أنشأت الإعلامية الأديبة “تركية لوصيف” مجموعة قصصية موسومة ” عبود لا يتحمل السوط” نشرتها ” دار خيال للنشر و الترجمة ” سنة 2021، هذا الإنشاء الذي راعى انتباهي في ما اثثت بها المبدعة مسروداتها ضمن هذا المتن، مما أغراني بتقديم قراءة ابتدائية عنها في هذه الوريقات التي قدرت لها عنوان ” رشح من مشارف عبق الإنشاء” .
ـ ما بين الفواصل:
. أولاهم : إن الإنشاء في حقل الأدب تؤطره جيوش من المخاطر و حشد رهيب من المسميات، بعضها يحوم حول المنجزات اللسانية و بعضها الآخر يغوص وسط سرادب المجهول المعجب الذي يفرض السؤال التالي ” هل أقرأ النص المنشأ لفهمه أم أقرأه لأنه عصي علي؟”. فاصلة يفرضها عليك “عبود…..”.
. ثانيتهم : هل يجب على منشئ النص الأدبي أن يتدثر و أن يتلبس بكل تفاصيل محمولاته أم يجدر به أن يرتقى إلى أعلى رتل في صوغ عظام النص و شرايينه فيبوح بما يجب أن يكون؟، ذاك مبتغى منشئة “عبود لا يتحمل…”.
. أمهما : كيف يجدر بالمسكين القارئ/ المتلقي الذي “..لا يتحمل سوط …” أن يهضم / يتفاعل / يتمتع بتحدي ذلك الإنشاء الذي سلخ فيه المنشئ جزء، لا نعرف قدره بالضبط ، في ترسيمه على البياضات و الألوان، و هو المشتهى الذي ملأني نشوة و سرورا.
ـ “عبود……” و الفواصل :
وجدت بتواضع أن “…لا يستطيع السوط ” يغرق حتى “شوشته ” و هو يحاول أن يغامر صوب كل ، أو بعض ، ما أشرت؛
..بدء ؛ عتبات النص : تنشئ إحدى و ثمانون صفحة في شرفات أربعة عشر نصا عالما من التوهجات المعقدة و المتداخلة مع فيوضات التضاد و التضاد كثيرا و تحت ظلال المندس أبدا في غياهب المشتهى و المبتغى أبعد مما باحت به النصوص الأربعة عشر.
تضاد و اندساس، لست أدري هل عن قصد أم عن غير ذلك، يبدأ من غلاف المدونة؛ زرقة ؛ المحيلة على الأمل و على انشراح المستقبل ، ينوسطها ما يشبه جسم “عبود..” يكسوه سواد الخوف و الشعور بالهزيمة و الإحباط الباديان على انخفاظ الرأس و تكاتف يداه و انسدالها تماهيا مع السواد الكلي.
تأتي الواجهات الأمامية للمدونة في ترسيمات آبية لما تواضعت عليه نواصي المدونات؛ إهداء و شكر إلى القارئ المشتري لنسخة من المدونة، إلى الوالدين، ثم إهداء خاص لـ ” عباس عبد الرزاق” مملؤة صفحته ببياض ، كأن الصفحة تأبى أن تعطينا الصيغة المقصودة لهذا الإهداء، ثم في الصفحة المقابلة “شكرو عرفان ” لـ “خالد سامي ذكي” الذي كرم، هو الآخر، بترك بياضا كاملا على وجه الصفحة، حتى لا نعرف شيئا عن “عباس عبد الرزاق” و لا عن “خالد سامي ذكي” الذي وشت به المدونة، في الصفحة التالية، بأنه كان قد قدم قراءة لها.
لنعتقد، بعد كل ذلك، بأن البياض و الفراغات هما سيدات إنشاء هذه المجموعة. مما يوحي بأن المنشئة، ربما، تقصد إلى فتح حوار مع القراء/المتلقين لملإ تلك البياضات و تفسير تلك الفراغات من تلقاء أنفسهم وفق أفاق معارفهم، و تلك خصلة محسوبة للمنشئة.
…لنخرج من كل ذلك باحالات جمة يمكن حوصلتها في أن منشئة المجموعة كانت قاصدة منذ البدء بإنشاء عالم من الفيوضات الدلالية ليس على مستوى المضامين فقط و لكن حتى داخل شرايين الصوغ السردي لكل نص.
