أفتشُ وبسريّة
عن دواءٍ ناجعٍ للعصافير
التي أصيبتْ بالصممِ فجأةً
لحظةَ مرّتْ فوقَ أعشاشها
طبولُ الحرب ِ
كي تتناولَ إفطارها بهدوءٍ
على سطحِ الدارْ
– رياض ناصر نوري-
ان الشعر والنقد مكتملان للبعض في سبيل انجاح عملية الانتاج عند الشاعر، اذ ان الكم الهائل من الانتاج الشعري اليومي بحاجة الی قراءات متأنية ومعاصرة لسبر أغوارها والقيام ببناء جسر الوصل بين الشاعر والمتلقي، خاصة في زمن هيمنة الحاسوب و الثورة التقنية السريعة و انتشار المواقع التواصل الاجتماعي بين أيدي الناس في شتى ارجاء المعمورة، وليس المقصود هنا بالنقد مفهومه الكلاسيكي، اذ ان الفرق بين النقد و الإنتقاد واضح و بسيط وكما قيل فالنقد ” يحلل العمل الفني أو الأدبي ويركز على إيجابياته و سلبياته بينما الإنتقاد لا يركز سوى على السلبيات وهذا طبعا مرفوض في مجال النقد”، ناهيك عن ان النقد الحديث يستفيد من نظريات أدبية و علمية حديثة شتى و قد تخطى تلك القوالب الاسمنتية التي وضعتها القراءات التقليدية من القيام بالتحليل حسب الذوق فقط ثم الحكم عليها، اذ ان هنالك عوامل متداخلة شتی توءثر في النص و تنشط نبضه و تغنيه ثم تساعد على ولادته سليما، بل سيشارك القاريء المعاصر مشاركة فعالة في كتابة الشعر عن طريق قدرة استيعابه و قراءاته المتنوعة للنصوص والاحاطة بأبعاده الدلالية و قيمها الجمالية.
لاشك ان معظم النصوص المنشورة على تلك المواقع الثقافية الجادة هي نصوص ابداعية بنوع من الأنواع و شکل من الأشكال، وهذا ما جعلنا نعتاد على تصفح نصوصه و متابعة شعرائه على مدار أيام الاسبوع، حيث يأتون بكل جديد و يسطرون أبياتهم من قلوب صادقة مليئة بالابداع والابتكار و الالهام و يتداولون مواضيع حية و بليغة نابعة من واقعنا المأساوي الشعري ، بحيث نحتاج احيانا الى الوقوف على نص ما لأيام عدة كي نستنبط من دلالاته القوية شيئا تروي ظمأ أنفسنا وتشعرنا بلذة روحية نادرة في لحظة خاصة ما. هنا سيكون بمقدور الشاعر التخطي نحو عالم الشهرة الايجابية دون ملل، هنا تحت هذا السقف المشترك نتقاسم همومنا و آمالنا و بلاغتنا من خلال خطاب النصوص و مكنوناتها، نتحدث مع الآخرين عن طريق الرموز والاستعارات و الاشارات والكيس يفهم مالم يقوله النص مباشرة.
يقول الشاعر الدنماركي المعاصر نيلس هاو : ” ان القصيدة الجيدة هي منحة، ولا داعي أبداً أن يتم إغتصاب الأفكار وكتابة قصائد بلا أدنى إحساس كما يفعل البعض، اذا القصيدة الجيدة هي غامضة!، لها حياتها الخاصة ، المستقلة بالطبع على مؤلفها، بمجرد كتابتها فإنها تنتمي إلى كل شخص، وهذا هو التحدي الأعظم لكل شاعر”.
