** المهدي نقوس:
تميل اللغة السردية في قصص المهدي نقوس نحو جمع الجزيئات الصغيرة لتشكيل الكتابة.
المهدي نقوس مثقف موسوعي يتجنب الضوء، ويشتغل بهمة النمل في الإبداع، والاهتمام بالمبدعين والمفكرين، وكما له في القصة فله في الشعر، وفي مجالات أخرى، وله أنطولوجيات في شتى ألوان المعرفة والمجالات.
المهدي نقوس يعمل بهمة لصالح الثقافة والإبداع بنكران ذات.
ومن عناصر الدهشة في عمليه القصصين العنونة التي تثير التساؤل، فهي عناوين مختلفة وغريبة، من مثل: …إلخ، فضلا عن استثمار ثقافته الموسوعية في قصصه محققة بذلك عمقا وفرادة. أما أهم عنصر جمالي في أعمله فهو تكريس الأدب والفن لتحقيق الوعي، يقول في قصة عباس:
الجهل هو الذي يصنع القانعين ..ويكفي اذن القول إن الفن ينبغي له ان يصنع المتمردين..
لذا، نجد قصصه ترتبط بالمسحوقين وتعبر عن همومهم، وتعبر عن آلامهم وآمالهم. إنه التزام نابع عن قناعة واختيار، وليس عن إكراه أو تضييق. المهدي نقوس لا يرى الكتابة إلا سلاحا ضد الاستغلال والجهل والإقصاء، وريقا لتحقيق العدالة الاجتماعية، دون التفريط في الجانب الفني والجمالي، فحضورهما بارز من خلال جملة عناصر، منها توظيف الزجل والشعر في القصص، والتعابير الشاعرية من تشبيه واستعارة ومجاز، ومن تقديم وتأخير، وتلاعب بالأحداث. وهي عناصر مجتمعة تحقق الدهشة وتثير الإعجاب.
لا يميل القاص إلى الفن من أجل الفن، بل إلى الفن من أجل التوعية والتحسيس مع الإبقاء على شروط القصة والتجديد فيها، لننظر إلى هذه الفقرة وسيتبين لنا الجانب المدهش في الكتابة من خلال قصة “البحث عن عباس”..
ألا إن الاغتسال بماء السياسة لموضة العصر يبري الجسد يشهره مسدسا بوجه كل الأزقة..
ألا إن الاغتسال بماء السياسة من اخبث الأقنعة يخفي تجاعيد العالم ويعلم الشهادة بان لا اله سوى الدولار..
لا اله سوى البتر ودولار..
اله هو البترودولار..
البترودولار..
البترول والدولار..(4)
ويتقوى عنصر الدهشة من خلال وضع هامش لسرد مراجع القصة، وكأن النص بحث لا قصة، وتلك مزية أخرى له..
لمصادر المعتمد عليها
1- اغنية تغنجا لفرقة ناس الغيوان.
2- الفقرات المتضمنة بين قوسين من مجلة مواقف ع32/78 وهي كالتالي:
موريس لوكاليل
باكونين
بللوتين
3- اثمان الدهب من نشرات الأخبار لإذاعة البي بي سي
4- الرسالة من الأرشيف السري للسيد عباس
5- اغنية ناس الغيوان الفرقة الشعبية الشه.
وبتركيز، يمن القول :
تأثره بالأسلوب القصصي للكاتب العظيم الشرس العنيف في سروده زكريا تامر ، لا في سخريته من الواقع بل في غضبه وتمرده وثورته ، بل واللعب باللغة.. ثم تأثره أيضا بقصص محمد برادة وأحمد بوزفور في تحيينهم للغة الدارجة وتطويعها وجعلها تحت نصرف اللغة الفصيحة .. مثل الأمثال ، والأزجال .. والشعارات .. (ليس لدي ما أخسر في الجيب لياأيني ما في الغيب) أو (مثل مؤخرة الدجاجة أمنها تبيض، وتتغوط وتتسافد) .. أو الاستعانة بالملصقات .. واقتحام مناطق الطابوهات والخطوط الحمراء دون حرج.. واستغلال التراث مثل استلهام سير شخصيات مثل امرئ القيس، ومحمد عبدالجبار النفري ، وسقراط، واستغلال بعض الأساطير والخرافات الشعبية الشفاهية في قالب قصصي مشوق. وهو ما يبين أنه مسكون بالحكاية الشعبية.. مع استغلال الشعر في الكتابة والمزج بينهما في النص القصصي لحد التماهي بين الجنسين ..
**
الطاهر لكنيزي:
إشراقة أولى: قال لي المبدع في دردشة بيننا؛ وقد أشرت إلى نهر الدماء وكثرة القتلى في المجموعة: « الموت هو نهاية أغلب الشخوص؛ وأعني بالقبرات : أشخاصا من الطبقة الكادحة ( حثالة الأرض)، فكل واحد منهم يتطلع إلى تغيير وضعيته الاجتماعية، ويحاول بكل الطرق أن ينجح في حياته، لكن هناك دائما فخاخ تترصدهم..
