لا ينتهي الشرُّ تمامًا، إلاّ إذا انتهى في كلّ مكانٍ.
أبحرت السفينةُ بُعيد الفجر، بكلّ الخيّرين الذين ضاقت صُدورهم عن احتمال أهلهم، فضاقت عليهم الأرضُ الوسيعةُ بين البحر والغابات والسّهوب والصحراء. أبحرت لتترك وراءَها القريةَ ومن أفسد فيها من أهلها العُصاة، أصحاب الذّنوب والخطايا والآثام.
حين قطع أحدُ التّقاة المتحمّسين الحبلَ الذي كان يشدُّ سفينة نجاتهم إلى صخرة على الشاطئ، نظرَ نظرتهُ الأخيرةَ الغائمةَ إلى إخوته الأشرار الذين تجمّعُوا على الرّبوة، تحت شجرة عظيمة لتوديعهم، ثمّ أمر برفع الأشرعة، فانطلت السفينةُ نحو اليمّ متثاقلةً، ثمّ ابتعدت حتى غابت في الأفق. أُخِذَ الأشرارُ بمشهد السّفينة المُبحرة بإخوتهم الخيّرين التّقاة الذين لم يقترفوا ذُنوبًا تذكرُ أمام النّاس. أو أقلعوا عن كلّ الآثام والخطايا. فهم لم يقتلوا إلاّ بجريرة، ولم ينكحوا إلاّ بعقد. ولم يأكلوا غلّةً من بستان جارٍ. ولم يشربُوا نبيذا من شعيرٍ، أو خمرًا من عنبٍ.
فبعد أن اعتزل التّقاةُ أهلَهُم، اجتمعُوا على ما يرونهُ الحقَّ والخيرَ. ثمّ دعوا إخوانهم إلى طريقتهم في الاستقامة ونحلتهم في التّقوى. ولكن، حين يئسُوا من استجابة أغلب أهلهم إلى مسلكهم، ووجدُوا في هدايتهم عنتًا، عزموا على الهجرة هروبا وخوفا من أن يصيبهم قومهم بفتنة في نحلتهم. وهكذا قرّرُوا بناءَ سفينة تأخذهم إلى عالمٍ بكرٍ، يعيشون فيه آمنين من الآثام والشرورِ.
أخذ القساةُ المُذنبونُ يُراقبون السفينة المُبحرة غاضبين. وكان الأطفالُ أكثر حزنًا وحنقًا. فقال أحدُهم، وكان قد فضّل البقاء مع أمّه المُتّهمة بالغناء: – سُحقًا أيّها الحَمقى. اغربُوا عنّا إلى جنّتكم البائسةِ. فقالت أمّه، واضعةً يدها على رأسه، مُهدّئةً من غضبه:
– لا تغضب لهُروبهم يا بُنيّ، لطالما لوّثُوا صفاء الليل بأفعالهم المُشينة، والنهار بالنّفاق والرّياء. ثمّ بسقت في اتجاه البحر. غضب رجالٌ أشرارٌ من إخوتهم التّقاة المُغادرين. وحزنت نسوةٌ تركهنّ الأزواجُ والأولادُ، وبكى صبيٌّ، يمسكُ بحجر، قائلا لكبيرهم في الشرّ:
– هل ستُهاجمنا الضفادعُ والجرذانُ؟ هل سيلتهمنا الجرادُ وتفتك بنا الديدانُ؟ هل أخذوا الله معهم في سفينتهم حقّا؟ لطالما كان الله معي. كنت أناديه كلّما احتجتُ، وأناجيه كلّما خفت أو اشتقت. فهل سيتركني الله وحيدًا؟ بكت سيّدةٌ المذنبات، ونشجت امرأة بغيٌّ في سرّها، وهمست صَبيّةٌ عاشقةٌ للنّسيم، دامعةً:
– لا تُغرقهم يا الله. احمهم من شرّ الأمواج والعواصف. ففي السفينة قلوبٌ تنبض بالحياة. اجعلهم في رعاية عينك التي لا ترفّ ويدك التي لا ترتجف. فأنا هنا مع أمّي وبعض أهلي، لا أخشى سطوةَ الموج ولا وحشةَ البُعد. حينها قال شيخ طاعن في المعاصي، وهو يتأمّل الزّبد المتلاشي وراء السفينة:
– لا ينتهي الشرّ تمامًا، إلاّ إذا انتهى في كلّ مكانٍ. فكيف وقد أخذوا منه الكثير في سفينتهم التي ما استطاعت حَملَنا، وفي قلوبهم التي ما استطاعت تَحمُّلنا؟ لا تغضب يا بُنيّ. ولا تعتقد أنّهم غادروا تمامًا. لا تبكي صغيرتي، فقد نكون، نحن أيضا، مُغادرين في مراكب قُلوبهم. لا تجزعوا. هنا في القلوب المُفعمةِ بالحبّ والحياة.. هنا في العقول الحَيرى والأجساد المُتشوّقة الصّادقة.. هنا أيضا يوجد الله.
كان كبيرهُم يُردّد على أسماعهم، من على الهضبة المكسوّة بأشجار الصفصاف ونبات الزعتر والعرار، حكمًا في المحبّة والغفران، بينما كانت الصبيّة الباكيةُ والطفلُ الغاضبُ ينظران إلى أسراب الطّيور المنبثقة من أفق ورديّ، فوق السفينة الغائمة في الضباب. كانَا يرمُقان في ذُهولٍ الكائنات الشفّافةَ المُحلّقةَ نحوهم بأجنحتها القطنيّة، لتقضّي معهم فصل الشتاء في البُحيرة الواسعة بين الهضبة المُتعاليةِ وغابات الصفصافِ. وحين حلّقت الطّيورُ الورديّةُ خفّاقةً، فوق رُؤوسهم، سقط حجرُ الغضب من يد الصبيّ، وجفّت دُموعُ الحزنِ في مُقلتيْ الصبيّة، وانطلقا مُرفرفين نحو ضفافِ البُحيرة، لاستقبال الطيور المُهاجرة إليهم، بحركاتٍ راقصةٍ وقلوبٍ وسعت بالحُبّ كلَّ شيءٍ.
تونس في 30 جوان 2021