بل احيانا يصل الشعر الی درجة يقوم بالعلاج النفسي لحالات الاكتئاب والارق الذي يصيب الانسان، و بمجرد اخراج ما خفي في النفس، سيشعر الشاعر بالهدوء و الطمأنينة، کمـا يمكن أن ينتقد الشعر الواقع من خلال صوره و يٶدي دور مقال صحفي ساخر بلغة فنية و جمالية، لكن من الصعب أن تملأ السياسة أو الصحافة مکان الشعر أو ان يقوم بدوره، علی سبيل المثال و کما تقول الشاعرة الجريئة والصحفية المتمكنة نداء يونس في مقطع شعري:
الحزن ابن الغانية هذا
عليك أن تدفع له إتاوه
كي لا يوقظ الألم الذي خدرته بالخداع
هنا نتسائل أنفسنا مع الشاعرة : من أين أتى مصطلح (إتاوه) الى داخل هذا الشعر وأکملت صورته البليغة اذا لم يكن موجودا على أرض الواقع أو في الواقع الاداري و السياسي المفروض الذي تعيشها الشاعرة! وكما نعلم جميعا بأن الرشاوي والاتاوات والمحسوبية وجهة قبيحة تمثل الفساد في المجتمعات المتآکلة، لكن من الجهة الاخرى و عن طريق هذا الانتقاد والسخرية تخدع الشاعرة النزعة الحزينة داخل الذات كي لا توقظ الالم من جديد، لأن الامور خرجت من تحت السيطرة و ظاهرة استعمال الاتاوات اصبحت نوعا من الروتين اليومي في مجالات الحياة المختلفة و مع ان الاصل في الكون هي النزاهة، لكننا نتعامل مع هذا الخطاب الشعري كثورة و حلا في نفس الوقت للواقع الفاسد الذي أدى الى شل كل حركة بناءة داخل المجتمع و قتل روح الوطنية في المواطنين و تسبب في خلق صدمات غير متوقعة عند الفرد الواعي و انتشار الاكتئاب والهموم بين الناس بحيث يجر البعض الی الانتحار..
في حين ان هذه الفئة الاصيلة من الشعراء لا يستطيعون ترك القراءة و لا القلم ، و يجدون فيها الانس و ضالتهم، حتى و ان يکن دفع ثمن هذه الكلمات والمواقف الانسانية الجريئة باهضا، کما يقول شاعرنا الفاضل عبد الغني المخلافي:
أكتب – يعني أنني أعيش
أنقطع – يعني
أنني أموت.
القراءة حبلي السري،
والكتابة رئتي،
ودونهما أفقد توازني
وهكذا نراقب مع الشاعرة نور الهدی الشعبان هذه الثورة الشعرية الطليعية التي تجمع بين الاصالة والابداع من جهة و أرسال الرسالة الشعرية الخالدة من جهة أخرى، وان الشاعر کما نعلم ککائن اجتماعي هو ابن بيئته لا يمکنه غض البصر عن ما يجري من حوله من تطورات و تقلبات و انعکاسات، بل هو يريد ان يكون لە يد الطولى و کلمة الفصل كي يترك بصمته على الاحداث و يكون شاهدا حيا للتأريخ و علی التأريخ بحذافيرها، وهم المثقفون الرواد الذين يوجهون و يقودون الجماهير نحو الافضل و ينبهونهم بمستقبلهم عن طريق تنبٶاتهم الصادقة و صدق مضامين كلماتهم، في زمن ظهور فوضى الخلاق عن طريق ايديولجيات تولد ميتة و عندئذ لا يكون لقهوتنا أي مذاق و طعم يذكر، لا اللون لون القهوة و لا الريحة ريحة القهوة الاصيلة، فأنتبهوا أيها الناس من العواصف القادمة و القساوة التي زرعت في قلوب الجلاوذة:
ايديولوجيا تخرج من ضلوعي الميتة،
راقصة تعزف الضوضاء
.
غجرية سرقت سمرة قهوتي
هجرت كواكب لغتي ..
ف ذاب سكر المأوى على جبهة الأعوام
.
السيل قادم ..