…و إن تجاوزنا مستويات العتبات المرمزة للمدونة كلها و ولجنا عالمها المنشأ على شكل جزيرة، على صغر حجها، نألفها ذات تلال و دهاليز غابية مخيفة تارة و مغرية بالتوغل داخلها تارات أخر، حتى كأن كل نص من المجموعة فيها يشكل قارة إن في المضامين إو في البنى الاجتماعية و النفسية لنماذج “العبابيد..” الساكنة فيها داخل مغارات و زوايا و منحنيات الأزقة، بل و حتى قرى نائية يخيف الوصول إليها في مسرودات ؛”عدلية اللثام يليق بك، فاكهتي الطازجة، مصرع العم إسماعيل، قبلة سباغيتي، خطأ في الوجهة، إني أحترق يا رونق، الأراجزواتي موسى و الأخريات، حرز الطيار و العصفور الصغير، عبود لا يتحمل السوط، رفاق الطابة، فراشة الركح، سوف أهاجر يا أمي، الطائر المهاجر سيعود، ملابس جدي.
و ذلك ما يجعل تقديم ورقة عن كل نص فيها أصعب مما نتصور، فطاوعت نفسي على أن أختار منها النصوص التالية:ـ
ـ عدلية اللثام يليق بك .
ـ خطأ في الوجهة.
ـ عبود لا يتحمل السوط.
التي سأحاول أن أقدم عنها ورقة تحليلية و فق زاوية متأطرة بمنهج ثقافي يشمل حزمة من الرؤى التي تحتمل الصدق و الخطأ.
1 ـ عدلية اللثام يليق بك:
إن مختصر مضمون النص يتمثل في “..أسرة بدوية تملك عنزات يرعاها رب الأسرة، و فجأة تأني دورية عسكرية فيتناولون حوارا مع زوجها الراعي فيعرفون عدد العنزات التي تملكها الأسرة، ثم فجأة أخرى يأتي أحد المجاهدين مع فرقته ليزور ابنة أخته فتبتهج و تفرح به فتسارع العائلة إلى ذبح ذبيحة له، ثم يعود العسكر الفرنسي فيلاحظون نقصا في العنزات، و بعد أن يشم كلب العسكر رائحة في جهة ينطلق لنبش مكان دفن بقايا الذبيحة، فيتأكد الفرنسيون بأن هذه الذبيحة كانت للمجاهدين فيقبضون على عدلية و زوجها، مع اطلاع الخال “قمر الليل” على كل ما كان يحدث، فيقرر زرع ألغام للدورية العسكرية الفرنسية، لتنفجر هذا الألغام على الدورية التي كانت ترافق الزوجين، فتموت “عدلية” في هذا الانفجار..ص 11ـ 15″.
و بما أننا نجد الكثير من النصوص السردية كانت قد وظفت موضوعات ثورة التحرير الجزائرية في العديد من الإنشاءات النصية تحت مغريات أقلام أدبية جزائرية و عربية و حتى أجنبية، مما يجعل توظيفها في نص قصير في المدة الأخيرة يدخل ضمن التكرار و عود على بدء، لكن “تركية” في نصها هذا استطاعت أن تغامر بصيغتي “المفاجأة و المباغتة” حين كان رشح قدسية الثورية على مجمل عواطفها يرقى إلى مشارف البوح الفني الذي تتقاطع فيه كثير من الأجناس الأدبية حتى أغرقته الإنشائية المبتكرة في المجموعة وسط عبق، بل أعباق الإنشائية الحلوة التي يتأبى التبرير لها غير التسليم بالانبهار و الإعجاب بها تحت غمر مثل هذه الصيغ التي تقول : “..مسلك جبلي تقطعه العنزات في خط عشوائي، تنط هنا و هناك كما لو كانت تتحرر من قيود الراعي التي يفرضها عليها بالعصا التي نحتها بسكينه الصغير لحظات عودة القطيع للتجمع.. ص 11”.
إن اللبوس العام للفقرة يخلق بدائل لصور جمالية عن فضاء غير معهود لدى القاري/المتلقي الذي في الغالب الأعم ما يكون محملا، بل و متخما، بمنظومة معرفية عن الفضاءات المدينية التي ولد و تربى و توظف و مات فيها، تلك البدائل التي تخلخل ، قدر المستطاع، المتوارث عنده في هذا الشأن.
