سؤال يدور في الذهن .. ما الذي يجعل الكاتب يلجأ للماضي ، ومن ضمنهم الروائي العراقي علي بدر .. إذ جعل أزمنة رواياته ( بابا سارتر/ 2001 ) أول رواية صدرت له و(شتاء العائلة/ 2002) و ( الطريق إلى تل المطران / 2003) وحتى الأخيرة ( الوليمة العارية/ 2005) تدور أحداثها في الماضي؟! لماذا هذا الإصرار على الماضي والتعلق بأهداب أزمنة قد ولت .. ألا يستحق واقعنا / حاضرنا (العنيف) سردنا ؟ ومَن سيكتبه غيرنا نحن الذين نعايشه لحظة بلحظة؟
هل هو ستار يتخفى خلفه ليقول ما يريد أن يقوله دون أن يحاسبه أحد في زمنٍ كان يحاسب الأديب على سطرٍ واحد يصف به الحاضر .. أم هو تقليد يزيد من صرامة ما يكتبه الكاتب .. أم هي الرواية التي تكتب نفسها وتجد زمانها ومكانها بعلم أو دون علم كاتبها ؟؟!
رواية ” بابا سارتر ” تندرج ضمن هذا السياق الزمني المذكور .. وقسمها الروائي لثلاثة أجزاء لثلاثة مراحل كتابية : رحلة البحث ورحلة الكتابة ورحلة الفيلسوف .
تبدأ الرواية بضمير المتكلم ( الباحث ) الذي سيدون سيرة فيلسوف كان يقطن محلة الصدرية إبان الستينات وتدوين سيرته ليس حباً فيه ،بل من أجل المال . يأخذ المعلومات والوثائق والصور والمذكرات اليومية من حنا يوسف و نونو بهار ، وبعدها يعمل خريطة جغرافية للمكان الذي سكنه وتجول فيه .. وأعطوه قائمة بالأسماء التي كانت متواجدة معه من أصدقاء وجيران ومعارف ، وحتى الخدم الذين كانوا يسكنون معه .
اكان ملزماً بجمع كل شيء عنه ، أن يتصيد كل ما كان يمكن صيده محاولاً تأليف حياة شخص أصبح تراباً .
تبدأ رحلة البحث .. وكانت صعبة حيث يهول البعض الحقائق أو لا يعترفون بفضائحه .. كانت المعلومات التي يجمعها متناقضات بحتة بين الفضائل والإعجاز والمراوغة والتعاطف، رغم أنهم كانوا يحتقرونه في حياته ، وهم بالأساس سببوا نهايته الفاجعة ( كلما كدت أمسك بشيء يهرب مني ، حتى وجدت نفسي في النهاية وكأني أضع يدي على قارورة سراب ) ص 22 .
وأدرك أن أهم الوثائق كانت بحوزة اثنين هما : المحامي بطرس سمحيري .. وهي وثائق رسمية تدله على النقاط المهمة في حياته ليستطيع من خلالها تخطيط المظهر الخارجي لحيات الفيلسوف . والأخرى بحوزة التاجر غانم زادة : استطاعت أن تعطي صورة تنظم المظهر الداخلي وحياته النفسية لأنها وثائق تخص أفكاره وعلاقاته السرية مع الراقصات وبنات الهوى والشخصيات العامة .
ويرافقه في رحلة البحث ( جواد ) حاملاً كاميرته على رقبته وكان مراقباً له أكثر من ما هو مرافق . وبدت ملامح شخصية الفيلسوف تتوضح : اسمه ( عبد الرحمن أمين شوكت ) سليل عائلة ارستقراطية أسقطتهم الثورة إلاّ أنه كان متمرداً على العائلة حتى قبل الثورة . وتنتهي رحلة البحث ، فما جمعه من أوراق ووثائق وصور ومعلومات وملاحظات كلها تتحدث عن فيلسوف الصدرية ( كلها تتحدث عن شخصية واحدة ، شخصية فذة ، شخصية فريدة من نوعها ، شخصية تختصرالعالم المأساوي لمجتمع بأكمله ، شخصية تقدم الوحدة التراجيدية لأمة بأكملها . ولكن كان عليّ – وأنا أدرك التأثير المدمر للشخصية الخيالية التي ترتفع إلى مصاف الآلهة – أن أخفف من هذا الارتفاع الشاهق الذي يحاول أن يردم الهوة الواسعة في نفوسهم ، ويذلل من مرارة خيبتهم .) ص 35 .
