرام بتعليقات معظمها مؤيدة، والقليل منها معارضة أو حتى غاضبة وإتهامية. وفي هذا المقال أود أن أجيب على رسالة استلمتها من صديق عزيز، يجمع فيها خلاصة الآراء المعارضة والقابلة للنقاش، جاء فيها: “إن النكات التي تمس إخواننا الأكراد أو أهل الناصرية، أو المصالوه (أهل الموصل) هي قديمة ولا تؤخذ بمأخذ الجدية، وهي فقط من أجل النكتة. كما إني اعرف كثيراً من الأصدقاء الأكراد يكررون النكات على الأكراد ولا ينزعجون منها لأنهم يعرفون بأنها لا تحط من شأنهم، وهذه النكات موجودة عند شعوب أخرى، مثلا النكات التي توصف الأسكتلنديين بالبخل…الخ” انتهى.
أتفق مع الصديق في كل ما جاء في رسالته، وأشكره على ذلك، فبالتأكيد كانت النكات العنصرية موجودة في العراق قبل مجيء البعث بزمن طويل، وهي أيضاً موجودة في الشعوب الأخرى مثل مصر ضد أهل الصعيد، وإنكلترا ضد الأسكتلنديين والأيرلنديين…الخ، ولكن لا ينكر أن هذه الموجة حققت صعوداً صاروخيا في العراق في السنوات الأخيرة، وخاصة بعد سقوط الفاشية البعثية، بعضها في منتهى البذاءة والحقد العنصري الدفين، مستفيدين من الانترنت لتوزيعها على نطاق واسع، وهذا الصعود ليس بريئاً ودون أغراض سياسية.
ولا شك أن تصاعد موجة النكات العنصرية هي ظاهرة مؤلمة، ولها مدلولاتها الاجتماعية والسياسية، وكنت أتمنى لو تصدى لها أحد علماء الاجتماع، أو مختص في علم النفس الاجتماعي لدراسة هذه الظاهرة، وعدم تركها كأن شيئاً لم يكن.
يخطأ من يعتقد أن النكات العنصرية بريئة، ومن أجل الضحك فقط، بل هي عرضٌ مرضي symptom لمرض اجتماعي عضال في المجتمع. فبعد سقوط حكم البعث عام 2003 انكشفت لنا عيوب المجتمع، ولأول مرة يكتشف العراقيون عيوبهم على حقيقتها وبهذا الوضوح والفظاعة إلى حد الصدمة وعدم التصديق، لذلك أنكروها أول الأمر، وألقوا باللائمة على الأمريكان، بل وحاول البعثيون إلقاء اللوم على الأمريكيين حتى في المقابر الجماعية، والأعداد الهائلة من الأرامل والأيتام والمعوقين، ناكرين حروبهم الداخلية والخارجية طوال حكمهم، والتي أعادت العراق إلى ما قبل الثورة الصناعية، معتمدين في أكاذيبهم على ضعف ذاكرة البعض، ولكن هيهات، إذ لا يمكن حجب الشمس بالغربال كما يقول المثل.
كذلك من الخطأ تبرير هذه الظاهرة بحجة أنها موجودة في مصر وبريطانيا والبلدان الأخرى. فوجود وباء ما في بلدان أخرى لا يبرر السكوت عنه في العراق وتركه يفتك بأبناء شعبنا، بل يجب أن ينال الاهتمام لمكافحته.
إذَنْ، نحن أمام تركة خطيرة من مخلفات البعث وما قبله، وأمراض اجتماعية تتمثل في صراعات عنصرية وطائفية ومناطقية، وقد جاهدت الحكومات العنصرية والطائفية المتعاقبة، وبالأخص حكم البعث، تكريس هذه الأوضاع والتأثير على سايكولوجية الشعب العراقي للرضوخ لها والقبول بها كواقع يجب التعايش معه، وكالقدر المكتوب لا فائدة من معارضته، بل ووصم كل من يعترض عليه بالعنصرية والطائفية، واتهامه بأنه يعرِّض السلام الاجتماعي للخطر، وكأن السلام الاجتماعي مستتب الآن بفضل البعثيين وحلفائهم من أتباع القاعدة. لذلك، شئنا أم أبينا، فهذه الأمراض موجودة تنخر في كيان مجتمعنا، وتحتاج إلى فضحها لا التستر عليها، ومعرفة أسبابها ومعالجتها، وليس إتباع سياسة النعامة في دفن رأسها في الرمال وترك مؤخرتها للصياد.
