في الصبا كانت تحلم بأن تصبح طبيبة، وتعالج والديها وإخوتها، وسكان الدرب، والمرأة التي تعمل في الحمام. لم يحدث شيء من ذلك. رسبت في الباك ثلاث مرات، ثم وجدت نفسها سجينة في البيت، لا تخرج إلا مع أمها أو بإذن، ولوقت محدد.
تقدم لخطبتها رجل مُربع ومُلتح، أخافها شكله وهندامه، فهددت والديها بالانتحار إن أرغموها على الزواج منه. خرجت من هذه الورطة بشق الأنفس، لكنها في المرة القادمة سقطت في فخ زوج مخادع. دخل بلباس أنيق، وقال بأنه تاجر، ويمتلك شقة وسيارة، تتمناه أي فتاة قليلة الشأن مثلها.
تزوجت منه، وبعد أيام قليلة، انقشع كل شيء، مثل ضباب صباح صيفي عندما يزيحه طلوع الشمس بسرعة. اكتشفت أنه ربنا خلقتنا*، يشتغل كدليل سياحي بدون وثائق، يعمل يوما، ويتعطل يومين، ولا يمتلك لا شقة ولا سيارة.
تعودت معه على الخصام بسبب قلة المصروف الذي يتركه للبيت. وضعت الابن الأول، ثم جاء الثاني، وحل بعده الثالث. ضاقت الحياة أكثر، فاضطرت للعمل في (الرياض)* مع النصارى. تنظف الغرف والأواني، وتمسح زجاج النوافذ طيلة النهار، وتعود في المساء إلى البيت. تطرب لسماع اسمها تنطقه صاحبة الرياض بلكنة أمريكية:
ـ عايشة هات علبة السجائر من المكتب.
تجلس ايميلي مع أصدقائها حول مائدة وسط الرياض، يتناولون الخمر، تحت ظل شجرة الافوكا، وتناديها:
ـ عايشة تعالي، اشرحي لنا معنى: هزّك الماء!
تجلس بجانبها فوق حائط الحوض وتُفسّر:
ـ هزّهُ الماء، يعني طفا فوق الماء، مثل الغريق الذي يفارق الحياة. تقولون في الشطرنج عند انتهاء اللعبة: كش مات الملك، أي هزّه الماء، فينتهى كل شيء.
تترجم الأمريكية لأصدقائها، ويضحكون بصخب، ثم تحتسي كأسها، وتنفث دخان السيجارة إلى أعلى، وتقول بعد أن بدأت الخمر تلعب برأسها:
ـ (فيري جود)*عايشة، أنت امرأة ذكية، تستحقين حياة أفضل.
تهمس عائشة في خاطرها:
ـ من فمك للسماء يا إيميلي!
حل الوباء، وأغلقت إيميلي (الرياض)، ودفعت لها أجرة ستة أشهر، وسافرت إلى لوس أنجلس، ولم تعد إلى اليوم.
بعد انقضاء فترة الدعم الذي قدمته الحكومة لمن فقدوا الشغل، بالكاد تجد ما تطعم به أبناءها. تراكمت عليها الديون: الكراء والماء والكهرباء والبقال.
بالأمس توصلت بخبر في (الواتساب)، يعلن بأن جميع جهات المملكة، اتفقت على أن تنظم وقفة احتجاجية ضد إجبارية التلقيح، وارتفاع الأسعار، يوم الأحد ابتداء من الساعة الرابعة بعد الزوال. وحدد الإعلان مكان الوقفة، وأكد على أن كثرة العدد تعمل على نجاح المعركة، وفرض الحقوق المشروعة.
عائشة ليس لديها مشكل مع اللقاح، أخذت حقنتين، وتنتظر أن يحل موعد الثالثة، وليس لديها مشكل مع جواز التلقيح، بل استقبلته بفرح، كبطاقة إضافية، غلفتها بالبلاستيك، وأدت مقابل ذلك، وفي عز الأزمة، ثلاثة دراهم من مصروف البيت. عائشة طحنتها الديون وارتفاع الأسعار والبطالة وكذب زوجها.
علقت آمالا كبيرة على رئيس الحكومة الجديد. صدقت ما سمعت عنه، بأنه رجل ثري وأمازيغي، ووالدها دائما يتحدث عن الأمازيغ بالخير، ويصفهم بالناس الطيبين، يُحبون العمل والمعقول.