* إشراقة ثانية: «ليس النص بأطروحاته وبياناته، بل بما يتأسّس عليه ولا يقوله، بما يُضْمره ويَسْكُت عنه». والنص يَسْكُت ليس لأن مؤلفه ضنين بالحقيقة على غير أهلها، ولا بسبب تَقِيّتِه من سلطة يَخْشاها، ولا لغرض تربوي تعليمي يَرْمي إليه، بل لأن «النص لا يَنُصّ بطبيعته على المُراد، ولأن الدال لا يَدُلّ مباشرة على المدلول».هذا هو سرّ النص: «إن له صَمْتُه وفراغاته، وله زلاّته وأغراضه، وله ظلاله وأصْداؤه»..فهو لا يَأْتَمر بأَمْر المدلول ولا هو مُجَرّد خادم للمعنى. ومن هنا يتّصف النص بالخداع والمخاتلة ويُمارس آلياته في الحَجْب والمَحْو أو في الكَبْت والاسْتبعاد. باختصار: «للنص ألاعيبه السرية وإجراءاته الخفية» وهي ما يُمْكن تسميته «إستراتيجية الحَجْب»…. رشيد موعشي.
اعتمادا على القولين السابقين، نرى أن مداخل قراءتنا للعمل ستستظل بخيمته الكبرى، وعنوانه الأوضح، ونقصد بذلك: العنوان البارز على وجه الغلاف، فهو الذي يحمل كثيرا من علامات الطريق، يسترشد بها القارئ لخوض غمار القراءة والقبض على مضمراته، ولعل أهم العناصر الملمح لها فيه، هي الصراع بين طرفين نقيضين، هما: الجمال والقبح، وفي خرق بناء الجملة من جهة، وتكرار اسم القبرات، وهي المفعول به، تسبيقا وإلحاقا، مع تأخير الفاعل، رغم سطوته، ما يمنحنا شرعية خوض الفعل، ومزية التأويل؛ ذلك أن التشكيل الجملي يشي بطرف خفي إلى قوة الجمال في دحر القبح، رغم ما يمتلكه هذا الأخير من مظاهر القوة، وعناصر التسلط. لا شك أن الفعل المنفي يحمل في طياته أبعاد هذا الصراع، إذ لا وجود في منطقه، وفي تصوره، لأي مهادنة، هي الحرب المستعرة بين الطرفين، لا تنتهي إلا بانتهاء أحدهما، والبادئ أظلم، لهذا، نجد وجاهة تسبيق القبرات، مرتين، ظاهرا وضميرا، وتأخير الفاعل، حتى إنه ليظن أن الفعل قد صار للقبرات لا إلى الفخاخ.
أما العنصر الثاني، وهو وليد العنصر الأول، وأحد أهم نتائجه، فهو القتل. فالملاحظ أن القصص مضمخة برائحة الدم، تكاد كل النصوص تستنشق عطره، إنه يلونها بحضوره القوي، كأنه يستعيد قصة الدم الأولى، قصة قابيل وهابيل، صراع أزلي ينتهي كل مرة بالقتل. ومن هنا نفهم سر حضور لون الغلاف، إذ هو قريب من لون الدم، خاصة حين يتخثر.
العنصر الثالث، ويدخل ضمن تركيبة الصراع، وأحد أبعاده الأساس، لا يمكن أن يستقيم من دونه، فهو: الخداع، ويشد أزره بالتحول، لكونه وجها له.
نحن أمام ثلاثة أقانيم متداخلة، تشبه مثلثا مرتبط الأضلاع، لا يمكن أن يتشكل بضلع واحد، وما عملية التفكيك إلا إجراء يراد به فهم المثلث والقبض على بعض من أبعاده، إنه فعل إجرائي فرضته الضرورة التحليلية.
عن الصراع :اللافت للانتباه كون الصراع إما أنه بين طرفين داخليين تربط بينهما أواصر ما، كالزواج مثلا، وإما بين طرفين داخليين تجمع بينهما أواصر مكان ما كالوطن، مثلا، وتفرق بينهما المصالح. وقد يكون الصراع مع قوى خارجية قاهرة تروم الإخضاع بالقتل وسفك الدماء.
