ضم إصدار الأديبة جهاد الجفري، “أين أبي؟” الصادر عن مؤسسة بتانة 2019 بالقاهرة. ما يقارب المائتين صفحة، وزعت على 34 فصل بعناوين مختلفة.
على غلاف الإصدار جنّست الكاتبة عملها بـ “الرواية” وعلى الصفحة الداخلية أضافت إلى تجنيس الرواية “لوحات سردية”, الشيء الذي يذكرنا بإصدار للأديب المصري عبدالفتاح صبير، عنوانها “دخول” مضيفا تحت العنوان “لوحات روائية”. وفي كلا العملين نجد سردا حقيقيا، وما يهمنا هنا هو المضمون, وبالمقارنة بين صبري وجهاد نجد أن اصدار صبري ضم مجموعة قصص قصيرة يمكن أن يقرأ كل نص كنص مكتمل، ومن ناحية أخرى يمكن قرائتها ضمن متتالية سردية، لاشتراكها في أكثر من عنصر موضوعي وفني.
في حالة “جهاد” وما تضمنه المتن هو من فن السيرة، إذ ضم العمل 34 فصل، متصلة ببعضها من خلال سيرة نفس الشخصيات، وكذلك تحمل قضية اختطاف رب الأسرة. يمكن أن نقول، أنها سيرة يخالطها الخيال. أي بمعنى سيرة روائية، أي أخذت من الخيال ما يحسب لفن الروائية، ومن الواقع ما يحسب على فن السيرة، وهو ما يتضح من خلال الأسماء لأفراد أسرة حقيقة، وأمكنة ووقائع حقيقية.
نبتعد عن التجنيس إلى أن نعرج على العمل موضوعيا وفنيا. إذ تجلت قدرة الكاتبة على حكي أحداث متسلسلة وذات صلة من بداية العمل حتى آخر كلمة، سبك تلك الأحداث بشخصياتها ضمن لوحات سردية متجانسة، في سياقات مشوقة، وإن غلب على تلك الشخصيات التسطيح. إذ أن الكاتبة لم تأتي بأي شخصية مركبة، فمن بدأ طيبا أو طيبة انتهى أو أنتهت كما بدأ أو بدأت، ومن بدأ شريرا أنتهى شريرا، ظلت تلك الشخصيات بميزاتها إلى آخر فصل إلا من تغير طفيف في بعضها. وما جاء في سمات الشخصيات قد تكون لطبيعة سرد السيرة وحساسية ذكر ما ينافي كونها تتحدث عن أسرة هي الشخصية الرئيسية والرواية، وإن نافسها الأب بحضوره القوي رغم غيابه، ثم الأم حتى وفاتها.
هناك الكثير من السير التي تتسم بالتقريرية، خاصة تلك السير التي يعتمد كاتبها أو كاتبتها على الوقائع دون إضافة أو تجميل. كونه يرصد حياة بسلبيتها وايجابيتها، بهفواتها وصوابها، دون الانتصار أو الميل أو ذكر مالم يحدث أو يخفي ما قد حدث. متتبعا حياة تلك الشخصيات دون المروق عن مساقها.
المكان في هذا العمل لم يكن محدودا، فقد جسدت الكاتبة تفاصيل دقيقة لأحياء عدن وأسواقها وشوارعها وميادينها، لتظهر المدينة كعنقود لمدن تتكون منها المدينة، كذلك سلطت الضوء على نسيجها الاجتماعي المتسامح والمتعاون. فضاء مكاني أثثته بمشاعر دافئة، وحنين نحو الأمان المفقود، إذ تجلى بذلك المزيج المتعايش، وكأنها ليست إلا لوحة ضمت الوانا من بشر أتوا من أصقاع الأرض، يعيشون في تناغم جميل. وكذلك صنعاء بشوارعها وأحيائها، إلى أنحاء بقاع من الوطن حتى سقطرة. يقابله ذلك القبح اللا إنسانيي، من ملاحقات وخطف وتعذيب لكل من يخالف الحزب. ما يذكرنا برواية أحمد زين “فاكهة للغربان” ذلك العمل الذي عرى النظام الإشتراكي في عدن، وصورهم كعصابات لا يهمهم الحفاظ على الأعراض أو أموال المجتمع، ولا يتورعون عن سفك الدماء. يأتي عمل جهاد أكثر تفصيلا لجرائم باسم العدالة والمساواة. نواة المأساة أب يخالفهم الرأي، يُختطف، ويخفى ليفر الابن خوفا خارج الوطن، ويظل أفراد الأسرة يتمسكون بخيوط أمل واه. تأتيهم الأخبار بين فينة وآخر عن وجودالأب هنا أو هناك. لكن الحقيقة المرة تأتي في نهاية هذا العمل الملحمي:”لم يطلقوا عليه الرصاص، لكنهم رموه، رموه من فوق عمارة في المعلا…”. لتدرك جهاد أنها وأمها وأخوتها كانوا يعيشون كل تلك السنوات على أمل أن يعود ربان أسرتهم، بينما كان قد صفي بعد اختطافه مباشرة، أو بسنوات.
ليست هذه سيرة شهيد، أو حكاية أسرة، إنما هي سيرة لوطن متخم بالمرارة والألم، وطن عاش على زيف الشعارات أحلك سنواته بعد احتلال بريطاني كان أجمل ما فيه الحرية والتطور والمساواة والعدالة، التي أفتقدها الشعب في عصر من أدعوا الاشتراكية زيفا، وبدلا من لعن فترة الاستعمار صار الشعب يلعن عصابات حكمت بالحديد والنار، وتعميم الفقر إلا منهم، حين تفضحهم تخمة الأموال بعد فرارهم، وفرارهم وأسرهم لينعموا بحياة المليونيرات.
الكاتبة نسجت سيرة أفراد أسرتها بخيوط من ضوء، لتضيف بتوثيق مأساة والدها الكثير من الضوء على آلاف دفنوا أحياء وشردوا في جزر نائية، بعد أن حولها النظام إلى سجون ومنافي مفتوحة، يعيش المنفيون في العراء حتى الموت.
قد نختلف في تجنيس هذا العمل، لكننا نتفق على أنه ملحمة أمل وإن خاب، وثيقة تجرم وحوش بشيرة أدعوا العدالة والسلام والعلم، بينما عملوا على نشر الخوف والرعب والمناطقية التي تجلت في أحداث عدن 1986، حين كانت قوى مناطق معينه تصفي أبناء مناطق بالبطاقة. لتتجلى خيبة وصدمة كبيرة كانت نهاية عشرات الألاف قتلا دون محاكم، أو تشريد الآلاف من منازلهم وقراهم. وهكذا كان في شمال اليمن ولا يزال، وكأن هذا الوطن كتبت أقداره مع عصابات ذات إيدلوجيات ضد طبيعة الحياة.
هي تحية لعمل سردي مدهش ولشجاعة كاتبة ترفض لي عنق التاريخ.