تشكلت الحكومة، وعقدت عدة اجتماعات، والأسعار لا تتوقف عن الارتفاع. سمعت مسئولا كبيرا في التلفزيون، يربط بين ارتفاع الأسعار ووباء كورونا. يقول بأن وباء كورونا تراجع بالتلقيح والتباعد، وارتداء الكمامة، وغسل اليدين، ثم أضاف بأنه سيتناقص أكثر بفرض الجواز الصحي في الأماكن العمومية. أما الأسعار فقد ارتفعت في كل دول العالم بفعل الأزمة التي تسبب فيها الوباء.
قالت مخاطبة نفسها:
ـ يا عائشة ما دام وباء كورونا تراجع بالتباعد والتلقيح، وارتداء الكمامة، وغسل اليدين، ثم سيتناقص أكثر بالجواز، وتعود الحياة إلى طبيعتها كما يقولون، فلماذا لا يجدون لقاحا وإجراءات احترازية لارتفاع الأسعار، أو للفقر والجهل وبقية الأمراض الأخرى؟ وهل سيكون ارتفاع الأسعار أقوى وأخطر، وأشد فتكا بأرواح الناس من وباء كورونا؟ لا يا عائشة فقط الفقراء، وذووا الدخل المحدود هم من يكتوون بنار ارتفاع الأسعار. التجار دائما يربحون، وفي الأزمات يربحون أكثر. يبدو أن وباء كورونا أعدل وأرحم من ارتفاع الأسعار، لأنه لا يميز بين من يملك، ومن لا يملك ، فهو يخنق الجميع، ولا يأخذ سوى أرواح من كانت مناعتهم ضعيفة، سواء أكانوا أغنياء، أم فقراء!
وهي عائدة من عمل تنظيف إحدى الفيلات، مرّت بالقرب من مكان الوقفة، فوجدته غاصا بعناصر الشرطة والقوات المساعدة وسيارات الأمن. أحست بالخوف، فتظاهرت بأنها ستقطع الشارع إلى الرصيف المقابل. سارت بضع خطوات، والتفتت. كلما ركزت نظرها على حجم قوات الأمن، ازدادت خوفا. ابتعدت قليلا. قالت مخاطبة نفسها:
ـ لماذا لا تقفين، وترين ما سيجري، فأنت أيضا ابنة الشعب، ولست أقل شأنا من أولائك الذين يظهرون في أشرطة (الواتساب)، يقفون أمام الميكروفونات، ويطلقون الكلام القاسح*. يمكن أن تتحدثي أحسن منهم عن الفقر والجوع والبطالة، لأنك خبرت هذا المستنقع لسنوات طويلة.
الوقت يمر بطيئا. بدأ عشرات الناس يتجمعون. عادت أدراجها إلى جانب الساحة، فجأة تدفق من حولها حشد كبير من الناس، يصدحون بشعارات تدعو إلى سقوط جواز التلقيح. بدأت تردد ما يصل إلى أذنيها من كلمات بصوت خافت حتى حفظتها. انتقلت إليها العدوى فتحمست ورفعت صوتها، ثم اقتربت من الشرطة، فشعرت بالخوف، وضعف صوتها، حتى كاد يتحول إلى همس. الضوضاء واختلاف الشعارات جعلها لا تسمع جيدا رجل أمن، وهو يتحدث في مكبر للصوت، ويتلو بعض القوانين، ويدعو الناس إلى إخلاء الساحة. سمعت شعارا يردده شبان بجانبها على صدور أقمصتهم صورة لرجل أجنبي* وسيم، يغطي جانبا من رأسه بقبعة حمراء. تلعثم لسانها، وتوقفت عن ترديد الشعارات، وقالت لنفسها:
ـ كيف دخلت يا بنت الحرام هذه السوق التي لا تفهمين ما يُعرض فيها؟ مشيت فيها يا عائشة! هزك الماء!
فجأة اختلط الحابل بالنابل. لم تدر إلى أي وجهة يمكن أن تهرب. انفض جمع المتظاهرين من حولها. انحنت لرفع قبعة حمراء سقطت على الأرض، عندما نهضت، وجدت نفسها وسط غابة من رجال الأمن. كل ما تذكرته هو أن يدا التفت حول ذراعها ، فوجدت نفسها وجها لوجه مع باب (لاراف)*. حملاها شخصان مثل الريشة، ودفعاها إلى الداخل، وأغلقا الباب. وجدت أربعة أشخاص زُجّ بهم قبلها في السيارة. انتابها خوف رهيب. تشتت ذهنها، بين الشرطة والأبناء والعربي.