وكما ذكرنا مراراً، أن البعثيين عملوا وتفننوا أكثر من غيرهم لتوظيف الموروث الاجتماعي لأغراضهم التدميرية. والتراث العربي- الإسلامي حافل بكل شيء، وكأي شيء آخر، فهو سلاح ذو حدين، يمكن استخدامه للخير والشر معاً. وبما إن البعثيين هم أشرار، بدليل أنهم ألحقوا أشد الدمار بشعبنا طوال حكمهم وما بعد سقوطهم المدوي، فقد استخدموا التراث لأغراض شريرة. فخلال الحرب العراقية- الإيرانية، راحوا ينبشون في كتب التراث واستخرجوا منها مصطلحات مثل: القادسية، والقعقاع، والمثنى بن حارثة الشيباني قاهر الفرس المجوس…الخ، وبعد سقوطهم سمعنا بمصطلحات أخرى مثل: الشيعة الصفوية، وأحفاد العلقمي، وعملاء إيران، والهلال الشيعي… وغيرها كثير.. كما ونقرأ في أدبياتهم السياسية تعابير مدمرة مشككة بولاء مكونات شعبنا، فالكرد إسرائيل ثانية وشوكة في خاصرة العرب، والشيعة هم الرتل الخامس لإيران.. وهكذا دواليك في التشكيك في ولاء العراقيين لوطنهم.
ولذلك نقول لأصحاب النوايا الحسنة، أنه حتى لو كانت هذه النكات العنصرية موجودة في الماضي وبقصد الضحك، فهذا لا يبرئها من أغراضها العنصرية السياسية، وتأثيرها السلبي على سايكولوجية شعبنا، كما ولا ينفي كون أن البعثيين استغلوا هذا التراث استغلالاً بشعاً لأغراضهم السياسية والطائفية الدنيئة ضد مكونات شعبنا. وحتى لو استلمنا هذه النكات من أصدقائنا الأكراد بقصد الضحك، فهذا لا يعني أن الأكراد يستأنسون لها.
كما وأرجو أن لا يفهم من كلامي هذا أني ضد النكتة البريئة الذكية والمرح، إذ كما قال نيتشة: “في كل إنسان حقيقي يختبئ طفل صغير يبحث عن المرح”، ولكن النكتة يجب أن لا تكون على حساب كرامة الآخرين.
والشيء بالشيء يذكر، فقد أخبرني صديق بطريفة مفادها، أنه كان في لقاء قبل عشر سنوات مع عدد من الأصدقاء بينهم صديق كردي، فبدأ أحدهم يلقي نكات عنصرية ضد الأكراد، وكان الصديق الكردي يضحك أكثر من غيره، فلما سألوه عن سبب ضحكه رغم أنها ضد الأكراد، فأجاب: كاكا أنا أجمع كل هذه النكات ولما أذهب إلى السليمانية، أحوِّلها ضد العرب، وأشبع ولائم من ورائها!!!
وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الأخوة الأكراد ليسوا بأغبياء كما يصورهم مؤلفو تلك النكات العنصرية البذيئة، إذ قارنوا بين ما حققه قادة الأكراد بعد سقوط الفاشية من منجزات عظيمة في كردستان: نشر الأمن والإعمار، مقابل ما عمله القادة العرب بأنفسهم وببلادهم من صراعات طائفية بغيضة من قتل وتدمير.