و للعروج على البناء الحدث المركزي في النص نجد مبدعته تعتمد في الفقرات التالية، المباشرة للفقرة السابقة، أسلوب “القبس” في تقديمه مثل ” العصا طويلة بطول الراعي القصير ..ص 11″ و ” يضع وشاحا يغطي به وجهه..ص 11″ و “دورية عسكرية ..ص 11″، دون أن تصرح بأن “الراعي” زوج “عدلية” و دون أن تمنح تعريفا مستفيضا عن العسكر.
ثم بعد هاته الفقرات نجد حوارا بين “الراعي” و بين قائد هؤلاء العسكر الذي يسأله عن سبب الجرح البادي على وجهه، فيجيبه بأن مجموعة من قطاع الطرق ضربوه ليسرقوا منه القطيع، فيتساءل العسكري بينه و بين نفسه “..قطاع الطرق يضربون الراعي و لا يستولون على القطيع..؟.
و يستمر بناء أحداث هذا النص باعتماد أسلوب مجموعة من القبسات المقتضبة و المركزة مثل؛ “أحست بخطى تقترب منها و صوتا يناديها..ص 12″ و ” كانت تتبين صوت المنادي الذي لم تسمعه منذعام انقضى قمر الليل و الليث الذي يقف ببابها..ص 12″، يتهيأ للقارئ، من الوهلة الأولى الواشي بها النص، “أن هناك أسد ” يقف على باب “عدلية”، و لا نعرف بأن الواقف هو المجاهد ” خالها” إلا بعد فقرات تالية.
ثم حين التمعن في الفقرة التي تقول : “..العنزات في شطحات تعلن تمردها والزوج الراعي يمعن النظرفي شحذ السكين على الحجرة الصماء التي بيد زوجته ففهم الرسالة..ص 13″، نعثر على أحاءات و دلالات جمالية و راقية جدا لمضمون الفقرة و في صياغتها بهذه الأسلبة. ثم في التي تليها : “..لقد أضاع هذا المعتوه جديا صغيرا و أمه العنزة في جلبة لفقد صغيرها..ص 13″، ثم في :”..ينفلت الكلب من يده و يشم الحفرة و يكثر من النباح فيأمر عساكره بالحفر فيجدون بقايا الجدي المفقود..ص14″، ثم : “..كأنما يقتلع بذرة طاهرة من موضع غير موضعها، عدلية طاهرة تموت على كتفي على أن ينكل بها، كان يركض و يبحث عن مكان آمن لها حتى تلفظ الشهادة…ص 15”.
ليخلص كل قارئ/متلق لهذه ببناء صورة افتراضية من تلقاء نفسه و تحت مرجعيته المعرفية/الثقافية عن ثورة التحرير المجيدة. و في ذلك أجد جدة في الخطاب الأدبي السردي عن هذه الثورة يخالف ما كان قبل ذلك، حين كان منشؤوا النصوص السرديةعن ثورة التحرير يطنبون في تقديم الجزئيات و يملون كل أحداثها على القارئ/المتلقي.
2 ـ خطأ في الوجهة :
يقدم هذا النص واقعة تحت مجهر الاكتناز التجاربي للمنشئة “تركية” في ما يمكن تلخيصه في يلي: “… “بدري” المتقاعد من وظيفة ساعي البريد و هو يتلقى دعوة لحضور لقاء مع أصدقاء في فندق إحدى القرى النائية و المفرغة من ساكنيها منذ العشرية السوداء، و هو في طريقه يصادف فتاة سرق لصوص سيارتها و كبلوها، و تحدث المفاجأة أن “بدري” بعد أن وصل إلى الفندق لم يجد فيه أحدا حتى صباح اليوم التالي الذي قال له موظف الاستقبال لقد تأخرت كثيرا فقد غادر الجميع، و بعد أن يستفسر عن هؤلاء الجميع يخبره بأنها زوجته “ميليسا ” الأجنبية مع فتاة تناديها أمي، و بعد خروجهم من الفندق يلاحظان السيارة المسروقة للفتاة، فيعترضها السائق ليجد فيها “ميليسا” و الفتاة، لنعرف بعد ذلك أن “ميليسا” جاءت بالفتاة التي معها لتعرفها على أبيه “بدري”.
و تأبى المنشئة “تركية” إلا ان تعاكس الأسلبة الكلاسيكية في تقديم حيثيات النص، و تلجأ إلى أسلوب “عبق” في تقديم سردانيته وفق نسج لساني تتلخصها الفقرات التالية:ـ
ـ “..كانت دعوة لحضور لقاء قد يدوم أسبوعا مع الأصدقاء القدامى في فندق شهد مشاكساتهم بالنسوة اللواتي كن يترددن على هذه القرية الصغيرة…ص26”.