و الشتاء يقسو على الصباحات
المريضة
وهذا الحماس للشعر والتفاعل معە يجعلنا ان نبحر معا علی موجات كلمات شعرية جميلة و رقيقة لـ: سميرة عيد، للبحث عن ما فقدناه من الحرية والكرامة، عن بصيص أمل و ضوء ساطع ينير الصدور قبل الاوطان، نقتفي أثر بتلات وردة و نعطر أنفسنا بها، نتزين بجمال البراءة والصفاء الوجداني كي نسترجع دورنا الريادي بين الامم في عصر التفارقات والتناقضات الفظفاظة، هذا هو مبدء الشاعرة التي تسكن في اعماقها السكينة والحب والامل:
أبحر ُكما الحرّية باحثةً عن
أغنيات الشّمس في صدور
الورد، أقلّب بتلاتِها
وأسكنُها ، أستحمُّ بعطرها
وأوقظ بنشوتي الفصاحةَ
والبيانَ ،
أحاول ُ أن ألمس َبها
الزّمن. .. أعصر عمري،
أرسل فيه وجعي،
وأكتشفُ البراءة.
و ما تٶکده كلمات طالب هماش في الضياع والتيه الذي يراودنا من زمن ليس بقصير خير برهان على ما أسلفنا ذكره، مع ان هذه الرٶية ليست تشاٶما و انذارا بأيام نحسات، بل هذه هي حقيقة واقعة نستنبطه من واقعنا الأليم و الذي تحول فيه الثوابت الی متغيرات يتحکم بها المصالح و التفرق و الجهل و اللامبالاة، هذه ليست بحسرات الشاعر وحده، بل هي حصيلة مرة جعلت الابصار تعمى و غشيت الاخرى من جراء هول المأساة، وعن طريق استعمال دال البحر يستعير الشاعر هنا مفرداتە و صوره التعبيرية لأرسال رسالته المشفرة والتعبير عن ما وصل اليه من قراءات زمنه المعاصر الكئيب:
آهٍ من هذا البحرِ الضائعِ
أرخى كلَّ ضفائرهِ الزرقاءِ على عينيهِ
وغطَّ حزيناً ..
وأنا فوق الشاطىءِ أقرأُ في الأمواجِ
ضياعي وبقيَّةَ أعواميْ .
وهكذا تكمل سهام الدغاري الصورة لطالب هماش و تذكرنا بأصابع و أيادي و أرجل مبتورة، بمشاجب الاسلحة التي نحن بغنى عنها، نحن نريد القرطاسيـة والقلم و أدوات البناء كي نبني جمهورية الشعر السلمي وتفتح حضنها للجميع دون أي فارق عرقي أو مذهبي، وسنشارك مع الشاعرة انسانيتنا مع الجميع بالالفة و التعاون، حتى و ان لم نملك تلك اللحظات الجميلة في واقعنا الحياتي الا اننا نلتقي معها داخل عالم هذه القصيدة المليئة بالانفعال و الانشطار والانصهار، عالم جميل و بريء بعيد عن الدمار والطمع والوحشية، يا ليتهم فئة الساسة قرأوها و اتعضوا منها قبل ان تفوتنا فرصة العمر القصير دون ايجاد يوم سعيد :
أحاول أن أقبض على التقاويم بأصابعٍ مبتورة
وأن أفوز ولو بيوم واحد.