لقد آن الأوان أن ينتبه العراقيون إلى أمراضهم الاجتماعية والسياسية، وتشخيصها والعمل الجاد على إيجاد العلاج الناجع لها، وليس نكرانها ودفنها في الرمال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
مقال ذو علاقة بالموضوع:
د.عبدالخالق حسين: من أساليب البعث الخبيثة (صورة وتعليق)
http://al-nnas.com/ARTICLE/KhHussen/3v7.htm
وقد علق عشرات القراء الكرام بتعليقات معظمها مؤيدة، والقليل منها معارضة أو حتى غاضبة وإتهامية. وفي هذا المقال أود أن أجيب على رسالة استلمتها من صديق عزيز، يجمع فيها خلاصة الآراء المعارضة والقابلة للنقاش، جاء فيها: “إن النكات التي تمس إخواننا الأكراد أو أهل الناصرية، أو المصالوه (أهل الموصل) هي قديمة ولا تؤخذ بمأخذ الجدية، وهي فقط من أجل النكتة. كما إني اعرف كثيراً من الأصدقاء الأكراد يكررون النكات على الأكراد ولا ينزعجون منها لأنهم يعرفون بأنها لا تحط من شأنهم، وهذه النكات موجودة عند شعوب أخرى، مثلا النكات التي توصف الأسكتلنديين بالبخل…الخ” انتهى.
أتفق مع الصديق في كل ما جاء في رسالته، وأشكره على ذلك، فبالتأكيد كانت النكات العنصرية موجودة في العراق قبل مجيء البعث بزمن طويل، وهي أيضاً موجودة في الشعوب الأخرى مثل مصر ضد أهل الصعيد، وإنكلترا ضد الأسكتلنديين والأيرلنديين…الخ، ولكن لا ينكر أن هذه الموجة حققت صعوداً صاروخيا في العراق في السنوات الأخيرة، وخاصة بعد سقوط الفاشية البعثية، بعضها في منتهى البذاءة والحقد العنصري الدفين، مستفيدين من الانترنت لتوزيعها على نطاق واسع، وهذا الصعود ليس بريئاً ودون أغراض سياسية.
ولا شك أن تصاعد موجة النكات العنصرية هي ظاهرة مؤلمة، ولها مدلولاتها الاجتماعية والسياسية، وكنت أتمنى لو تصدى لها أحد علماء الاجتماع، أو مختص في علم النفس الاجتماعي لدراسة هذه الظاهرة، وعدم تركها كأن شيئاً لم يكن.
يخطأ من يعتقد أن النكات العنصرية بريئة، ومن أجل الضحك فقط، بل هي عرضٌ مرضي symptom لمرض اجتماعي عضال في المجتمع. فبعد سقوط حكم البعث عام 2003 انكشفت لنا عيوب المجتمع، ولأول مرة يكتشف العراقيون عيوبهم على حقيقتها وبهذا الوضوح والفظاعة إلى حد الصدمة وعدم التصديق، لذلك أنكروها أول الأمر، وألقوا باللائمة على الأمريكان، بل وحاول البعثيون إلقاء اللوم على الأمريكيين حتى في المقابر الجماعية، والأعداد الهائلة من الأرامل والأيتام والمعوقين، ناكرين حروبهم الداخلية والخارجية طوال حكمهم، والتي أعادت العراق إلى ما قبل الثورة الصناعية، معتمدين في أكاذيبهم على ضعف ذاكرة البعض، ولكن هيهات، إذ لا يمكن حجب الشمس بالغربال كما يقول المثل.
كذلك من الخطأ تبرير هذه الظاهرة بحجة أنها موجودة في مصر وبريطانيا والبلدان الأخرى. فوجود وباء ما في بلدان أخرى لا يبرر السكوت عنه في العراق وتركه يفتك بأبناء شعبنا، بل يجب أن ينال الاهتمام لمكافحته.
إذَنْ، نحن أمام تركة خطيرة من مخلفات البعث وما قبله، وأمراض اجتماعية تتمثل في صراعات عنصرية وطائفية ومناطقية، وقد جاهدت الحكومات العنصرية والطائفية المتعاقبة، وبالأخص حكم البعث، تكريس هذه الأوضاع والتأثير على سايكولوجية الشعب العراقي للرضوخ لها والقبول بها كواقع يجب التعايش معه، وكالقدر المكتوب لا فائدة من معارضته، بل ووصم كل من يعترض عليه بالعنصرية والطائفية، واتهامه بأنه يعرِّض السلام الاجتماعي للخطر، وكأن السلام الاجتماعي مستتب الآن بفضل البعثيين وحلفائهم من أتباع القاعدة. لذلك، شئنا أم أبينا، فهذه الأمراض موجودة تنخر في كيان مجتمعنا، وتحتاج إلى فضحها لا التستر عليها، ومعرفة أسبابها ومعالجتها، وليس إتباع سياسة النعامة في دفن رأسها في الرمال وترك مؤخرتها للصياد.