ـ “..ثلاثة أصدقاء لا يزالون على قيد الحياة و بدري رابعهم…ص27”.
ـ “..الطريق لا تزال ضيقة و صعبة لكثرة المنعرجات، أصبت بالدوار و الغثيان، طلبت من السائق التوقف حتى أفرغ ما في جوفي…ص27”.
ـ “..و لكن لماذا تعود لمثل هذا المكان الذي هجره ساكنوه منذ عشرية دامية.. ص27” .
ـ “..كنت أتردد على هذا المكان في شبابي و التقيت زوجتي و كانت من دولة أخرى و علمتها لغتي فتحدثتها و كتبتها..ص 28”.
ـ “..البنت و قد جف دمعها من مقلتيها تلمح بصيص أمل الأمل لحياة باقية ..ص28”
ـ “..يسألها عن خطبها فترد أنها أخطأت الجهة و هي باحثة و قد سرقت سيارتها..ص28”.
ـ ” ..و كنت ساعي بريد وعملت لسنتبين وكنت أنقل الرسائل للنزلاء و من بينهم كانت زوجتي “ميليسا” التي لم تنجب مني زتحترمت قرارها و هجرت البيت لشجار دب بيننا ثم سمعت أنها سافرت لبلدها و ماتت هناك…ص29″.
ـ “.. بدري أحضر في الحين دفتر الماضي أحببتني، أليس كذلك، ثم هجرتني، و رفضت الإنجاب مني ثم اختفيت و أعلن رفيقك خبر موتك في بلدك و أنت حية ترزقين في حضن أخر، الخيانة أثمرت بنتا جميلة مثل أمها..ص31”.
“..أنت من أقدم على خيانتي مع رفيقتي ذات يوم و كانت حاملا و أنا كنت حاملا أيضا و ماتت رفيقتي و دعةت إبنتها حتى ترى والدها و ترى أختها و حتى تراني لأخبرها أن أمها كانت خائنة و أنها ثمرة الخيان
و أين هي ابنتي الأخرى؟
هاهي أمامك صارت باحثة و وجهت لها دعوة كما دعوتك أيضا لهذا اللقاء المقرف…ص31″.
ـ “..تقترب الباحثة من الآنسة و تستعيد منها مفتاح السيارة و ينطلق السباق بينهما بينما يبقى العجوزان يتقاذفان تهم الخيانة..ص 32”.
و هي الفقرة التي أغلقت أقواس و مفاصيل القصة التي وجدتها كأنها ترمز إلى ذلك الخلل الذي يسكن العمر الشبابي فيورطه في مغامرات عاطفية و علاقات جنسية تعود بالضرر و بالخسران على عواقب العمر.
و بهذه الفقرة تؤكد عبق الإنشاء الذي ارتضته “تركية ” لمثل ذلك الخلل، و هو العبق الذي استطاع، بدون شك، أن يلمز إلى تقاطعات و إلى فضاءات جمالية في أسلبته؛ من حيث اختيار الكلمات و الصيغ الأسلوبية وسط زخم من الفراغات بسبب إبعاد حروف العطف و علامات الاستفهام و التعجب، و كذا إلى إستحضار الرغبة التأويلية في المضمون العام لأحداثه و لوقائعه لدى كل متلق له، مما يسهل إلى إمكانية افتراض نهايات و تقلبات لصياغات أخرى داخل النص المنشأ، هذا الافتراض قد يجعل للنص ذرية و خلفا له لدى كل قراءة محددة في زمنية دقيقة.
كل ذلك، زيادة على أن مضمون المنشأ من “تركية” أو المستخرج من تأويل القارئ له نجده منتزعا من واقع مبتلى بها المجتمع الإنساني قاطبة، و كذا من نزوعات بعض النماذج في فضائين العربي و الجزائري، هذا الفضاء المنتج لنماذج بشرية تنزع، في عمرها الشبابي، نحو التزوج بالأجنبيات لمقاصد مختلفة و متعددة، ثم يكتشف بعد فوات الأوان، الشيخوخة، أن كل ما ابتغاه و كل ما عمل من أجله قد بات معوجا و مخجلا.