أعلقه على مشجب الذاكرة
أعنونه –بيوم سعيد–
كلنا نبحث عن هذا الوطن المفقود كي نعيد سعادتنا و هويتنا فيه، نستلهم و نسترد قوتنا المعنوية منه، هذا ما تبحث عنه حنان حمود مع سهام و طالب والآخرين، ليس الأوطان الملطخة بالدماء و السماسرة و السفاحين والمتاجرة و هدر الكرامة، تلك الاوطان المعوجة تسکن فينا، ونحن نريد ان نسكن في أوطان لها معنی تعيد الحق لأهله و يشعر الفرد فيه بالطمأنينة والالفة والمواطنة، كي نعيد مجرى التأريخ الی مصبه، هنا نشعر بأمس الحاجة الی ثورة معرفية لا مواقع فيها للكسول المتعجرف، الجاهل الذي يدافع عن الحق بلسانه و يقف ضده بسيفه، بالروح الايجابية نغلب السذاجة و الانانية و نوقف عملية هدر و بيع الاوطان للجبابرة الاعداء، فلنقل كلمتنا الفصل مع حنان و نبني وطنا لضياعنا، نوقد شمعة مضيئة بدلا من ان نلعن الظلام:
وطن نسكن فيه
ضاق ذرعاً لا تتململ
اصمتْ لا تُزعج الفاسدين
القانون يتمرمغ
^^^^
وطن نسكن فيه
امشِ حافي القدمين
دماء رخصت
تسيل على الطريق
^^^^
وطن نسكن فيه
لا تمتْ مرفوع الرأس
القبر لا يعنيه رأساً مرفوع
^^^^
وطن نسكن فيه
ثمار حلمك اقطفها
رغم فجاجتها
البيع في سوق النخّاسين
اذا لا نستجيب لنداء القدرو ولن نبحث عن الحقيقة و نضحي من اجله، فلا يكون مسقبلنا احسن من حاضرنا، هاهو الاستاذ زيد الطهراوي يلقي الضوء على استنتاج رهيب من خلال تجربته مع صديقه داخل مجتمعه، حيث نلاحظ في نثره اشارة خطيرة في القصة الحزينة التي يقصها علينا، عندما انعکس المعايير و اختلط الامور على الناس و تشتت أمرهم، حينها يتعامل القوم مع النزيه العادل بخشونة و عدم الاحترام و يرونه نشازا، بل يمكرون مكر الليل والنهار لجره الی مستنقع الرذائل والخبث ومن ثم اسقاطه والمشي به في طرق الاعوجاج الی ان يكون على شاکلتهم- عندئذ يسمونه فاضلا وقورا، فلن يأتي استاذنا زيد بهذا المثل من لاشيء، وانها ليست اساطير و كوابيس و خرافات و ضرب من خيال، بل مستمدة جذورها من واقع اليم يراه کشاعر متمرس بأم العين، اذا ما هو الحل؟ هنا يجاوبنا الشاعر: بأن تشخيص المرض يعتبر بمثابة نصف علاج، والنصف الباقي يبقی على الاكاديميين والمتخصصين و العقول النابغة التي تقود الامم المتحضرة الی آفاق الرقي والتألق ، ولكي نرجع المكانة للشاعر لنا ان نتسائل مع بهاء طاهر: “إن صح أن الشعراء هم ضمير الأمة ، فما مصير الأمة التى تنسى شعراءها؟” ويقول الاستاذ زيد في نصه:
في هذا المجتمع حين تنمو الأفكار السقيمة يصبح البريء شريراً و الخبيث خيِّرا
متى سيكفون عن محاربة البريء؟
و متى سينظف البريء ثيابه فيرجع بريئاً نظيفاً
قد نلتمس الأعذار لذلك الفتى الذي ضعف فغمس قلبه في الأوحال
و لكننا لن نلتمس الأعذار لمجتمع ينزع الطهر من قلوب أفراده نزعاً و إن لم ينزعوه فليس لصاحب الشهامة والمواقف الا الذل و البوار من عند ماكري الليل والنهار.