وكما ذكرنا مراراً، أن البعثيين عملوا وتفننوا أكثر من غيرهم لتوظيف الموروث الاجتماعي لأغراضهم التدميرية. والتراث العربي- الإسلامي حافل بكل شيء، وكأي شيء آخر، فهو سلاح ذو حدين، يمكن استخدامه للخير والشر معاً. وبما إن البعثيين هم أشرار، بدليل أنهم ألحقوا أشد الدمار بشعبنا طوال حكمهم وما بعد سقوطهم المدوي، فقد استخدموا التراث لأغراض شريرة. فخلال الحرب العراقية- الإيرانية، راحوا ينبشون في كتب التراث واستخرجوا منها مصطلحات مثل: القادسية، والقعقاع، والمثنى بن حارثة الشيباني قاهر الفرس المجوس…الخ، وبعد سقوطهم سمعنا بمصطلحات أخرى مثل: الشيعة الصفوية، وأحفاد العلقمي، وعملاء إيران، والهلال الشيعي… وغيرها كثير.. كما ونقرأ في أدبياتهم السياسية تعابير مدمرة مشككة بولاء مكونات شعبنا، فالكرد إسرائيل ثانية وشوكة في خاصرة العرب، والشيعة هم الرتل الخامس لإيران.. وهكذا دواليك في التشكيك في ولاء العراقيين لوطنهم.
ولذلك نقول لأصحاب النوايا الحسنة، أنه حتى لو كانت هذه النكات العنصرية موجودة في الماضي وبقصد الضحك، فهذا لا يبرئها من أغراضها العنصرية السياسية، وتأثيرها السلبي على سايكولوجية شعبنا، كما ولا ينفي كون أن البعثيين استغلوا هذا التراث استغلالاً بشعاً لأغراضهم السياسية والطائفية الدنيئة ضد مكونات شعبنا. وحتى لو استلمنا هذه النكات من أصدقائنا الأكراد بقصد الضحك، فهذا لا يعني أن الأكراد يستأنسون لها.
كما وأرجو أن لا يفهم من كلامي هذا أني ضد النكتة البريئة الذكية والمرح، إذ كما قال نيتشة: “في كل إنسان حقيقي يختبئ طفل صغير يبحث عن المرح”، ولكن النكتة يجب أن لا تكون على حساب كرامة الآخرين.
والشيء بالشيء يذكر، فقد أخبرني صديق بطريفة مفادها، أنه كان في لقاء قبل عشر سنوات مع عدد من الأصدقاء بينهم صديق كردي، فبدأ أحدهم يلقي نكات عنصرية ضد الأكراد، وكان الصديق الكردي يضحك أكثر من غيره، فلما سألوه عن سبب ضحكه رغم أنها ضد الأكراد، فأجاب: كاكا أنا أجمع كل هذه النكات ولما أذهب إلى السليمانية، أحوِّلها ضد العرب، وأشبع ولائم من ورائها!!!
وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الأخوة الأكراد ليسوا بأغبياء كما يصورهم مؤلفو تلك النكات العنصرية البذيئة، إذ قارنوا بين ما حققه قادة الأكراد بعد سقوط الفاشية من منجزات عظيمة في كردستان: نشر الأمن والإعمار، مقابل ما عمله القادة العرب بأنفسهم وببلادهم من صراعات طائفية بغيضة من قتل وتدمير.
لقد آن الأوان أن ينتبه العراقيون إلى أمراضهم الاجتماعية والسياسية، وتشخيصها والعمل الجاد على إيجاد العلاج الناجع لها، وليس نكرانها ودفنها في الرمال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
مقال ذو علاقة بالموضوع:
د.عبدالخالق حسين: من أساليب البعث الخبيثة (صورة وتعليق)
http://al-nnas.com/ARTICLE/KhHussen/3v7.htm
العنوان الإلكتروني للكاتب: Abdulkhaliq.Hussein@btinternet.com
الموقع الشخصي للكاتب: http://www.abdulkhaliqhussein.com/