إذاً .. صادق زادة هو الذي يمول المشروع وليس حنا يوسف المفلس .. هذا ما نكتشفه في رحلة البحث الأولى .. ومن يعطي المال هو الذي سيضع النهاية بالطبع !
رحلة الكتابة : هي القسم الثاني من الرواية .. وتبدأ بضمير المتكلم أيضاً ، لكن ليس الباحث ، وإنما البطل نفسه .. يسترسل عبد الرحمن من نقطة البداية ليروي حكايته من بينه المطل على سوق الصدرية . كان عبد الرحمن وجودياً مثل سارتر يقلده في كل شيء ، فقد حلق شاربه وصفف شعره على شاكلة تصفيفة شعر سارتر .. إلى درجة انه عندما ينظر في المرآة يقول بحسرة : ماذا لو كان أعور لتتطابق الصورتان بكل الملامح !
ذهب لباريس لدراسة الدكتوراه في الفلسفة الوجودية في جامعة السوربون أواخر الخمسينيات ، لكنه عاد بزوجة شقراء فرنسية بدل شهادة الدكتوراه .. هذه هي عادة العراقيين – أو ربما عادة العرب أجمع – فبدل العلم الذي يذهبون من أجله يتركون العلم لأهل العلم والشهادة لبلادها ويجيئون يدلاً عنها بامرأة شقراء جميلة. وصدق نوري السعيد حين قال يوماً : فإن لم يكن بالعلم فبمصاهرة أهل العلم ، على الأقل !
ولم يكتب عبد الرحمن حرفاً واحداً لا بالفرنسية ولا حتى بالعربية، لأنه لم يكن قادراً على الكتابة .. كانت ثقافته شفاهية تستند إلى الكلام فقط وحين سألوه يوماً : لماذا يكتب سارتر؟ فأجاب: ( سارتر شيء ونحن شيء آخر.. ما يحق لسارتر لا يحق لغيره، سارتر يكتب لكي يترجم إلى العربية.. ومن ثم لنقرأ، وإلاّ فخبرني لو كان سارتر لا يكتب من أين لنا أن نسمع بسارتر؟.. سارتر شيء آخر. ) ص 52 .
ويتدخل الراوي ( الباحث ) ليتكلم لنا عن اسماعيل حدوب.. أقرب الشخصيات لعبد الرحمن سارتر- وهو طرف مكمل للشخصية- يحكي لنا عن نشأته وتدرجه من نشال وعتال وبائع صور خليعة من ثم العمل عند شاؤول التاجر اليهودي إلى لقائه بفيلسوف الصدرية.
وشاؤول هذا غير حياته و وفر له فرصة الاحتكاك بالأدباء من خلال صالونه. والإنسان – طماع- لا يرضى على ما هو عليه، لذا رأى ان النقلة الثانية في حياته ليست على يد شاؤول، فتخلى عنه وهرب والتحق بعبد الرحمن من أجل فكرة واحدة تسكنه، فكرة صلبة نحو الحب والجنس والسكر والعربدة والملذات.. وهذا كله موجود عند فيلسوف الصدرية، لكن في النهاية سيغادره شيئاً فشيئاً، والغريب جداً.. كيف سيغادره؟ لقد غادره إلى زوجته الفرنسية! ( وسارت الفضيحة في كل مكان، فعبد الرحمن مات، أو قُتل أو انتحر، وابنة خالة سارتر عادت إلى منزل سارتر، وكان المثقفون العراقيون يقولون إن سارتر لا يعرف أين يخبئ وجهه من الفضيحة، ولم يبقَ من عبد الرحمن سوى جاكتة صوفية سوداء كحلية موضوعة على أكتاف اسماعيل حدوب.) ص 117 .
ويعود الراوي ( البطل ) ليحكي لنا حكايته أيام كان في باريس.. لا شيء سوى السكر والعربدة والبحث عن النساء، فلسفتهم الوجودية كانت تعني شيئاً واحداً لا غيره ان الغرب يركب رجالنا في بلداننا، وهم يركبون نساءهم في بلدانهم !