اذا هب الريح بما لا يشتهي السفن و لن نتحرك ساکنا و نقبل بفرض ارادة جنرالات الحرب علينا و كلنا نلقي باللوم على الاخر،هنا تحدث الطامة الكبرى وسنغرق جميعا في وحل الانقضاء و الذوبان، و يغرب نور الحياة عن بصائرنا و لا نرى الا سوادا، عندئذ ستنزعج الشاعرة المينا علي حسن منا، عندما تفقد روحها الحورية وذراعها الطير ووجها الغيمة وجسدها السماء، و تتفرد بوحدتها لأنها لا ترى احدا على شاکلتها أو تقف معها في نضالها الدءوب، فهي لا تجد احدا يشبهها في النقاء والصفاء والنزاهة حسب نصها، هذا ليس بيأس بل انما حقيقة مرة لن تحمد عقباها، و بلا ادنى شك لها اسبابها و مسبباتها، لكن الشاعرة هنا ليست بقائد أو رئيس تأمر و يطبق، بل هي كأنسانة ملهمة تحذر و تٶشر، ولو ان الكثير منا نشارکها في الرأي لكنها هي سباقة حينما ارادت و بجرئة شعرية أن تضع النقاط على الحروف، تنتقد و توصف حالنا بنقطة واقفة على منتصف صفحةٍ بلا سطور، وهكذا من منظور الشاعرة ستذهب الجهود هباء منثورا اذا لن نصغي الى صوت الضميـر الذي مازال حيا في جوف المخلصين و نسترد الحقوق من الطغاة و نشاركها مع المظلومين و يكون الضعيف فينا أعز الناس علينا: حينها ننعم بالرخاء والعدالة الاجتماعية:
لا أجدُ ما يشبهني
أُكرّر نفسي.
لا أفعل شيئاً
مثل نقطة واقفة على منتصف صفحةٍ بلا سطور.
لا ألتفتُ إلى الوراء
لا أنتظر مستقبلاً
ممتلئاً بالأحداث.
نحن في هذه الحياة محاربون
لا نقتني لأنفسنا شيئاً
سوى الذي يفرضه قائد الحرب.
منغمسون بما لا نحبّ
لي روح حورية
وذراع طير
ووجه غيمة
وجسد كالسماء.
ليس لي مكان إقامة
في الختام و بمعزل عن الخطاب الشعري أود أن أشير الی اللغة الفنية الراقية والتقنية العالية الجودة التي استعملتها الشاعرة المرموقة مها رستم في قصيدتها (حيرة) ولا أخفي اعجابي بهذه التحفة النادرة والجميلة، فهي لغة مبطنة داخل اللغة الظاهرة، وهي ذات معنى تٶدي بنا الی معاني عدة، وتنشطر على الدوام، ومفتاح يفك طلاسم شفيرات متعددة، هنا تعطي الشاعرة لغة للأشياء و مكونات الطبيعة كي تعبر عن ما تخالج في صدرها و هذه القصيدة بحاجة الى دراسة مطولة لأعطائها الحق، فالصباح والظل والجدار والعورة و…ليست الا اشارات و احالات الى اشخاص او ربما وقائع أو حالات نظمها و ألفها الشاعرة بأروع شكل تتناسب و تتجاذب کل کلمات فيه مع البعض لتكملة الصورة الاجمالية للمشهد الشعري هنا مع انها تراها من نافذة الحيرة و بشيء من الشكوك والاستغراب، لکنها کلها صور ابتكارية جذابة و نادرة و دلالات متينة و رصينة تحتاج الی من يفك شفيراتها، ليس من وسع و سعة كل شاعر الاتيان بهذا الجو المشحون بالمشاعر والصور المتجددة والتكاثف الايحائي، و في محاولة ناجحة هي اعطت صفات الانسان کالنظر للحزن و المعاندة للجدول، عيون للوقت، أذرع للظلم … وهذا يدل على مهارة الشاعرة و تنشيط قوة الخيال عندها لابتكار هذا المشهد الشعري واللوحة الفنية، من بين كل المصطلحات الشعرية المركبة والموجودة في متناول الجميع، وعلى نفس الشاكلة تأتي بتعابيرها التصويرية للجمادات والحيوانات بل تتجول في الكون الشاسع لأعطاء البيان قوة و جرعة اضافية الى المعنى والمقصود المكتوم داخل نفس الشاعرة، ونحن نمر بـ: وحل الاوجاع، أنياب الغبار، مضجع الهوی، حقائب الحنين، حراب المسافات، أحشاء أفراح، جوع الحيرة، قارعة ندم…الخ.