ـ هل يعملها العربي ويكون رجلا ويبقى مع الأبناء في البيت ويراقبهم ؟ ماذا سيفعل إذا سمع بأن الشرطة وضعتك في سيارة، وأخذتك إلى مركز الحجز؟
حاولت استعادة هدوئها، وقالت لنفسها:
ـ سيأخذ الأبناء إلى منزل والديك. ماذا يمكنه أن يفعل؟ فهو يشتمك ويضربك من حين لآخر. تغضبين ثم يأتي رفقة أخته أو أمه، يعتذر ويقبل رأسك أمام الأهل والجيران، وتعودين إلى البيت. لو وقف الأمر عند هذا الحد لهانت، ستكتسح صورك المواقع الإخبارية، وفوقها عناوين مثيرة مثل: المرأة التي قالت لا للتلقيح! المرأة التي واجهت القمع بصدر عار! المرأة التي قالت لن يمر الجواز الصحي! وستتدخل منظمات حقوقية عالمية، وترفع شكاية بشأن اعتقالك إلى الخارج. يا رب أين كان مخبأ لي كل هذا ؟!
هزك الماء يا عائشة! الشرطة ليست هي العربي. الشرطة إذا ضربت أحدا، لا تعتذر له، ولا تُقبّل رأسه. سيفتحون لك محضرا، وينقلونك في الغد إلى المحكمة، ويلفقون لك تهمة المس بالأمن العام، ويحكم عليك القاضي بالسجن، وأداء الغرامة، كما يحدث في الأفلام والمسلسلات. لو بقيت إيميلي، ولم تسافر إلى بلدها، لتدخلت عند الشرطة، وفكّت سراحك بكفالة!
فتحوا الباب، دفعة جديدة من ثلاث نساء ورجلين ثم شابين. صرخت بأعلى صوتها، وهي تفتش في حقيبتها حتى عثرت على جواز التلقيح ورفعته:
ـ يا عباد الله أنا ملقحة؟!
لم يهتم أحد من الشرطة لكلامها.
امتلأت السيارة، وتحركت في الشارع المؤدي إلى المركز الذي يبعد عن المكان بعشرات الأمتار.
هدأت من روعها وقالت في صمت:
ـ ومِمّ ستخجلين؟ أنت حاولت أن تصرخي ضد ارتفاع الأسعار. لم يقبضوا عليك ترقصين في مقهى لتعاطي الشيشة، أو في بيت للدعارة ؟!
المعجم :
ـ ربنا خلقتنا : تعبير شعبي يعني بأنه معدم
ـ (الرياض) : منزل تقليدي مساحته فسيح ، تزرع داخل أحواضه أشجار الليمون أو الأفوكا أو غيرهما من الفواكه ، وتوجد به غرف كثيرة، وقد استغله بعض المستثمرين كدور مفروشة يكترونها للسياح.
ـ (فيري جود) : ممتاز بالانجليزية
ـ الكلام (القاسح) : النقد القوي للأوضاع الاجتماعية والسياسية.
ـ قمصان وقبعات تحمل صور ل(تشي غيفارا)، غالبا ما يرتديها أنصار اليسار الراديكالي بالمغرب.
ـ (لاراف): سيارة كبيرة زرقاء أو بيضاء مكتوب عليها عبارة الأمن الوطني باللونين الأحمر والأخضر، نوافذها مصفحة بشبابيك حديدية، تستعملها الشرطة في اعتقال المخالفين للقانون.
مراكش 02 نونبر 2021
سرد لواقع آلاف النساء الفقيرات اللآئي وجدن أنفسهن مجبرات على تحمل أعباء الأسرة في شبه غياب لإزواج غير قادرين على تحمل ضروريات العيش. نساء، اشتد عليهن الخناق خلال أزمة كورونا، وزاد الوضع استفحالا مع موجة الغلاء التي يعرفها العالم ففقدن البوصلة واختلطت عندهن المفاهيم، ومنهن من وجد نفسه وسط حشد يردد شعارات، فسرن إلى المجهول……..!!!!!!!
قصة رائعة تعكس واقعا محكى بأدق تفاصيله.
شكرا على مشاركتنا هذا الإبداع القصصي.