* من داخل المنزل :يقتحم السارد أسوار الأسر، يكشف العلاقات، ويبين أسباب التدهور الحاصل بين الأزواج، بعين نقدية غير مهادنة. لا يحمل طرفا كل السلبيات، ويطهر الثاني منها، بل يسعى إلى رصد البرودة بحياد، مظهرا أن الرجل كما المرأة، معنيان بما يحصل لهما، فالرجل يكون تارة سببا، وطورا تكون المرأة، وهذا لا يعني وقوف السارد عند الأمراض التي تقف وراء فشل الأسر ليخبرنا بعدم جدوى الزواج، بل يريد أن يظهر أن الأسرة لتكون متماسكة ينبغي أن يبنى فعل الزواج فيها على الحب والمودة، لا على المصالح، ولا يكون هذا إلا إذا تماسك أطراف العقد الاجتماعي، وأبعدوا عنهم الأهواء والمصالح، وساروا في طريق التعاضد، وفق رؤية موحدة، تشكل لحمة ضد أي تصدع محتمل. والأسر التي يكون بين أفرادها تماسك قوي تستطيع تجاوز المحن، بما فيها الموت، تلك هي قصة «نكوص» ص 56، فقد جمعت طموحات التغيير كل أفراد الأسرة، وصنعت لحمة قوية بينهم جعلتهم يتحدون الموت المتربص بهم. من هنا، نجد أن الأسرة المتضامنة، وفق قناعات جامعة، يمكنها العيش متحدية كل الإكراهات، بعكس المبنية على الطمع، والمصالح الشخصية الضيقة؛ «عرس الذئب» ص 4 و»وأد» ص 11، علما أن النصين معا يجتمعان حول موضوعة واحدة وهي العقم، هذا الموضوع الذي حرك إرادة الفراق، ودفع بالأطراف إلى حافة الإفلاس.
* من داخل الوطن :أكيد أن الصراع سيكون بين قوتين تهدفان إلى مشروعين مختلفين، قوة تريد التغيير وتنشده رغم ضعفها العددي، ورغم غياب أي سند من قوة مادية، بمعنى أنها عزلاء، وقوة تريد تثبيت الوضع، وتراهن على بقائه وجموده لأن في ذلك ديمومة مصلحتها، وترى في التغيير خطرا يتهددها، فتواجهه بالرصاص. ونص «نكوص» مثال واضح لمثل هذا الصراع.
* صراع مع عدو خارجي: ولعل هذا الصراع هو من أخطر الأنواع، لأنه يأتي من الخارج بواسطة قوة جبارة وظالمة، تتخذ في تدخلها ذرائع متباينة، والواضح أنها كلها حجج تدخل واهية، إذ الغرض المضمر هو السيطرة على خيرات البلدان المقتحمة، وبسط نفوذها عليها، وتسخيرها لصالحها. هذه القوة المدمرة توهم المجتمع الدولي بأن تدخلها من أجل إصلاح اختلالات المجتمع ، وإنقاذه من التسلط، وبناء الديمقراطية فيه، لكن النية هي غير ذلك تماما. ويكون الضحية في مثل هذه التدخلات العسكرية هم الأطفال والنساء والشيوخ. فنص «Go ! Go !Go ! » يهدف إلى فضح ممارسات القوى الظالمة من خلال شخصيتين دورهما هو تفريغ سلاحيهما في كل جسد حي، بعد أن تم تعبئة نفسيهما بإديولجية ماحقة، وفي اللحظة التي ستستيقظ روح النقد في أحدهما، ويستعيد وعيه المغيب حيث سيدرك مدى الفظاعات المرتكبة، يقوم زميله بإخراسه، لأن لا مجال لفسح الوعي لتلك الآلات الإنسانية التي برمجت على القتل، فانتقال الوعي إلى الجنود هو في حد ذاته بداية نهاية هذه القوى الجبارة والظالمة؛ لذا، تعمل على محو الذاكرة بإعادة برمجتها، وجعل الرصاص مستيقظا أبدا لإسكات أي ضمير يمكن أن يصحو.
والملاحظ أن حضور الموت كان بأشكال متعددة، فالقتل بالرصاص، والسلاح الأبيض، وبالخنق، في استعادة ذات منحى تناصي، لفعل عطيل، وهو يضغط بكل حب على عنق عشيقته، والحرق، والغرق، هذا، فضلا عن الموت الطبيعي. وهو ما يدفعنا إلى القول: إن الشخصيات تسير وفق برنامج سردي كتب لها منذ البداية، ولا يمكنها التمرد عليه، إنه برنامج شبيه بالقدر الذي لا راد له. إن الشخصيات تخدم غرض النص بعدم خروجها عليه، تخضع لقوته، خانعة مستسلمة. ويؤكد، في القوت ذاته، قول المبدع الوارد في الإشراقة الأولى.
وكخلاصة مؤقتة:
إن النصوص تسير بأحداثها إلى نهاية دموية تجعلنا نقول إن السارد يحركها وفق مسار خاص يعبر به عن رؤيته للعالم، رؤية تنتقد الظلم والجبروت، والضعف والانحناء والحربائية، وغير ذلك من الأعطاب والقيم السلبية، يسلب السارد الحياة من شخصيات في الغالب انتهازية ووصولية، أو أنها ضعيفة لا تمتلك أسباب رد الظلم.
** يتبين من خلال قصص المبدعين ارتباطهما بواقع الفئات المسحوقة وسعيهما إلى جعل الكتابة رافعة للوعي، ومنصة لتنديد بالظلم والحيف الملصق بالفقراء والضعفاء. مع اعتماد فنية الكتابة لتحقيق الدهشة والجمال.