هنا للحيرة جسد و لغة، و هي ليست وحدها الحاضرة توجعها والماضي يشتتها ويبعثر ترتيب أفكارها بل تشارکها الرأي المينا علي حسن حين تقول: (مثل نقطة واقفة على منتصف صفحةٍ بلا سطور. لا ألتفتُ إلى الوراء. لا أنتظر مستقبلاً).. نعم هذا صحيح، فأن الدنيا بذاتها لها نغمة حزينة في أعماقها و لايمكن لأصحاب المشاعر الرقيقة والاحاسيس المرهفة تجنبها و هذا ما يٶكده فيدريكو غارسيا لوركا عندما يقول:
( آه يا لها من أحزان عميقةٍ لا يمكن تجنبها .. تلك الأصوات المتوجعة التي يغنيها الشعراء).
واليكم قصيدة مها بأكملها و التمتع بأستعاراتها ولا اعرف في النتيجة هل تتفقون مع ما ذهبت اليه أم لاء؟:
يهطل الصباح بنداه على رموش نافذتي الحيرة
تاركأ ظله عاريا
يبحث عن جدار مجنون
يستر عورة خيباته
أفكر لا أعلم بماذا أفكر ؟
بحل تآكلت مفاصل عقله
وهو يجادل ربوة حالمة
وجدول يعاند نهرا فيقع
مغشيا عليه عند منحدر الضوء
***
أحتار كيف ينام الحزن بعين واحدة
في عالم مقعر يهذي بضجيج بطون خاوية
تُحمَلُ على نعش الظل بكتفين ممزقي الأوتار
وألسنة الوعود تتزاحم في ظرف تلتهمه أنياب الغبار
شرود يقض مضجع الهوى
يتسلل خلسة عن عيون الوقت
يسلك دروب الامس التعيسة
يغوص في وحل الأوجاع
***
حيرة
تقض مضجع الصباح
كلما امتدت نحوه أذرع الظلم الآثمة
والداء يضيق الخناق على أرواحنا
التي تتخبط في عشواء شباكه أسيرة مسلوبة الفرح
***
حيرة أنا
كيف أحزم حقائب الحنين
وأمضي أمدّ أشرعة المبررات والمسوّغات الهزيلة
فتمزقها حراب المسافات المهملة
ولا أحظى بفتات لقاء
فأعود أتجرع الغصات
واحدة تلو الأخرى
وداء الفراق ينقض على مهجتي
ينهش أحشاء أفراحها
بأنيابه المدماة
وينهي ميلاد ذكرى
كانت بالأمس تتمختر بخاطري
وعطر حضورها يهيج حلو مشاعري
وأجنحة المنى ترفرف كلما ساقتك
ريح الصبا الى احضان مخيلتي
***
واليوم جوع الحيرة ينهشني
ويرميني جثة ممزقة الرؤى
على قارعة ندم يغوص
بأحلام الماضي
حتى الرمق الأخير من الفوضى
***
حيرة تمص خفقات أضلاعي وترميها في
يم وجع دون مقود أو طوق نجاة
متخم قلبي من ذرات هذه الحياة المتناثرة
وعيشها الهزيل يكفّن آمالي ويبتر أحلامي
بحفنة من صديد يحاول صد غائلتها المتآمرة
دون سلاح ولا حتى وتر
***
حيرة أنا
وسؤال مجنون ينخر في ذاكرتي
هل يموت الحلم رجما ؟
بموجة غضب حبلى بالأسى
كيف يموت وينتهي في القلب مولده
وفي الوجود عبق الياسمين ودفقه العاطر
وسنا الضياء يكحل ناظري
ورفيف أجنحة المنى
الوليد ينساب في عروقي
يضخ دمي
احتار في أمري
ربما أكون على مرمى سنبلة من الخير
ولكن الحاضر يوجعني
والماضي يشتتني
ويبعثر ترتيب أفكاري
ويأخذني بعيدا في سراديب
حكاياه الطينية البريئة
ويردني الى غدي اليتيم ..