يتطرق عبد الرحمن لطفولته.. كيف عاش وكيف تراكمت في نفسه تلك المغالطات، لقد أحل المرأة الضائعة في حياته بدل المرأة الطاهرة والسبب رؤيته لوالدته بين أحضان والده وهي عارية تماماً في حجرة النوم، هذه الحادثة أثرت على نفسيته ولازمه اشمئزاز من والديه، وهذه القسوة تجاه والديه هي التي قررت سلوكه فيما بعد، فجعلت منه شخصاً ضعيفاً ذو نزعة عدوانية سلبية وتجزيئية.. وألهمته نوعاً من الفوضى الجنسية والحزن والتمرد! وهكذا لعب الخدم دوراً كبيراً في فترة مراهقته.. كانت له صلة قوية بسعدون السائس وتعلق برجينا الخادمة بكل أحاسيسه وعواطفه واعتبرها مثاله الأنثوي العظيم .
وتعرف على نادية خدوري في مكتبة مكنزي أثناء زيارته لأهله في بغداد.. ودامت العلاقة ستة أشهر فقط من منتصف الصيف إلى منتصف الشتاء. أراد أن يجرب حظه مع امرأة شرقية بعد أن خاب أمله في علاقته مع نادلة مقهى فلور في باريس. لقد أحبها بصدق وشعر بأن الأمور معها بدأت تخرج من حدود سيطرته.. وأراد أن يتزوج منها، لكنها رفضتهُ.. وأيقن انه لايمكنه أن ينتزع منها شيئاً لا ترغب هي به.. لقد ردته نادية إلى حجمه الحقيقي، فشد حقائبه من جديد ليسافر إلى باريس سفراً استمر حتى عودته متزوجاً من ابنة خالة سارتر- كما كان يدعي – أما نادية فقد تزوجت من قريبها أدمون ليكتشف في ليلة الزفاف بأنها ليست باكر، فتصور بأنه عبد الرحمن هو الذي فعلها، رغم أنها أقسمت له بالمسيح بأنه ( مئير بن نسيم ) ومنذ أن كانت صغيرة.. وتوعد يومها أن يأخذ ثأره وثأر شرفه من عبد الرحمن .
ونأتي لأهم أمر في الرواية.. كيف مات أعظم فلاسفة الستينيات في العراق؟ كانت هناك ثلاث صور محتملة لوفاته : أولها.. انتحاره في لحظة يأس، أطلق على صدره الرصاص. والصورة الثانية.. هي المؤامرة التروتسكية من قبل عائلة خدوري انتقاماً لشرف ابنتهم نادية، لكن كيف؟ بالفضيحة ( كانت الفضيحة قاسية على عبد الرحمن، والوثائق تؤكد تاريخ وفاته بعد أسبوع واحد من هذه الحادثة.. جرمين رحلت إلى باريس، اسماعيل اختفى، أدمون هاجر إلى استراليا، ونادية لا يعرف عنها شيء، أكانت هذه الحادثة مؤامرة تروتسكية دبرها أدمون مع اسماعيل؟ ) ص 238 . أما الصورة الثالثة.. فهي الخيانة التي لم يحتملها.. خيانة اسماعيل له من تلقاء نفسه وخيانة زوجته !
رحلة الكتابة والبحث عن حياة فيلسوف الصدرية دامت ثلاثة أشهر مستمرة من قبل الباحث كي يكمل الموضوع كلياً ويحصل على المال الذي وعداه به حنا يوسف ونونو بهار . ومن هنا يبدأ القسم الثالث.. بعد أن صنع الباحث علاقة بين الكلمات والأشياء من خلال صور ووثائق ومعلومات جسدت خيال الشخصيات وأوهامها واستطاعت أن تخلق صور مكتملة في الذهن أذكى من الواقع بكثير.. وكان الباحث لاعب شطرنج ماهر أكثر من حماسة على اللوحة المرقعة من الجندي في ساحة المعركة .
وتبدأ المساومة حينما يأخذ حنا يوسف نسخة من السيرة وصادق زادة النسخة الثانية ولا يتمالك أعصابه عند قراءتها لدرجة أنه يشهر مسدسه ويصوبه لرأس الباحث ليكتشف لحظتها ونكتشف معه بأن صادق زادة هو اسماعيل حدوب! فما كان منه إلاّ أن يفلت من قبضته.. استدار للوراء وأطلق ساقيه للريح.. لتضيع جهوده كلها أدراج الرياح !
