والمعرض معيار آخر، يمزج بين الإتجاه الفني في “علم البصريات” وتبيان الموقف في إطاره السياسي والبحثي لكسر حاجز الصمت والغموض. يضم أفلاماً ورسوم تشكيلية وقطع نحتية وصور تحمل إثارة فيزيولوجية تدعو للتأمل والإنتقال إلى فضاء بالغ الخيال. لكنه يسجل من حيث البنية وقراءة الواقع أيضاً، أسلوباً جديداً يجمع بين “خاصية النظرية ومسألة التطبيق”. إذ قام على هامش المعرض بعض المشاركين خلال عرض الأعمال في الصالة بإلقاء محاضرات تنظيرية وحرفية محورية إتجهت نحو نقل مفهوم الصورة إلى الواجهة. وبالتالي وضعنا أمام اكتساب تجربة جديدة تقود نحو بواعث الاتصال البصري والنظري لإكتشاف دلالات الصورة، مقوماتها وأهدافها. قام بدعم المعرض مجموعة مؤسسات منها: معهد رامون يول ووزارة الثقافة والخارجية الاسبانية ومؤسسة لسوسيداد الحكومية وسفارة إسبانيا في برلين، كذلك المعهد الفرنسي ومكتب دي لا الفرنسي للفنون التشكيلية والثقافة.
إثنان من المشاركين سيميون سايث رويز Simeón Saiz Ruiz وآنجل كانتانا Àngel Quintana هما خبيران يعملان كنقاد في وسائل الصحافة والإعلام بالإضافة إلى ممارستهما الفنون في إسبانيا، قاما بتنظيم ندوة تنظيرية هامة في قاعة المعرض حضرها نخبة من المهتمين والمتخصصين والإعلاميين، تناولا فيها مجموعة قضايا محددة كالمفاهيم الجمالية للصورة والمناهج العاملة على التفاعل بين التوثيق والتحليل من زاوية التمييز بين القصد والنتيجة، أو النشاط الترابطي الذي يفسر المعاني والخواطر، على أن الصور تمثل عادة رؤى ذات مغزى قد يتجانس فنياً ورمزياً، لكنه وبسبب دواعٍ مقصودة كالتمويه والخداع لا يتطابق إلى حدٍ كبير مع الواقع. وإلى أن الصورة والصورة المتحركة كنتاج فني يفترض أن تقوم على بحث علمي يدرك النتائج الاجتماعية ليتم تحويلها إجرائياً إلى نتائج ملموسة عن طريق الحاسة البصرية. ولعل من بين اهم المسائل التي تناولها المحاضرون على هامش المعرض الكشف الزلزالي لأساليب “الدول العظمي” في العلاقات الدولية والتحكم بوعي الناس من خلال آليات الضبط الإعلامي وإستعمال “الصور” سياسياً كواحدة من الإستراتيجيات لتحقيق مآربها وبعث الخوف والريبة لتبرير إستخدام القوة وإتخاذ قرار التصادم العسكري وشرعنة الحرب كما حدث ويحدث في فلسطين والعراق وأفغانستان، إذ لعبت الصورة دوراً هاماً في كشف الحقائق مثلما أستعملت للتزييف والإفتراء. بهذا المعنى، فإن أعمال المعرض من الناحية الفنية هو محاولة لإلتقاط رؤية جديدة لقراءة اللغة الفنية والشكلية للصورة من منظور متعدد التخصصات ووجهات نظر بحثية تهدف إلى تفكيك أسرار الكثير من القضايا المتعلقة بالشرعية الجماعية لبلوغ مواجهة الإعتقاد الساذج “الثقة العمياء” التي تسوقُها العديد من المؤسسات المتخصصة في إنتاج “الصور” لأغراض شيطانية مركبة وإثارة حرب نفسية تحت تأثير السوسيولوجيا البصرية، دون تشخيص الواقع الاجتماعي الذي يبدو من أكثر الأعراض إضطراباً.
أحد عشر فناناً وناقد، جاءوا برلين ليس لعرض نتاجهم الفتوغرافي وما يمتاز به هذا الفن في بعده الخفي والمتجلي من سحر ومهارات جمالية وحرفية وحسب، إنما ذهبوا إلى أبعد الحدود في الكشف عن دور “لغة” الصورة ومنها الصور ثلاثية الأبعاد أو المتحركة “الفيلم” لفضح ما هو خفي من مشاكل غير ملائمة تقوم الدولة بإنمائها داخل المجتمع، تساعد على إثارة الأزمات النفسية والفكرية. أيضاً تسخير الصورة لأدوار عسكرية على الصعيد الدولي وتعريض بشكل درامي مجتمعات للخوف وإبادة جماعية بأسلحة الدمار الشامل.. لقد برع المشاركون في توظيف التناوب بين صور ثنائية متكررة تفسر معنى “الحياة والموت” أو ثنائية “البصري واللغوي” الذي يمتلك بواعث الإتصال وإكتساب أدوات لفهم العالم ومحيطه الإجتماعي. كما برعوا في سياق الإحتكام المشروع للصورة، ليس كونها نتاج ذو إيضاءات فنية، إنما كوسيلة تعبير لها خبرتها الهامة في توضيح الرؤية من زاوية إعلامية على نحو متزايد. تضعنا أمام معنى ” الدلالة” في تفسير “النظرية والتطبيق” في إطار صناعة الصور الذي تمارسه الشركات التجارية لحسابات سياسية وعسكرية بهدف بث الرعب والتمويه.
عصام الياسري
برلين في 15 أكتوبر 2010