ابو ايوب يستقر على دوبة اعلى من دوبتنا الصارعة , اتو بها ووضعوها موازية لموقعنا ما عدا شق موجي بعرض متر لم يتبق مكان نصطاد فيه الا طرف دوبتنا الايسر وهو لا يتسع لاكثر من ثلاثة صيادين… رآه القيصر وحيدا متلفعا بقمصلة سوداء , يغطي راسه بقبعة سوداء كسرواله ..صياد محترف وحيد يحني رقبته للماء مركزا على اكثر من بلد رمى صناراتها بالماء… سطح الدوبة واسع تخلفت عليه اكياس بلاستيكية سوداء وبقايا عجين مفور وقطع من الورق المقوى يجلس عليها صيادون , وقناني ماء بلاستيكية واسلاك قاسية … اجتاز القيصر تلك المعرقلات وسلم على ابو ايوب ..<الاسماك لا تنكر >.. نعم انه موسم سيء…<اراك صبورا >(لا .. بل لدي مشاكل اهرب منها .. قبل ايام قصدت هذا المكان بعد المنتصف وبقيت حتى الرابعة تعبت فنمت على سطح الدوبة حتى اصحاني فجرا احد الصيادين ) …فاجابه القيصر <<اتذكر ذلك الصياد المدمن على الجسر الذي اقيم على سلسلة من الدوب .. يتلفنون له ليتغدى فيرفض الذهاب ..كان يصطاد وهو يغالب النعاس لانه اتى منذ الليل .. كنت انبهه حين يميل غافيا نحو النهر .. فيفز خدرا .. في مرة مضى وعاد فزعا \هل رايت وثائقي \ وقبل ان اجيبه عثر عليها وقال قبل ان يختفي <اكثر من مرة تهاويت للموج لشدة النعاس .. لهذا اضعها جواري >>. تحدث ابو ايوب للقيصر (وربك من ثلاث سنوات انا عاطل عن العمل.. معتمدا على المساعدات خاصة بعد انتشار الكورونا..انتم تصيدون ببلد واحد لكنك جالس, جالس فاشمر بلدين او ثلاثة …كنت التزم مئات الدوانم , ادير اكثر من بستان قبل الملوحة الفاتكة وتجريف الاراضي .. كنت عسكريا وعدت في اجازة , قصدت النهر واصدت كطانين خرج ذيلهما من كيس الطحين وحين رآهما والدي تعجب وضرب على كتفي (سبع انت ) \ لحظ قيصر بان ابو ايوب يكرر تلك الحكاية مرات على الصيادين \.. ولّت تلك الايام ..انا افضل من يعمل لفات الكص وحمص بطحينة في البصرة ..فتحت محلا للوجبات السريعة واغلقته .. الاعتماد على العمال يتعب ..
ابو ايوب دائم التنقل .. لا يستقر للصيد في مكان , وله كثير من المحبين , يتلفنون له او يقصدونه على الضفة فيمضي ليصطاد معهم في اماكن قصية ..مرة اعاره صديقه زورقا فظهر بعيدا عنا يتوسط الشط , متحملا لهيب الشمس .. وفي جو عاصف رآه القيصر يجذف جوار الضفة وهو يرتدي دشداشة بلون الكمون ..و يقول (لقد تورطت .. حظي اتى بي ) .. كان يضرب بالمجذاف بكل قوته لكن الزورق يجري ببطء..
ابدا يجيب السائلين (نعم صدت ..) حتى لو لم يصد ربما روح التفاؤل ..استغرق شهرا يصيد على زورق عاطل صبغ بلون ابيض .. عليك ان تجتازا اسلاكا ومعرقلات لتصله .. بيت يبعد مئتي متر عنه استغل اهله مساحة جواره وزرعوها بنبتات صغيرة .. وهم من منعوا الصيد على ذلك الزورق لكنهم يعرفون ابو ايوب ويحترمونه فلم يمنعه احد , يحيط بالزورق المرتفع اعشاب وقصب وشجيرات نهرية .. هنا مكث ابو ايوب لاكثر من شهر … وحيدا متصوفا مع الموج ..ينفث دخان سيجارته ويحدث نفسه .. يصل الصياد الماهر الى درجة لا يحتاج الى انيس او متحدث ..ربما تذكر تلك الحادثة الفريدة التي حدثت في حيه …قلما في شبابه كانت تجري احداث تترسخ في الذاكرة .. فالسكون والرتابة سمة الريف ..يتوالى الظلام والضياء دون كسوف او خسوف .. بلا هزات اجتماعية .. سعف ومنجل ودلو وانهار ..يحرثون ويبذرون وينتظرون ..الحدث الاهم في حياتهم هو الخدمة الالزامية .. لكن البنادق والاختلاط لا يغيرهم .. يتسرحون قافزين الى السقي والنوم المبكر..تمر بابو ايوب تلك الذكرى فقد وضع جلة مخضرات فجرا ومضى مشيا الى سوق القضاء ..الطريق الضيق المتعرج كان ترابيا لا يتسع لاكثر من دراجتين هوائيتين .. فرأى امرأة قتيلة مغطاة بعباءة وسط احد البساتين ..وحين تخلت الشمس عن صفرتها وسعى الساعون عثروا عليها وابلغوا الشرطة … يظهر ان صاحبها صحبها في الليل , وربما اختلفا فاجهز عليها بالسكين , او ان القاتل كانت له نية مبيتة ..حدث احد ستعلكه الالسن لربع قرن , يروى بعدة اساليب ويضاف له او ينقص منه .. هنا يتم العلاج بالاعشاب ويحتمي الناس بالمعوذات ( وجعلنا من بين ايديهم سدا ومن خلفهم سدا فاغشيناهم فهم لا يبصرون ) . , وهم يتّقون الحسد بالايات ( ومن شر غاسق اذا وقب )..ولا يعلقون من الفن على خصاصهم القصبية الا لوحات تثير الفجيعة والدمع (رضيع يذبحه سهم في كربلاء.. او امام مغلول اليدين على جمل في اتجاه الشام .. او مشهدا لخيم تحترق ونساء في الطف فزعات )..وهم يتطلعون الى الشهادة ويدعون الله في الصلوات الخمس ان يبلغوها .. ويتمثلون بقول شاعرهم <وجه الصباح عليّ ليل مظلم .. وربيع ايامي عليّ محرم ) ..وهم يفسرون الاحلام ببساطة <فالافعى عدو .. والرؤيا بميت تعني ان يطول عمره ).. اما نساؤهم فتخلقن لرضّعهن عدوا مهزوما <دللوول .. عدوك عليل وساكن الجول \الصحراء ) .ارواحهم مصهور النكبات لهذا يتصدر اللون الاسود حياتهم. مشفى الحي كله يتركز في مسعف واحد ..سال القيصر ابو ايوب (كيف تسعفون جريحا ؟) اجاب (عجلة واحدة في الحي نقصدها ..)..ابلوا عمرهم في تفسير (ولقد همت به وهم بها .. ). في رمضان يسالون رجال الحوزة عن التشريعات المتعلقة بالفراش …لا تقلقهم مسالة التوحيد ولا صراع الفرق والمذاهب وربما لم يخطر في بالهم المعتزلة ولا الازارقة .. لكنهم يحفظون معركة الجمل مثل محفوظة مدرسية ..ترسخت معتقداتهم مثل جبل يهزأ من العواصف .قولبتهم البساطة والرضا واختصروا الفلسفة بامثال يتوارثونها ..
——————–
مقطع من رواية (صنارة وانهار )