رواية ” بابا سارتر ” تندرج ضمن لعبة سردية وحده ( علي بدر ) يتقن مفرداتها وبيده مفاتيح أسرارها. صاغها حسب هواه وبمقتضيات نهوضه بعالم شخصياته ورؤاها وأحاسيسها ومتناقضاتها.. بمعنى أدق انه استطاع أن يخلق عالمه الروائي / الفني الخاص به .
هل هو ستار يتخفى خلفه ليقول ما يريد أن يقوله دون أن يحاسبه أحد في زمنٍ كان يحاسب الأديب على سطرٍ واحد يصف به الحاضر .. أم هو تقليد يزيد من صرامة ما يكتبه الكاتب .. أم هي الرواية التي تكتب نفسها وتجد زمانها ومكانها بعلم أو دون علم كاتبها ؟؟!
رواية ” بابا سارتر ” تندرج ضمن هذا السياق الزمني المذكور .. وقسمها الروائي لثلاثة أجزاء لثلاثة مراحل كتابية : رحلة البحث ورحلة الكتابة ورحلة الفيلسوف .
تبدأ الرواية بضمير المتكلم ( الباحث ) الذي سيدون سيرة فيلسوف كان يقطن محلة الصدرية إبان الستينات وتدوين سيرته ليس حباً فيه ،بل من أجل المال . يأخذ المعلومات والوثائق والصور والمذكرات اليومية من حنا يوسف و نونو بهار ، وبعدها يعمل خريطة جغرافية للمكان الذي سكنه وتجول فيه .. وأعطوه قائمة بالأسماء التي كانت متواجدة معه من أصدقاء وجيران ومعارف ، وحتى الخدم الذين كانوا يسكنون معه .
اكان ملزماً بجمع كل شيء عنه ، أن يتصيد كل ما كان يمكن صيده محاولاً تأليف حياة شخص أصبح تراباً .
تبدأ رحلة البحث .. وكانت صعبة حيث يهول البعض الحقائق أو لا يعترفون بفضائحه .. كانت المعلومات التي يجمعها متناقضات بحتة بين الفضائل والإعجاز والمراوغة والتعاطف، رغم أنهم كانوا يحتقرونه في حياته ، وهم بالأساس سببوا نهايته الفاجعة ( كلما كدت أمسك بشيء يهرب مني ، حتى وجدت نفسي في النهاية وكأني أضع يدي على قارورة سراب ) ص 22 .
وأدرك أن أهم الوثائق كانت بحوزة اثنين هما : المحامي بطرس سمحيري .. وهي وثائق رسمية تدله على النقاط المهمة في حياته ليستطيع من خلالها تخطيط المظهر الخارجي لحيات الفيلسوف . والأخرى بحوزة التاجر غانم زادة : استطاعت أن تعطي صورة تنظم المظهر الداخلي وحياته النفسية لأنها وثائق تخص أفكاره وعلاقاته السرية مع الراقصات وبنات الهوى والشخصيات العامة .
ويرافقه في رحلة البحث ( جواد ) حاملاً كاميرته على رقبته وكان مراقباً له أكثر من ما هو مرافق . وبدت ملامح شخصية الفيلسوف تتوضح : اسمه ( عبد الرحمن أمين شوكت ) سليل عائلة ارستقراطية أسقطتهم الثورة إلاّ أنه كان متمرداً على العائلة حتى قبل الثورة . وتنتهي رحلة البحث ، فما جمعه من أوراق ووثائق وصور ومعلومات وملاحظات كلها تتحدث عن فيلسوف الصدرية ( كلها تتحدث عن شخصية واحدة ، شخصية فذة ، شخصية فريدة من نوعها ، شخصية تختصرالعالم المأساوي لمجتمع بأكمله ، شخصية تقدم الوحدة التراجيدية لأمة بأكملها . ولكن كان عليّ – وأنا أدرك التأثير المدمر للشخصية الخيالية التي ترتفع إلى مصاف الآلهة – أن أخفف من هذا الارتفاع الشاهق الذي يحاول أن يردم الهوة الواسعة في نفوسهم ، ويذلل من مرارة خيبتهم .) ص 35 .
إذاً .. صادق زادة هو الذي يمول المشروع وليس حنا يوسف المفلس .. هذا ما نكتشفه في رحلة البحث الأولى .. ومن يعطي المال هو الذي سيضع النهاية بالطبع !
