عرفت الغربي عمران ككاتب رائع من خلال رواياته: حصن الزيدي ومسامرة الموتى، ومنذ فترة عرفته كناقد ممتاز، فوجدته يتحدث عن روايتي “يناديها روح” بصورة نقدية مستفيضة، ثم قرأت نقده للقصة القصيرة جدًا للكاتب منير عتيبة، ورأيه لبعض النقاد عن أن النقد لابد وأن يكون بناء وليس بهدام، فأدركت أنه أمسك عصا الإبداع كتابة ونقدًا من منتصفها بإحكام..
يقول الغربي في مسامرة الموتى:
“ويالدهشتي حين كان حضورك يزداد كلما أمعنت في الغياب …. أشتم رائحة آمنت بأنها لك.. هكذا تخيلت لك رائحة…… حتى كلمات أضحت شبيهة بكلماتك.. فهل يا ترى هل ما أكتب هي كلماتك أم كلماتي؟!”.
للكاتب لغة شاعرة شفافة مثل ما ذكره في مسامرة الموتى مثل:
“انقضى وقت حتى ظهرت غلالة ساحرة.. نجيمات نسيها الليل”
“كنت قلقًا فبددتهِ.. كنت حزينًا فأزلتهِ”
” حتى أني لم أرفع ناظري للأفق الذي ظل يتساءل حول ما يشغلني”
وفي حصن الزيدي:
“كان صوت زهرة رقيقا حين تغني وقد حكت لها العجوز الضريرة التي شكت بأنها جدتها.. انها احبت عازفا للناي.. وحينما اشترى هارون نايا وأصبح عازفا له قلت في نفسي هل يلتقيا ثانية لتتكرر حكاية أجدادها؟”
كما أن لديه مفردات دينية تتتبل لله عز وجل في وجل ودعة وخضوع مثل:
“الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون، ولا يحصي نعماءه العادون، ولا يؤدي حقه المجتهدون”
لم يبتلِ أولياءه بما ابتلاهم تعنتًا ولا هضمًا.. بل اختبارًا””
يكتب الغربي عمران التاريخ القديم قارئًا جيدًا للتاريخ الحديث فنجد الكلمات تتضمن كلاهما لمن يعي ويقرأ، ففي مسامرة الموتى يقول
كما يقول بضعة أسطر تستحق أن تقرأ مرات ومرات، يقول الكاتب على لسان الملكة أروى مثل:
“ظلت نهاية ابن نجيب الدولة وتلك التقلبات تقودني لتلمس أسباب عنجهيتنا حين نمتلك القوة.. وتمردنا على السلوك القويم حين تزايد السلطة بين يدينا”.
“”لماذا يميل السلطان إلى أكثر الناس طاعة وخضوعًا؟
..”وما تؤكده أحداث التاريخ هو أن العوام وقود الرب الحاكم، حطب تلتهمهم نيران الدعوات”
وفي حصن الزيدي في بداية الرواية ورغم الحديث عن البنادق كأسلحة اعتقدت ان زمن الرواية يعود لقرن مضى أو أكثر حيث القبلية وروح الثأر والانتقام والاقطاعيات والعرقية الدينية
ثم وجدت الشيخ مرداس يطلق اسم جمال على ابنه تيمنا وحبا في الرئيس المصري جمال.. فصدمت حقا فالزمن لا يعد بعيدا
والرواية حتى وإن كانت محض خيال إلا أن هناك دوما روح من الحقيقة يكمن فيها..
وحينما كتب الأديب عن روايتي “يناديها روح” قال لي:
“خلقت لتكتبي، أكتبي وأكتبي واكتبي”
“لست بناقد، بل كائن شغوف بالقراءة”
“لفت انتباهي طريقة “تقنية” حضرتك، المتمثلة بتلك النقلات السريعة، في الجزء الواحد، من موضوع إلى آخر، أو من حكاية شخصية ثانوية، كمريم وصفاء، حيث أتيت بهن في فقرات مكثفة لتقريب كل شخصية من القارئ. وعديد حالات إنسانية ممن كانوا يلجأن لسامي، من خلال عمله كطبيب، ما يمنح القارء بتلك النقلات بين المواضيع، وتلك الحكايات سلاسة وتشويق”.
وفي نقاش جرى بيننا عن بعض النقاد قال لي:
“أسلوب بعض المداخلين لم يكن في مستوى روعة العمل. تعجبت وقد تحول إلى قاضي، أو موجه لطلاب في قاعة الدرس: كان يجب أن تفعلي كذا، ولا تفعلي كذا، وكان عليك ألا تكتبين كذا.. إلى آخر تلك الأوامر التي ذكرني أسلوبه بخطيب الجمعة. حتى ظننت أن الرواية غير جيدة.
أما عن نقده الأخير للقصة القصيرة جدًا لمنير عتيبة والذي كان بعنوان” أرواح عتيبة” فقد ذكر في حديثه عن مجموعة أرواح أخرى:
الإهداء”
“إليها
لعلها تجيء..
أو تدعوني إليها.
منير”.
ست كلمات عائمة على تخوم المعنى، يبرز الشد والجذب، وفيها الإيهام والإبهام والغموض، إهداء غير تقليدي، لا يشابه تلك الاهداءات: لوطني، لزوجتي، لمعلمي، لأبي، لأمي، للحبيبة. بل هذا يشمل كل ذلك في فرادته. كما هي نصوص المجموعة تختال بروعتها وكأني أسمعها تتحاور فيما بينها، إحداها تهمس ضاحكة: انا الأكثر إبهاما، بل أنا الباعثة على التبسم، لا أنا أكثركن بوحا، لا أنا الأعمق ….
كقارئ أرى كل نص يمتاز بجماليات بنائه وتعدد أوجه دلالته. ما يضاعف متعة التأمل والاستبطان، ومن نص إلى الذي بعده، طلبا مضاعفة المتعة وفسحة من التفكير والتحليل، ومزيدا من الإدهاش.
وبعدما وضعت بين أيديكم قصاصات لكتابات الأديب أترك لكم الحكم وقبول رأيي أن إبداعه جاءنا كتابة ونقدًا وأتمنى له الاستمرار فيهما سويًا..