تستهوي عبد البديع القراءة كثيرا. يعتبر اللحظات التي تمر دون قراءة لحظات ضائعة، وقت ميت. فمنذ أن أبعده سوء تفاهم عن صديقه.. فريد، اتخذ الكتاب صديقا حميما، يجالسه، يحادثه، يناجيه، يسامره، يسافر معه في عوالمه. جليس رائع، ماتع؛ شحن عقله، ملأ قلبه، شحذ عزيمته، وفتّح بصره وبصيرته على فَسَاحة الآفاق، الأحلام، الآمال، ومسح من قاموسه المُحال.
في الآونة الأخيرة، أخذ فعل الكتابة يُسيل لعابه، لذلك حاول الشروع في كتابة رواية تاريخية، اختار موضوعها، أبطالها، زمانها، مكانها… وقرر أن يخط أحداثها، رواية لن تكون.. كبقية الروايات؛ فريدة، لم تأت يد بمثلها من قبل، ولن تأتى بمثلها من بعد. رواية، تحمل اسمه عاليا، وترفرف به في سماء الإبداع حتى تراه كل الأعين، وتصدح به كل الألسن.
ظن أنه سيطلق العنان لقلمه، وما هي إلا شهور حتى يتمم روايته الأولى، وينتقل لكتابة أخرى. لكن تجري الرياح ضد منحى السفن، إن كان قد وضع سفينته على وجه البحر.
لقد استعصى عليه الأمر، فلم يكتب سوى صفحتين حتى جف قلمه. حاول وحاول دون جدوى. أضحت الكتابة عملا مُحالا، والمحاولة عذابا.
رغما عن مبادئه، استسلم ظانا أن للكتابة أصحابها، أما هو فمجرد مهوس، لا طاقة له على ذلك. وما محاولاته البئيسة إلا مضيعة للجهد والوقت، إن لم تكن ضربا من الجنون.
لقد تسرب الفشل لنفسه، وهو الذي يجيد نقد نصوص الآخرين، تحليلها، سبر أغوارها، استخرج مكنوناتها. وفي نظره، هذا دليل قاطع عن كونه كاتبا فاشلا، ما دام النقاد كتابا فاشلين، فما اهتموا بكتابات غيرهم إلا لأنهم عجزوا أن يكونوا مثلهم.
صباحا، ولج المكتب والانزعاج مكتوب على صفحة وجهه، لم أتجرأ على سؤاله. وما إن أنهى عمله، ووضعه جانبا، حتى همّ يخبرني عن تجربته. استمعت له بإمعان، ثم تدخلت قائلا:
– إن كنتَ تؤمن بالتخصص، فلا داعي لإلصاق صفة الفشل بالنقاد. فالناقد كالكاتب فكل منهما سيد مجاله. فكَما للكتابة مقوماتها، فللنقد أدواته وشروطه.
لم يعقب على كلامي، وظل مادّا بصره إلى ما وراء الجدار حتى ظننت أنه نفض يديه من الحوار، فسألني:
– أريد أن أكتب رواية.
– حسنا، الكتابة الروائية عمل ممتع، وإطاره الفني لا يخفى عن أي قارئ جيد مثلك. عليك فقط بالإبحار بخيالك في الزمان والمكان.
– فاجأني قائلا:
– أظن أن كتابة القصص أسهل!
– فالكتابة القصصية وهي الأخرى ليست سهلة كما تظن. فهي قصيرة، لكنها تختزل الكثير، فلنقل رواية مصغرة، وهذا ما يكسبها زخما وغنى دلاليا. حاول كتابتها ربما يسعفك قلمك.
– حاولت، لكن ذلك استصعب علي. ضغطت على نفسي فلم يروقني ما كتبت، مزقته وألقيت به في القمامة، وحاولت نسيان الموضوع.
– إن التكلف والتصنع مذمومان، لأنهما لن يثمرا عملا جيدا. ومهما استعطفت غيمة الكتابة، فلن تمطر، إلا إذا تهيأت لها الظروف.