رحلة الكتابة : هي القسم الثاني من الرواية .. وتبدأ بضمير المتكلم أيضاً ، لكن ليس الباحث ، وإنما البطل نفسه .. يسترسل عبد الرحمن من نقطة البداية ليروي حكايته من بينه المطل على سوق الصدرية . كان عبد الرحمن وجودياً مثل سارتر يقلده في كل شيء ، فقد حلق شاربه وصفف شعره على شاكلة تصفيفة شعر سارتر .. إلى درجة انه عندما ينظر في المرآة يقول بحسرة : ماذا لو كان أعور لتتطابق الصورتان بكل الملامح !
ذهب لباريس لدراسة الدكتوراه في الفلسفة الوجودية في جامعة السوربون أواخر الخمسينيات ، لكنه عاد بزوجة شقراء فرنسية بدل شهادة الدكتوراه .. هذه هي عادة العراقيين – أو ربما عادة العرب أجمع – فبدل العلم الذي يذهبون من أجله يتركون العلم لأهل العلم والشهادة لبلادها ويجيئون يدلاً عنها بامرأة شقراء جميلة. وصدق نوري السعيد حين قال يوماً : فإن لم يكن بالعلم فبمصاهرة أهل العلم ، على الأقل !
ولم يكتب عبد الرحمن حرفاً واحداً لا بالفرنسية ولا حتى بالعربية، لأنه لم يكن قادراً على الكتابة .. كانت ثقافته شفاهية تستند إلى الكلام فقط وحين سألوه يوماً : لماذا يكتب سارتر؟ فأجاب: ( سارتر شيء ونحن شيء آخر.. ما يحق لسارتر لا يحق لغيره، سارتر يكتب لكي يترجم إلى العربية.. ومن ثم لنقرأ، وإلاّ فخبرني لو كان سارتر لا يكتب من أين لنا أن نسمع بسارتر؟.. سارتر شيء آخر. ) ص 52 .
ويتدخل الراوي ( الباحث ) ليتكلم لنا عن اسماعيل حدوب.. أقرب الشخصيات لعبد الرحمن سارتر- وهو طرف مكمل للشخصية- يحكي لنا عن نشأته وتدرجه من نشال وعتال وبائع صور خليعة من ثم العمل عند شاؤول التاجر اليهودي إلى لقائه بفيلسوف الصدرية.
وشاؤول هذا غير حياته و وفر له فرصة الاحتكاك بالأدباء من خلال صالونه. والإنسان – طماع- لا يرضى على ما هو عليه، لذا رأى ان النقلة الثانية في حياته ليست على يد شاؤول، فتخلى عنه وهرب والتحق بعبد الرحمن من أجل فكرة واحدة تسكنه، فكرة صلبة نحو الحب والجنس والسكر والعربدة والملذات.. وهذا كله موجود عند فيلسوف الصدرية، لكن في النهاية سيغادره شيئاً فشيئاً، والغريب جداً.. كيف سيغادره؟ لقد غادره إلى زوجته الفرنسية! ( وسارت الفضيحة في كل مكان، فعبد الرحمن مات، أو قُتل أو انتحر، وابنة خالة سارتر عادت إلى منزل سارتر، وكان المثقفون العراقيون يقولون إن سارتر لا يعرف أين يخبئ وجهه من الفضيحة، ولم يبقَ من عبد الرحمن سوى جاكتة صوفية سوداء كحلية موضوعة على أكتاف اسماعيل حدوب.) ص 117 .
ويعود الراوي ( البطل ) ليحكي لنا حكايته أيام كان في باريس.. لا شيء سوى السكر والعربدة والبحث عن النساء، فلسفتهم الوجودية كانت تعني شيئاً واحداً لا غيره ان الغرب يركب رجالنا في بلداننا، وهم يركبون نساءهم في بلدانهم !
يتطرق عبد الرحمن لطفولته.. كيف عاش وكيف تراكمت في نفسه تلك المغالطات، لقد أحل المرأة الضائعة في حياته بدل المرأة الطاهرة والسبب رؤيته لوالدته بين أحضان والده وهي عارية تماماً في حجرة النوم، هذه الحادثة أثرت على نفسيته ولازمه اشمئزاز من والديه، وهذه القسوة تجاه والديه هي التي قررت سلوكه فيما بعد، فجعلت منه شخصاً ضعيفاً ذو نزعة عدوانية سلبية وتجزيئية.. وألهمته نوعاً من الفوضى الجنسية والحزن والتمرد! وهكذا لعب الخدم دوراً كبيراً في فترة مراهقته.. كانت له صلة قوية بسعدون السائس وتعلق برجينا الخادمة بكل أحاسيسه وعواطفه واعتبرها مثاله الأنثوي العظيم .