كما لا يخفى في النص تلك الإشارة الدقيقة و الذكية جدا إلى الفترة الدامية التي مرت بها الجزائر، و ذلك بفضا اعتمادها أسلوبي الاقتضاب و القبس حين وصفها لحال القرية، التي يمكن أن نفهمها على حقيقة لفظها “القرية الجزائرية” كـ “الفايجة” مثلا، كما يمكننا أن نحيل لفظ “القرية” على المعطيات الرمزية التي يمكن أن يقصد بها “الجزائر” التي تحولت من صفتها “المدينية” إلى “فضاء متعب و متخلف” كذلك الذي تتوفر عليه “القرية”، و دليل ذلك وجود “الفندق” فيها، لما نعرف من أنه يصعب جدا أن يبنى “فندق” في قرية منعزلة كتلك التي وصفها النص لعدم جدواه.
و زيادة على كل ذلك أن متأكد من أن النص يبقى محملا بكثير من المخرجات الجمالية و الموضوعاتية التي قد نعثر عليها خلال توظيفنا لمناهج نقدية تخدم التجلي التجديدي في كل ما أثثته به منشئته، و التي لا تفيها حقها مثل هذه الأسطر.
3 ـ عبود لا يتحمل السوط:
إن إحداثيات نص “عبود…” المكتنزة معالمه في خبايا ذاكرة منشئته نجدها تتخلص في الأسطر التالية:”..الشخصية المركزية في النص لاحظت شخصا، أو أحبته، أو تعرفت عليه، متأزم في سلوكه و تنتابه طموحات مبالغ فيها؛ محب للمال، متسامح مع شرفه، و متسابق نحو مشتهياته و غرائزه، و رغبة منه في اشباع كل ذلك كان لايتواني عن النزول إلى أدني في سلوكه، و حيال ذلك لم تجد”كاتبة النص” بدا من إعادة ترتيب سلوكه و التصحيح من سلوكه، فكتبت نصا مسرحيا و قدمته على الركح في حضور ذلك الشخص، للتتداخل إثر ذلك أحداث قصصية و أخرى في أسلوب سيناريو مسرحي، أحداث زاوجت فيها بين شخوص القصة ممثلة في الكاتبة و في الشخص المتأزم و شخوص مسرحية ممثلة في الراقصة و في الممثل الذي جعلته اللقطة المسرحية يجلد بسوط و الدم يسيل من جسمه و هو يتألم و يعاني من الجراح التي ترقص عليها راقصة اللقطة بدون شفقة و لا رحمة.
و تتأزم الأحداث مع تعقد العرض المسرحي الذي كانت تتكشف فيه و منه نقائص “عبود” و مخفيات نفسه، حتى تصل بنية السلوك و الطموح لدىه إلى نقطة إعادة تشكيل وعي جديد لديه رامزا لكل ذلك بإهدائه قلمه للقاصة..ص 51 ـ 55″.
أما “تركية” فأجدها و قد تسلقت إلى أعلى شرفة ابتغتها لتتابع عن قرب كل صغيرة و كل جزء و لتقدم له و عنه أنسب أسلبة إن على مستوى اللسان/اللغة أو على مستوى المضمون من خلال اللمح التي جعلتها ناصية القصة كلها بدء بـ :ـ
ـ “..بدت له و هي على المنبر روحا من حياة سابققة…ص 51”
ـ “..يد تسللت فالتفتت و شعرت كما لو أنها على حافة المنحدر لم تكن متمسكة ولا صلبة بالمكان..ص 51”.
ـ تخط سطرا على الاكتشاف و ركوب المخاطرة، تبتسم و هي ترتشف قهوتها، بدا لها توأم الروح و قد أتى بعد طول انتظار…ص51″.
ـ ..وتجدد اللقاء، كانت تراه شخصية ورقية بامتياز…كان مشروعا لمسرحية جديدة، زير النساء سيلقى جزاءه على الورق..ص 52″.
ـ “..أول من غيرت خارطته و محت و أضافت على رقعته التاريخية و نصبته ملكا على عرش قلبها و أسمته “عبود” و كانت كنيته..ص 52″.
ـ “..قالت عبود هذا يقومه السوط..ص 53”.
ـ أعلم أنك جميل، و لكن حتى لا تقترب منك الأخريات..ص 53″.
ـ “..لا تمانع و يحق للراقصة الآن أن ترقص على جراحك..ص53”.
ـ “..كان يدافع عن بطل المسرحية دفاع عن نفسه…ص55”.