– أي ظروف؟!
– المعنوية والنفسية.
– أتتحدث عن المخاض؟
– نعم، الكتابة ولادة، ولكل ولادة مخاض، لاسيما الولادة الأولى، فمخاضها عسير. ومن ثمَّ يعتبر الكاتب كتبه بمثابة أبنائه.
ابتسم ابتسامة خفيفة من أبوة الكتب، ثم رد:
– وغياب المخاض يعني العقم، أليس كذلك؟
لم ينتظر جوابي، بل استطرد: يعني أن ذهني لا يمكن أن يخلف أفكارا نافعة. وهذا ما يدفعني لأمزق كل ما كتبت.
– فعلا بعض الأفكار تكون غير ذي قيمة، وبعضها قد يكون غير ذي معنى والنص غير مكتمل. فالاكتمال هو ما يضفي عليها معنى. أما أن تكتب وتصدر حكما على المكتوب، رغم أنه لم ينهَ بعد، ففرْملة للذات، وتبخيس لمنتوجها، وكبح لإمكاناتها.
– يقال أن القارئ الجيد كاتب جيد.
– فليس بإمكان كل قارئ جيد أن يصبح كاتبا. فالكتابة عملية تخيلية، شاقة ومكلفة، فلا يمكن للعَجُول المَلول تحمل مشاقها.
– سأحاول مرة أخرى، وإن لم أفلح سأنسى الموضوع.
– لا تثبط نفسك، فتقتل نزعة الكتابة فيك. فالكتابة قبل أن تكون صنعة تستدعي الصقل والإتقان، فهي شعلة تتطلب الإذكاء. ولبلوغ ذلك عليك أن تختار مقروءك بعناية، لأنه هو ما سينمي لديك مهارة الكتابة، ويوقظ إلهامك النائم.
ركزت عيني في عينيه، وتابعت: تشبث بحلمك، فمن لا يملك الشجاعة لا يحطم الحواجز، ولا نصيب له لبلوغ آماله. فالآمال معلقة في أعالي الجبال. لا يصلها من يخشى السقوط.
شجعته على فعل الكتابة لما فيه من لذائذ، داعيا إياه أن يترك للفكرة المزيد من الوقت حتى تنضج، وحينها سيكون قطف الغلال ميسرا.
انتصح بنصيحتي واهتم بالقراءة، متشبثا برغبته في الكتابة، ومؤمنا بقدرته على هزم تمنعها عنه.
ذات ليلة مطيرة، وهو في فراشه يتابع تهاطل الأمطار من نافذة غرفته، أرهف السمع متابعا معزوفة المطر المنهمر، وهو ينكسر على النافذة، مخلفا شظاياه على الزجاج مشَكلا أشكالا رائعة.
لوحة بديعة من صنع يد الطبيعة، وبأنامل رياح خفيفة تعزف على أوتار ليلة، استعانت بالمصابيح المعلقة بين السماء والأرض لتطرد الظلام، وتلبس عباءة فجر ندي. شعر حينها بواعز يدفعه لتسجيل جملة رنت في أذنه، أسرع إلى قلمه مخافة إضاعتها، فانسابت الأفكار تباعا.
تحرر قلمه من عقاله، وخلصه من أفكار سامة سكنت ذهنه، وكادت تقتل إرادته.
كتب روايته الأولى التي جابت العالم بأسره، فأضحت كل الألسن تلتهج باسمه. اسم نقش بمداد الإبداع على قرطاس الأدب.
رواية اختار لها كعنوان ” الثقة في النفس سبيل النجاح”، وكتب في آخرة فقرة منها: إن الذين لا يؤمنون بقدراتهم، والذين ليست لهم عزيمة قوية على التضحية في سبيل ما يحبون، والذين سرعان ما يستسلمون، مثلهم مثل الذي ليس له أمل، إلا أن الذي ليس له أمل، ليس له ما يكافح من أجله، والآخرون حفروا، باكرا، قبورا لإمكاناتهم، وواروها قبر الخلاص.