وتعرف على نادية خدوري في مكتبة مكنزي أثناء زيارته لأهله في بغداد.. ودامت العلاقة ستة أشهر فقط من منتصف الصيف إلى منتصف الشتاء. أراد أن يجرب حظه مع امرأة شرقية بعد أن خاب أمله في علاقته مع نادلة مقهى فلور في باريس. لقد أحبها بصدق وشعر بأن الأمور معها بدأت تخرج من حدود سيطرته.. وأراد أن يتزوج منها، لكنها رفضتهُ.. وأيقن انه لايمكنه أن ينتزع منها شيئاً لا ترغب هي به.. لقد ردته نادية إلى حجمه الحقيقي، فشد حقائبه من جديد ليسافر إلى باريس سفراً استمر حتى عودته متزوجاً من ابنة خالة سارتر- كما كان يدعي – أما نادية فقد تزوجت من قريبها أدمون ليكتشف في ليلة الزفاف بأنها ليست باكر، فتصور بأنه عبد الرحمن هو الذي فعلها، رغم أنها أقسمت له بالمسيح بأنه ( مئير بن نسيم ) ومنذ أن كانت صغيرة.. وتوعد يومها أن يأخذ ثأره وثأر شرفه من عبد الرحمن .
ونأتي لأهم أمر في الرواية.. كيف مات أعظم فلاسفة الستينيات في العراق؟ كانت هناك ثلاث صور محتملة لوفاته : أولها.. انتحاره في لحظة يأس، أطلق على صدره الرصاص. والصورة الثانية.. هي المؤامرة التروتسكية من قبل عائلة خدوري انتقاماً لشرف ابنتهم نادية، لكن كيف؟ بالفضيحة ( كانت الفضيحة قاسية على عبد الرحمن، والوثائق تؤكد تاريخ وفاته بعد أسبوع واحد من هذه الحادثة.. جرمين رحلت إلى باريس، اسماعيل اختفى، أدمون هاجر إلى استراليا، ونادية لا يعرف عنها شيء، أكانت هذه الحادثة مؤامرة تروتسكية دبرها أدمون مع اسماعيل؟ ) ص 238 . أما الصورة الثالثة.. فهي الخيانة التي لم يحتملها.. خيانة اسماعيل له من تلقاء نفسه وخيانة زوجته !
رحلة الكتابة والبحث عن حياة فيلسوف الصدرية دامت ثلاثة أشهر مستمرة من قبل الباحث كي يكمل الموضوع كلياً ويحصل على المال الذي وعداه به حنا يوسف ونونو بهار . ومن هنا يبدأ القسم الثالث.. بعد أن صنع الباحث علاقة بين الكلمات والأشياء من خلال صور ووثائق ومعلومات جسدت خيال الشخصيات وأوهامها واستطاعت أن تخلق صور مكتملة في الذهن أذكى من الواقع بكثير.. وكان الباحث لاعب شطرنج ماهر أكثر من حماسة على اللوحة المرقعة من الجندي في ساحة المعركة .
وتبدأ المساومة حينما يأخذ حنا يوسف نسخة من السيرة وصادق زادة النسخة الثانية ولا يتمالك أعصابه عند قراءتها لدرجة أنه يشهر مسدسه ويصوبه لرأس الباحث ليكتشف لحظتها ونكتشف معه بأن صادق زادة هو اسماعيل حدوب! فما كان منه إلاّ أن يفلت من قبضته.. استدار للوراء وأطلق ساقيه للريح.. لتضيع جهوده كلها أدراج الرياح !
رواية ” بابا سارتر ” تندرج ضمن لعبة سردية وحده ( علي بدر ) يتقن مفرداتها وبيده مفاتيح أسرارها. صاغها حسب هواه وبمقتضيات نهوضه بعالم شخصياته ورؤاها وأحاسيسها ومتناقضاتها.. بمعنى أدق انه استطاع أن يخلق عالمه الروائي / الفني الخاص به .
* رواية ” بابا سارتر ” للروائي علي بدر. صادرة عن دار رياض الريس للكتب والنشر / بيروت/ 2001 / الطبعة الأولى .