ـ تستخدمين قلمك لترويضي إذن…ص 55″.
ـ “..و لكن العالم لا يعرف عبودا واحدا، هم كثر في هذه البسيطة..ص55”.
ـ ثم ينسل السياق التالي:”..وجدنا المشي ليلا في سكون و الطريق طويلة، جعلت حرب الفكرة تضع أوزارها و نقتطع بعض اللحظات الصادقة، كانت تهنئة من نوع خاص و أهداني قلمه حتى استمر..ص 55″ ليحيل على أفواج من الدلالات و الإحالات الحمالة لعدد لا يحصى من الأقوال و الأفكار المتعددة مرتبطة بكلمات محددة هي “المشي ليلا” و “الطريق طويلة” و ” حرب الفكرة” و “اللحظات الصادقة” و ” تهنئة من نوع خاص” و ” أهداني قلمه” ، و هي الصيغ و التراكب و المفردات التي أجدها، في هذا السياق، لا تدل على معنى واحد محدد ودقيق، بل حمالة أوجه.
و ذلك ما يجعلني أقول: طبعا، وجدت طرح كل مضامين مجموعة “عبود لا يتحمل السوط” مسألة غاية في الأهمية من حيث المضمون الذي نجد أمثلة من النماذج له في المجتمع، لكن ما عبق ـ بتشديد الباء ـ مشاهد المضمون هو تلك المسافة التي جعلتها “تركية” بين مدونات النص الثلاثة، و ربما لكل مجموعة المدونة؛ـ
ـ التجرية المعيشية، و التي أعني بها تلك اللمح و الإحالات التي نكتنزها من مسيرتنا الوجودية تارة صدفة و أخرى إمعانا عبر علاقاتنا مع نماذج هذه المسيرة.
ـ رشح مشارف النصوص السردية التي قرأتها، بدون شك، منشئة نص “عبود…” و التي رشتها بإغواء ما للكتابة في مثل هذا المضمون.
ـ إغواء عبق إبراز ذلك التعانق السرمدي بين توائمه؛ المسرحية في مسحتها التراجيدية/الهوميرسية، القصة القصيرة في تكتلات الألسن و في إزاحة وشائح سواتر الرعب و الخوف/الجيدي مونباسانية.
أتصور بأن هذا الثلاثي هو الذي بنى توجها جديدا في إنشاءات النصوص السردية لدى “تركية”، هذا التوجه الذي يتلخص في صقل رأس مدببة وحادة لأسطرة الحكي/القص ضمن منظوراتها السردية التي تبدوا و كأنها الهم الأول الذي تتحمل وزره، و لعلي أجد تأكيد ذلك في وافقت على نشره المنشئة في الغلاف الخارجي الأخير للمجموعة: “..تركية لوصيف كاتبة جزائرية من ولاية المدية. صدر لها ـ منتزه فرجينيا “رواية قصيرة”
ـ أسطورة سنجابي ” رواية قصيرة” ..”، وذلك حتى نعرف بأن مسألة “القصر” رؤية استراتيجية في إنشاءاتها الفنية.
و حين أعتقد ذلك، كأني أجد “تركية” قد عانقت و تمرغت وسط عنفوان الاختصار/ اللمع/القبس، مصطلحات يضطر عاشقها إلى الشد بقوة/فنية و روعة على أسلوب “المشهدية” التي تزاوج ما بين المتخيل و ما بين الممارس فعليا و وجوديا.
و حينئذ، يحق لي القول: بأن “تركية” عرفت كيف ترتشف من معين العمل الإعلامي الذي من يتمايز عن غيره من الخطابات بالبسالة والاجتهاد في الوصول إلى أعلى هرم في سلوكات الإنسان و يتنمر مع خلاياه العاطفية و الغرائزية لينشئ المعجب و المبهر من الخطابات و ليشرح المسكوت عنها حتى يسرق من المتلقي، رغما عنه، تصفيحا رجاليا أو زغرودة نسوية.
كما يمكن أن يقال الكثير عن بقية قصص المجموعة من طرف الكثيرين حين الوقوف عندها بالقراءة أو بالدراسة و التحليل.
و أخيرا أؤكد على أني وجدت بصمات تجديدية جميلة في هذه المجموعة، و لا يسعني في ختام هذه القراءة المتواضعة إلا التمنيات لـلمنشئة “تركية لوصيف” بمزيد من الإنشاءات الجميلة.